موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الثلاثاء، ١٥ مايو / أيار ٢٠١٨
سلبيات التكنولوجيا ’تقتل‘.. أمّا الروح ’فيُحيي‘!

أشخين ديمرجيان :

عالمنا اليوم مليء بالتكنولوجيّات التي تحسّن (تعزّز) حياتنا، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ منها، ومع فوائدها الكثيرة، لها عيوب أكثر ومنها: القدرة على تنمية ما يسمّى ب "القلق التكنولوجيّ". هذا القلق لا يمتّ للتكنوفوبيا technophobia بصلة، فالتكنوفوبيا تعني الخوف المفرط أو غير المبرّر في استخدام الابتكارات في مجال التكنولوجيا، وهذا ليس بموضوعنا. جوهر الموضوع "القلق التكنولوجي" واشتداد "القلق" في أعقاب الطريقة التي نستخدم بها التكنولوجيا والأهمّيّة التي تحتلّها في حياتنا.

في الوقت الحاضر، من السهل جداً أن نتعرّف على الغرباء ونتواصل معهم على الإنترنت والفيسبوك وغيره، ولكن علينا أن نُدرك أنّ إقامة العلاقات عبر الشبكات الاجتماعيّة تُعَدّ علاقات سطحيّة مزيّفة، لا تحمل نفس القيم العقليّة والعاطفيّة للصداقات في العالم الحقيقي، ومن هنا يأتي "القلق التكنولوجيّ". كم مرّة أحسستَ بأنّك أقلّ شأنًا من أولئك الذين تتواصل معهم عبرتصفّحك هذه الشبكة أو تلك ؟ هل شعرت برغبة في المشاركة أو في كتابة أشياء فقط من أجل أن يتذكّرك أولئك الأغراب، أو من أجل الانضمام إلى مجموعتهم؟ هذه مجرّد أمثلة قليلة ل "القلق" النفسيّ الذي تولّده التكنولوجيا وتنمّيه في حياتنا. فيما يلي خمسة أنواع من "القلق" الذي قد يكون له تأثير سلبيّ على حياتك، جنبًا إلى جنب مع نصائح تُعينك في التغلّب عليها، واذاعُرف الداء سهل الدواء:

أوّلاً: فقدان الهويّة الشخصيّة

في أيّامنا المعيار هو نشر كلّ نشاطاتنا وتحرّكاتنا على منصّات التواصل الاجتماعيّ، من عطلة أو رحلة أو سفر أو احتفال عائلي أو شراء منتج جديد أو وليمة، والقائمة طويلة... وهذا التواصل أو ما يُسمّى بالتواصل، بينما يسمح للناس بتبادل خبراتهم في الحياة، لكنّه وللأسف الشديد يخلق أيضًا للغالبيّة العظمى معيارًا كاذبا تتظاهر من خلاله أنّ حياتها جيّدة وعلى ما يُرام.

حاجتنا إلى القيام بأشياء نُظهر فيها للآخرين بأنّ حياتنا مليئة بالمغامرات مثلهم، يجعلنا نقمع الانفعالات المؤلمة أو غير المرغوب فيها، وهذه العادة تجلب معها غالبًا، العديد من المشاكل النفسيّة، تؤدّي بنا إلى الشعور بفقدان هويّتنا، ممّا يغمرنا في النهاية بفيض من مشاعر صعبة للغاية مثل "القلق" أو الغضب.

نصيحة عمليّة في معالجة هذه الحالة: لستَ ملزمًا بإشراك الآخرين في خصوصيّاتك وفي كلّ ما تعمله عبر الشبكات الاجتماعية. نعم، الأمر سهل وبسيط إلى هذا الحدّ! إن شئت، افرح مع أولئك الذين يُشركونك أحوالهم، مع أنّك تعيش حياتك بشكل مغاير. لذلك لا تسمح لأنماط حياة الناس أن تؤثّرعلى نمط عيشك الشخصيّة. واعلم جيّدًا أنّ أنماط الحياة تختلف من فرد إلى آخر، كلّ حسب مقدرته ووضعه في المجتمع وقناعاته الشخصية.

ثانيًا: صورة الجسم السلبيّة

صورة الجسم في علم النفس هي "التصوّر العقليّ أو الشكل الذي يرى به المرء جسمه ويتعرّف به على خصائصه الجسدية، السلبيّة والايجابيّة، كما أنها جزء من إحساس المرء بما يراه عليه الآخرون. صورة الجسم ظاهرة متعدّدة الأبعاد، لا تشمل الخصائص الجسميّة فقط مثل الاهتمام بالوزن ومظاهر الوجه وتناسق الملامح، لكن تشمل الخبرات والتجارب الانفعاليّة والمعرفيّة لجسم الفرد.

عدا المشاركة والتواصل حول أحداث الحياة، يتشارك بعض الناس صورًا تُظهر بنية أجسامهم بطريقة تتناسب ونماذج اخترعها الإنسان. هيئة الإنسان في مقاس معيّن تُعَدّ ممتازة، بينما المقاسات الأخرى لا تُصَنَّف كذلك، إذ رُوّجَت مقاسات ابتدعتها وسائل الإعلام والأزياء والفن والمحطات الفضائيّة والأفلام والمسلسلات، تُنشئ معايير لا ينجح جميع الناس في تطبيقها، وعليه يعاني الإنسان السطحيّ من القلق حول مظهره.

إنّ احتكار مفهوم الجمال على فئة معيّنة من الناس ، تقوم بها صفوة لها مصالح مادّيّة، ينبغي مراجعته وإعادة تعريفه من جديد، ضمن منظور أكثر شموليّة، لأنّ الجمال نسبيّ، تختلف مواصفاته ومقاساته من بلد إلى آخر. ويشمل أيضًا جمال الروح: الجمال الداخلي وما يحمله من صفات سامية ومزايا نبيلة مثل التهذيب والاستقامة والسموّ بالروح والإخلاص في العمل والضمير الحيّ ومحبّة العلم والمعرفة والثقافة والسعي لزيادة المعلومات وسعة أفق التفكير.

اولئك الذين يرغبون في نشر صور تُظهر أجسامهم بشكل إيجابيّ، يقومون بذلك لسببين: إمّا لأنّ الحياة تنقسم في نظرهم إلى فئتين: "جيّدة" أو"سيئة" ويُريدون إظهار الجيّد للناس، ولكن مثل هذا التقسيم الجامد يُنشيء صورة للجسم سلبيّة لدى الكثيرين. أو لأنّهم يريدون تشجيع الناس على العناية بأجسامهم والاهتمام بصحتهم، عن طريق اللياقة البدنيّة وتناسق الجسم. وفي كلتا الحالتين، المشاركة في هذه الصور تولّد أعراض "القلق" لدى معظم المشاركين الذين لا يشعرون بما فيه الكفاية من الأمان في مظهرهم.

نصيحة عمليّة في معالجة هذه الحالة: أنتَ إنسان جيّد ومقبول كما أنت، وإذا كنت تودّ تحسين مظهرك، فافعل ذلك من أجلك أنت، وليس لنيل استحسان الآخرين. تأكّد أنّ مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة الذين تتواصل معهم لا يهمّهم شكل جسمك، بل هم منهمكون في انتظار آراء الناس عن طلّتهم.

ثالثًا: شعور زائف بالانتماء

حاجة المرء للانتماء إلى مجموعة قائمة منذ زمن بعيد، ولكن مع تطوّر التكنولوجيا تحوّل ذلك إلى أسلوب من أساليب الحياة. معظم المنصّات التكنولوجيّة تهدف إلى سدّ الفجوات المعنويّة والنّفسيّة الموجودة ما بين الناس، ممّا يسمح لنا بالتعرّف على أصدقاء جدد تجمع بينهم مصالح مشتركة. ولكن ماذا يحدث للمنطوين على أنفسهم، الذين يصعب عليهم إنشاء صداقات حتّى على شبكات التواصل الاجتماعيّ؟ أولأولئك الذين هم بحاجة إلى إقامة علاقات شخصيّة وحقيقيّة مع أناس يًعَدّونهم بمثابة أصدقائهم ؟

راغبو الانتماء هم أولئك الذين يشعرون بالعزلة الاجتماعيّة، عادة بسبب عدم ثقتهم بأنفسهم. وأحيانًا وببساطة لا يريدون الانضمام إلى مجموعات لا تعطيهم الاحساس بالانتماء الفعليّ. نتيجة لذلك تطفو لديهم على السطح عواطف سلبيّة تجاههم، في ضوء كلّ هذه المجموعات التي تنشأ، والتي لا مكان لديها لأنواع معيّنة من الناس .

نصيحة عمليّة في معالجة الحالة: لا تدع مشاعرك الداخليّة تتأثّر بعدد معارفك على المواقع. العلاقة الجوهريّة هي علاقتك مع نفسك، ولن تستطيع تقوية هذه العلاقة إذا حاولت أن تفسح المجال لمستخدمي شبكات التواصل أن يكوّنوا عنك أفكارًا غير صحيحة بالكامل، أو إذا كنت تتعرّف على مئات الناس من غير أن يكون ذلك أساسيًا في حياتك.

رابعًا: كابوس الأرقام

الشبكات الاجتماعيّة تهتمّ بالكمّيّة وليس بالنوعيّة، وغالبيّة الناس تسعى إلى تكوين صداقات مع عدد كبير من الناس، إلى جانب الفوز بكمّيّة كبيرة من الـlikes والمشاركات لكلّ ما تنشره. الأرقام التي تحصل عليها تولّد الخوف إذا كانت أدنى من التوقّعات، ولكلّ منّا عدد مختلف من الأصدقاء، وبناءً عليه تتباين عدد المشاركات والـlikes.

مع ذلك، عوامل مثل الحرج الاجتماعي وانعدام الثقة بالنفس تُولّد مشاكل في الشبكات الاجتماعية تكثّف وتُعمّق مثل هذه الأحاسيس. إنّها تجلب علينا أيضًا المشاعرالسيئة تجاه أنفسنا والغرق في حالة من الشفقة على الذات لأنّنانخفق في تلبية طموحاتنا وفي تحقيق كمّيّات عالية من الأسهم أي likes والمشاركات. ولكن هل هذه الأرقام حقًا تعرّف الناس على شخصيّتك؟ والجواب بين يديك، وكلّ شيء يعتمد على مدى اهتمامك بتلك الأرقام وتأثّرك بها لدرجة تحويلها إلى كابوس أرقام في حياتك.

نصيحة عمليّة في المعالجة: لا تجعل الأرقام الضئيلة التي حزتَ عليها في المنصّات الاجتماعيّة تسبّب لك القلق أو تُعرّضك لضغوطات نفسيّة للحصول على أرقام أعلى. الأشياء التي تحدّد شخصيّتك هي أعمالك وإنجازاتك في الحياة العمليّة، وليس كمّيّة المشاركات من shares أو likes تنالها.

خامسًا: مشاعر الدونيّة والشعور بالإهانة

البلطجة في الشبكات لم تنل من أوساط الأطفال فقط، بل تعدّت ذلك إلى مواقع البالغين، وهو موضوع يتداوله الرأي العام بكثرة في الوقت الحاضر، وكم أدّت إلى خراب بيوت وطلاق وغيره. السبب أن معظم الناس يصدّقون الأخبار السيئة أكثر بكثير ممّا يصدقون الأخبار الإيجابيّة الطيبة. ومن الأسهل لأغلبيّة الناس الكذب وجرح مشاعر إنسان آخرمن وراء الكواليس، متخفّيين خلف شاشة الحاسوب أومن خلال انتحالهم هويّة كاذبة. ولكن التعليقات والانتقادات والتهديدات التي يكتبها القرّاء بعد ذلك، يتلقّاها الإنسان المتّهم وكأنّها فعلاً قيلت له وجهًا لوجه. في نهاية المطاف هذه الكلمات القاسية تؤدّي إلى الشعور بالقلق والخوف والاكتئاب. هل شعر أحدكم بذلك؟ أسمحتم لمناقشة أو جدل عشوائيّ على الشبكات الالكترونيّة أن يُشعركم بالدونيّة والوحدة؟ إذا حصل ذلك، هذه هي بداية مرحلة ظهورأعراض القلق التكنولوجيّ الذي يؤثّر سلبًا على حياتكم.

نصيحة عمليّة للمعالجة: المناقشات التي تحظى بالاهتمام على الشبكات الاجتماعيّة هي التعليقات المشحونة بالغضب. وعادة لا أحد يغيّر رأيه في أثناء المناقشة استجابة لأمر تمّ نشره، ولكن بدلاً من ذلك يُعبّرعن موقفه بشراسة، بغضّ النظر عن مشاعر الآخرين. تجنَّب مثل هذه النقاشات الحادّة وما تلقاه من الآخرين عبر المواقع الاجتماعيّة، اذا كان ذلك يُفقدك راحة البال ويجرح مشاعرك وتتأذّى منه.

أشياء أساسيّة ينبغي أن نذكرها عن التكنولوجيا

في عالمنا اليوم، من الصعب أن تصنع "مساحتك الخاصّة" أو "مكانًا يخصّك وحدك" ويكون "مُلكك الخاص بك" في منصّات التواصل الاجتماعيّ، وعليه، بدل الامتناع عن الشبكات بشكل كلّيّ، تذكّر القواعد التالية والتي سوف تساعدك في الحفاظ على راحة البال:
- التكنولوجيا جزء أساسيّ من حياتنا اليوم، ولكنّها لا تشكّل كلّ حياتنا.
- منصّات التواصل الاجتماعيّ زائفة لا تُملي علينا معايير مشروعة قانونيًّا.
- حياتك الشخصيّة وخصوصيّاتك ليست صالة عرض للآخرين - احتفظ بها لنفسك.
- عش حياتك من أجل إرضاء ربّك ضميرك، ولا تعش من أجل إرضاء الآخرين على حساب الضمير.
- ابتعد عن كلّ ما هو غير مريح في كلّ مكان وزمان. اذا أحسستَ بالانزعاج والمضض لسبب أو لآخر لدى مشاركتك في إحدى المواقع، تجنّبها فورًا ولا تندرج في بيئة إلكترونيّة غيرناجعة تضايقك وتضغط على أعصابك.

خاتمة

التكنولوجيا الحديثة تطوّرت كثيرًا، وتطوّرت معها الأجهزة الإلكترونيّة، وكلّ منها سلاح ذو حدّين سلبيّ وإيجابيّ، وعلينا يتوقّف الاستفادة منها أو سوء استخدامها. فلنستخدم الفوائد التي أفرزتها التكنولوجيا من غير أن يُضعف ذلك علاقاتنا الاجتماعيّة وروابطنا الأسريّة التي تزيد في صحّتنا وتقلّل من الأمراض النفسيّة والموت المبكّر. باختصار مواقع التواصل الإجتماعي ينبغي أن تسمّى مواقع الانفصال الإجتماعي فهي تفصل الأبناء عن الوالدَين والصديق عن صديقه... ومن هنا تكمن خطورتها والمآسي التي تجلبها على الأفراد والمجتمعات.

كلّ المظاهر الخارجيّة سطحيّة. حاول أن تنمّي شخصيّتك وتثقّف نفسك وتزداد علمًا ومعرفة. حذار أن تستهويك وسائل التكنولوجيا التي تُنسيك نفسك وأبديّتك. ليكن شعارك دومًا الحياة من أجل وصايا الله كي تؤهّل للخيرات السماويّة، كما قال السيّد المسيح :"أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبِرّه تعالى، وهذه كلّها تُزاد لكم" (متى 33:6).

سلبيّات التكنولوجيا "تقتل" أمّا الروح "فيُحيي" !