موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٢ يوليو / تموز ٢٠١٩
شعور كاهن يقدّس في بيت عنيا

بغداد - الأب ألبير هشام نعّوم :

طلبَ مني أحد الآباء الكهنة قبل سنوات، في بداية خدمتي الكهنوتية، أن أكتبَ شعوري عندما أُقيمُ الذبيحةَ الإلهية في دار "بيت عنيا" للمعوقين والمرضى والمسنين ببغداد. فكتبتُ هذه الأسطر وقتئذٍ معبّرًا فيها عن خبرةٍ لا زالت فريدة في حياتي الكهنوتية. إنها خبرةُ مع الإنسانِ المريض والمعوق، وكم هي رائعةٌ هذه الخبرة التي لا يمنحها لنا سوى هذا الإنسان.

وإليكم الخبرة أنقلها لكم كما كتبتها قبل أكثر من عقدٍ من الزمن:

قداسٌ يختلف عن بقية القداديس، وهو بروعته يجعلنا نشعر بهذا الاختلاف، ابتداءً مني أنا الذي منحني الرب نعمة تقديس الخبز الخمر ليكونا جسده ودمه، ثم هؤلاء الناس الرائعين الذين قيّد المرضُ أجسادهم، ولكنه لم يقيد أرواحهم السعيدة، تلك السعادة التي تظهر في ابتسامة وجوههم فلا نستطيع نحن سوى أن نتعلم منها بكل تواضع أن الحياةَ رائعة لا بل رائعة جدًا.

أراهم جميعًا متحضّرين بالجسد والروح للاشتراك في هذا القداس، متأهبين لسماع كلمة الله التي يتعطشون إليها في كل لحظة، ينظرون من حولهم منتظرين دخول الكاهن ليبدأ لهم القداس بعد أن يحضّر التقادم ويرتبها على مذبحهم الصغير. وأحيانًا يشغلون هذا الوقت بتلاوة الوردية أو مديحة لأمنا العذراء مريم. وعلى الرغم من تشابك أصواتهم وعدم تنسيقها بسبب ضعف حاسة السمع لدى أغلبيتهم أو بسبب التلكؤ في التلفظ، إلا أن كل كلمة تسمعها بمفردها تعبّر عن المحبة العظيمة التي يحملونها في قلوبهم.

ويبدأ القداس لتجدهم يملأون كنيستهم الصغيرة بأصواتهم المملوءة بالرجاء والإيمان بالله الذي ليس لهم سواه، فيمتلئ المكان بشعور المحبة العظيمة التي تتدفق من قلوبهم وبكلمات الشكر والتمجيد لذاك الذي أنعم عليهم بالحياة. وأنا ومن معي نقف نتأمل في هذا الشكر والتمجيد الذي يقدمونه لله، علّنا نتعلّم منه ولو جزءً يسيرًا! وعندما يحين وقت قراءة الإنجيل، ترى الاندهاش على وجوههم كأنهم يسمعون النص الذي يُقرأ للمرة الأولى لأنهم يعيشونه كل يوم من جديد، وما أحلى الموعظة معهم! ما أحلاها، لأنها تمنح القوة والفرحة لمن يلقيها. فتعليقاتُ بعضهم البسيطة الصادقة النابعة من قلبٍ يعيشها، تجعل الصخر يتكسر، وصمت بعضهم الآخر يرافقه انتباه شديد يهزُّ الجبال. فشكرًا لك يا رب، لأن تزلزل حياتنا بواسطة هؤلاء البشر الرائعين.

وفي وقت السلام، يملأ السلام وجوههم قبل قلوبهم فيقبلونه ويمنحون سلامًا لا غشّ فيه ولا يعرف الخداع وكم نحنُ بحاجةٍ إلى هكذا سلام! وعندما يستمرّ القداس وتُقدّمُ الذبيحة يتمتمون بشفاهم كلمات القداس التي حفظوها عن ظهر قلب، هذا القلب الذي لا يعرف سوى الله ولا يدرك سوى نعمته عليهم.

وفي وقت التناول، يترك الكاهن مكانه من وراء المذبح لينزل إلى مذبحهم، كراسيهم المتحركة، ليناولهم القربان الذي يشتهون تناوله وينتظرون اللحظة التي يأخذونه فيها. وأخيرًا ينالون البركة برسم علامة الصليب بكل هدوء وتأنّي على أجسادهم المريضة ولكنها مليئة بالحياة.

إنها لحظات مختلفة عن كل لحظات حياتي التي أعيشها يوميًا وأنا أشكر الله عليها واستلهم إرادته منها وأصلّي من أجل من منحني إياها طالبًا لهم القوّة والعون لمواصلة هذه الرسالة الرائعة لكل العالم.