موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٣٠ ابريل / نيسان ٢٠١٨
صناعة السلفية وحدود التطرف

حسن أبو هنية :

لا أحد يجادل اليوم بأن الفكر السلفي هو أحد أهم مكونات الظاهرة الإسلامية المعاصرة, كما أن الحركات والجماعات السلفية تتمتع بحضور كثيف وانتشار واسع وتأثير كبير داخل المجتمعات العربية والإسلامية, وتتسم الممارسة السلفية في دعوتها إلى العودة للنصوص الشرعية بكونها حركة إصلاحية تدعو إلى إحياء التراث دينا وثقافة ووجدانا, عن طريق العمل على استعادة الصورة الناصعة للدين وتطهيره من الممارسات التي عملت تاريخيا على تحريفه وتلوينه وتكييفه, وقد اتخذت الحركة السلفية أشكالا مختلفة ومتعددة تاريخيا, حيث ظهرت الحركة السلفية الوهابية في القرن الثامن عشر في الحجاز وتأسست على يد محمد بن عبد الوهاب, وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت الحركة السلفية الإصلاحية في مصر على يد نخبة من رجال الفكر الإصلاحي كمحمد عبده ورشيد رضا, وفي مطلع القرن العشرين ظهرت الحركة السلفية الوطنية في المغرب على يد مجموعة من الوطنيين كعلال الفاسي وغيره.

يمكن القول إن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت انحسارا واضحا لأتباع السلفية الإصلاحية والوطنية لمصلحة السلفية الوهابية التي اتخذت أشكالا متنوعة من السلفيات مثل السلفية الجهادية والطهرانية والسياسية والإحيائية, على الرغم من الجدال والسجال حول الهوية الفكرية والمرجعية الدينية للجهادية المعاصرة ومحاولة نزع شرعيّة استنادها إلى هوية سنية سلفية في سياق معركة الدعاية والحرب الإيديولوجية؛ إلا أن المرجعيات التي تستند إليها الجهادية العالمية لا تخرج عن ذات المرجعيات السنية، أكانت القراءة الجهاديّة لتلك المرجعيات حرفيّة أو انتقائية أو تأويلية؛ فالحركات والتنظيمات الإسلامية السياسية المعاصرة تعود في جذورها إلى مرجعية دينية تستند أساساً إلى المدرسة السلفية بتنويعاتها المختلفة، كما إنّ المنطلقات الفكرية للجهادية العالمية الراهنة ترتبط بتراث المدرسة السلفية بنسختها السعودية الوهابية، والمدرسة السلفية الحركية بترسيمتها الإخوانية القطبية، إذ ترتبط السلفية الجهادية المعاصرة ارتباطاً وثيقاً بتراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتطوراته اللاحقة، كما ترتبط بتراث الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبروز الجناح الراديكالي من الجماعة مع سيد قطب.

يرى المؤرخ الأميركي هنري لوزيير من جامعة نورث وسترن، في كتابه «صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين» والذي ترجمه مؤخرا إلى اللغة العربية أسامة عباس، وعمر بسيوني، وصدرعن دار ابن النديم، ورافد،أن المرء قد يظن غالبا أن الخطوة الأولى لتعريف السلفية هي أن نسأل «ما السلفية؟» غير أن هنري وبكل صراحة، يرى أن هذا السؤال هو سؤال خاطئ، إذا أردنا الوصول إلى جذور المشكلة، والسبب في ذلك بسيط، ذلك أن جميع الحجج تقريبا التي تُصاغ عادة للسؤال عن معنى السلفية متجذرة في مزاعم تاريخية، وهذه الحجج تميل بدورها إلى تحديد فهمنا للتاريخ الفكري الإسلامي وهيكلته، وحسب لوزيير فإن السلفية كيفما كان تعريفها تمثل غالبا أكثر من مجرد مصطلح وصفي؛ إذ أن هذا المصطلح بمثابة المنشور الذي يسمح للعلماء بتنظيم فوضى التاريخ؛ أي إقامة اتصالات أو انقطاعات بين الشخصيات التاريخية، وتقديم مخطط للتحقيب؛ فهي تجعل الماضي مقروءا، فبدلا من القبول بالسلفية كمعطى تاريخي واستخدام المصطلح كجهاز استدلالي لفهم الماضي، يقوم لوزيير بعكس ذلك، إذ يفحص العملية التاريخية التي صاغ من خلالها مختلف المفكرين مفهوم السلفية ودافعوا عنه، بالطرق التي نعتبرها الآن أمرا مفروغا منه.

تأتي أهمية كتاب لوزييرفي معالجته للمسائل الثلاث الرئيسية التي تشغل بال دارسي السلفية في الوقت الراهن، إذ يتناول أسس ومصادر العلاقة بين الاتجاهات المعاصرة المختلفة داخل الإطار السلفي العام، وفي مقدمتها أسباب تحول بعض السلفيين إلى العنف، وهذا يرتبط بمسألة المكونات المختلفة التي تجتمع لتشكّل «الحركة» السلفية المعاصرة، وخصوصا العلاقة بين السلفية والوهابية في المملكة العربية السعودية، فقد كشف تحدي تنظيم «الدولة الإسلامية «وتتطبيقات نظرية دولة خلافة الشريعة في مناطق سيطرته، أنها تستند إلى ذات الأحكام والممارسات التي كانت يطبقها الوهابيون، إذ تعتبر كتابات محمد بن عبد الوهاب وعلماء الدعوة النجدية المراجع الرئيسية في المناهج الدينية التي تدرس داخل نطاق حكامة تنظيم الدولة الإسلاميةكما شرح يعقوب أوليدورت في دراسته بعموان»داخل صف الخلافة: الكتب الدراسية والأدب التوجيهي وطرق التلقين الخاصة بتنظيم «الدولة الإسلامية».

في هذا السياق يعمل لوزيير على تتبع مسألة مسار السلفية الحديث، والتي بحد ذاتها تنقسم إلى سؤالين؛ الأول هو تقارب السلفية الحديثة مع التراث الحنبلي القروسطي لابن تيمية والوهابية التاريخية،وأما الثاني فيحيل إلى دور الإصلاحيين الإسلاميين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في تشكيل السلفية الحديثة، يقوم لوزيير بإعادة النظر في معنى السلفية ذلك أنه «بدلاً من قبول السلفية بوصفها معطى تاريخياً واستخدامها جهازاً إرشادياً لفهم الماضي واستيعابه، سأقوم بعكس ذلك. فسأفحص العملية التاريخية التي جاء من خلالها صياغة مختلف المفكّرين لمفهوم السلفية والدفاع عنه، بطرق نعتبرها الآن أمراً مفروغاً منه».

إن الهدف من هذا التحول المنهجي من التاريخ الفكري إلى المفاهيمي هو «تفكيك» الـ «سرديات القائمة حول السلفية التي استُخدمت من قبل مؤرخي السلفية والمؤلفين السلفيين وهي أسطورية بدرجات متفاوتة». ويقترح ثلاث حجج «بنّاءة» مقترحة بدلاً عنها: أولاً، إن مفهوم السلفية ظاهرة لا ترجع إلى فترة القرون الوسطى ولا حتى إلى أواخر القرن التاسع عشر، بل إلى القرن العشرين. ثانياً، لا يتضمن مفهوم السلفية النقائية رفضاً قاطعاً للتوفيق الديني بسبب الحاجة إلى وحدة الأمة خلال فترة الكفاح المناهض للاستعمار (من عشرينيات القرن الماضي إلى خمسينيات القرن الماضي). ثالثاً، المفهوم النقائي للسلفية أصبح مهيمناً خلال مرحلة ما بعد الاستقلال (عقب الحرب العالمية الثانية) في وقت فقدت فيه السلفية الحداثية جاذبيتها.

يشدد لوزيير على التمايز الهام بين مفهوم مذهب السلف الحديث وفكرة مذهب السلف في القرون الوسطى، ولا سيما في معرض الإشارة إلى العقيدة اللاهوتية الحنبلية (وخاصة لابن تيمية) التي دعت إلى الالتزام بمذاهب الأسلاف مقابل المواقف اللاهوتية التأملية لمدرستي الأشعري والمعتزلة. ثم يمضي في الادعاء بأن الحداثة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر لم تكن سلفية بالمعنى الحديث للمصطلح –أفغاني وعبده لم يستخدماه على الإطلاق، في حين أن العلماء العراقيين والسوريين الذين استخدموه بغزارة لم يحيدوا عن حقله الدلالي اللاهوتي التابع للقرون الوسطى. بدلاً من ذلك، فإن لوزيير يعزو بناء المفهوم الحديث للسلفية إلى خطأ استشراقي،فحسب لوزيير يعود ذلك إلى تأسيس المكتبة السلفية في القاهرة في عام 1909 من قبل اثنين من زملاء رضا، وتلا ذلك إصدار «المجلة السلفية» بين عامي 1917 و1919. وعلى الرغم من أن لقب «السلفية» قد اختير لأسباب تسويقية، عاكساً الشعبية المتنامية للتسمية، فإن لوزيير يجادل أن لويس ماسينيون وزملاءه في باريس وغيرها من الأماكن ظنّوها خطأ حركة إصلاحية واسعة تزعمها الأفغاني وعبده. فمن خلالهم بدأ مفهوم السلفية بالتداول في كل من الغرب والعالم الإسلامي منذ عشرينيات القرن الماضي.

إن نقطة انطلاق «صناعة السلفية» هي وجود سرديتين، أو مفهومين مختلفين للسلفية ومتعارضين، وحتى أنهما متناقضين، حسب مراجعة إسحاق وايزمان، فواحد منهما هو مفهوم السلفية الحداثية في أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، أما الآخر فهو النسخة النقائية المهيمنة اليوم. ويشرح لوزيير أن الأول يشير إلى أن الاصلاحيين الإسلاميين الذين «سعوا إلى التوفيق بين الإسلام وبين القيم الفكرية والسياسية والاجتماعية للتنوير»، و»أكّدوا على استخدام العقل لإظهار أن الإسلام كان متناغماً مع متطلبات العصر الحديث». ويُربط ذلك كالعادة بالثلاثي أفغاني، وعبده، ورضا، رغم أن بعض المؤرخين يسلط الضوء على مساهمة العلماء المسلمين من العراق وسوريا في بلورة السلفية الحداثية. والمفهوم الثاني أن السلفية النقائية التي تشير إلى هؤلاء مشغولي البال بالنقاء الديني، تدّعي أنها تتبع بدقة مذهب السلف بوصفه طريقة للخلاص، وترفض اللاهوت التأملي ومدارس القانون. ومع ذلك، وعلى الرغم من إنكاراتهم، فهم غالباً ما يتقيدون بالمدرسة الحنبلية كما عبر عنها ابن تيمية ويحملون ألفةً وثيقةً مع الوهابية.

يؤكد لوزيير على أن صناعة السلفية، مفهوماً وحركة، من سبعينيات القرن الماضي وعلى مدار القرن العشرين بصورة أعم من منظور التنوع داخل المعسكر السلفي، تبرز ثلاث ثغرات للرابطة السلفية-الإخوانية المسلمة-الوهابية التي ينبغي أن تُسدحسب إسحاق وايزمان، وهي؛ أولاً، على الرغم من حساسيته تجاه الناحية المفاهيمية، ورغم تكرار ظهور المملكة العربية السعودية في سرديته، يفشل لوزيير في توضيح ما إذا أصبحت الوهابية المعاصرة سلفية بالمعنى الحديث للمصطلح ومتى وإلى أي مدى. ثانياً، على الرغم من ملاحظته للعلاقات بين الإخوان المسلمين وأنصار السنة المحمدية في المشهد الفكري المتقلب لمصر الكولونيالية، وبالنظر إلى التعريف الذاتي للبنا لحركته على أنها دعوة سلفية قبل أي شيء، فهي لا تُعتبر على هذا النحو في أي مكان من الكتاب. وأخيراً، على الرغم من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين السلفية والإسلاموية، في الصياغة الراديكالية لقطب، يبقى نقاش لوزيير مقتصراً على السلفيين النقائيين. وفي اعتقادي أن دمج الوهابيين والإخوان المسلمين في التحليل، مع الأخذ بعين الاعتبار الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية والجهادية العالمية، سيعزز أكثر من فهمنا للظاهرة السلفية ودورها في تطور الإسلام الحديث.

(الرأي الأردنية)