موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٨ ابريل / نيسان ٢٠١٦
رسالة بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك لعيد الفصح 2016

القاهرة - أبونا :

"لِمَ تطلبن الحي بين الأموات؟ إنه ليس ههنا، لكنّه قام"

مقدمة

يتساءل الكثيرون، إلى أين يمضي هذا العالم؟ والكوارث والمحن تحيط به في جنبات الأرض: حروب ودماء تًسفك، دموع تسيل، لاجئون يهيمون على وجوههم وقد عجز العالم عن حل معضلتهم، بدع وتطرف هنا وهناك، انحسار واضح للقيم الروحية وإنفلات في الأخلاق حتى ظنَّ الكثيرون أن ليس للعالم غداً أفضل أو مستقبلاً أكثر أمناً ورقياً.

وتأتي ذكرى قيامة المسيح لتعلمنا لا لليأس والإحباط لان العالم في يد أمينة هي يد الخالق، وكم مرَّ على هذا العالم من مآسي لا تحصى لكنّ الغلبة دوماً كانت للإيمان والرجاء والمحبة لأنَّ المسيح داس الموت وظلامه، ومزَّق الخوف والشك وقام من الموت .

وصارت عبارة “قام المسيح من الموت، حقاً قام” هي تحية المسيحيين وأملهم لأجيال متتالية، وغمر فرح القيامة كلَّ ايمان الكنيسة وطقوسها وصلواتها، بل كانت قيامة المسيح نقطة انطلاق لكل الفنون والآداب، لذلك أحييكم هذا المساء بذات التحية: “المسيح قام … حقاً قام”.

أولا: قيامة المسيح بداية حياة جديدة

لقد اهتز إيمان الرسل والتلاميذ من واقع صدمة جمعة الصلب التي أنستهم الرجاء والأمل، إذ كيف يموت مَنْ أقام الموتى وخضعت له الطبيعة!؟ مع أن المسيح أنبأهم بموته وقيامته أكثرمن مرة. تماماً كما أن كثرة الأحداث المأساوية في العالم تنسينا محبة الله وحنانه ورحمته ونتخيل أن الشر قد أنتصر، وننسى ما قاله المسيح: إن حبة الحنطة لابد لها أن تدفن في الأرض قبل أن تتمزق لكي تُنبت الثمار الجميلة النضرة، والسحب الكثيفة تُخفي الشمس إلى حين، هكذا قيامة المسيح شمس البر، تشرق دوماً لتجدد الحياة مهما اشتدت العواصف. والرسول توما رفض أن يصدق حدث القيامة إلا بعد أن يرى المسيح قائماً وأن يلمس يديه وآثار المسامير، ولكنه عندما آمن كان إيمانه هو الأعمق اذ أوجز الإيمان كله في قوله ” ربي وإلهي”.

والأسرة البشرية أمام المآسي المتتالية وتوحّش الشر، قد يهزها الشك والقلق، وتأتي ذكرى قيامة المسيح لتجدد طاقة الإيمان وتبعث بطاقة الثقة والرجاء في نفوس المؤمنين.

فالقيامة ليست حدثاً عابراً، بل هي قوة الله الثابتة الدائمة التي تمد الإنسان دوماً بالأمل، إنها بداية حياة جديدة أقوى من كل عوامل الموت والدمار، إنها منارة إلهية تهدي السائرين في رحلة الحياة إلى بر الأمان. وفي فجر الأحد أفاق الرسل حينما رأوا القبر فارغاً، وعاتب الملاكان النسوة لأنهن يبحثن عن “الحي” في قبر، وأكدا أنه ليس ههنا لقد قام، أليس هو القائل: “أنا هو القيامة والحياة” (يوحنا 11: 24) فكيف ينتصر عليه الموت!؟ ثم تراءى للرسل فأفاض من روحه طاقة الإيمان وامتلأ كيانهم من نعمة الروح القدس، وبدأ العالم مسيرة حياة جديدة.

ثانياً: قيامة المسيح أساس الإيمان المسيحي

هذه المسيرة الجديدة، تجسدت في خبرة بولس الرسول، هو الذي حارب كنيسة المسيح وأتباعه، ثم آمن فبشر بالمسيح مصلوباً وقائماً من الموت. يقول بولس في رسالته الأولى لمدينة كورنثوس “إني سلمّت إليكم أولاً ما تسلمته أن المسيح مات من أجل خطايانا على ما في الكتب، وأنه قُبر وأنه قام في اليوم الثالث على ما في الكتب، وأنه تراءى لكيفا ثم للأحد عشر ثم تراءى لأكثر من خمس مئة أخ معاً أكثرهم باق إلى الآن وبعضهم قد رقدوا ثم تراءى ليعقوب ثم لجميع الرسل وآخر الكل تراءى لي أنا أيضاً كأنه للسقط لأني أنا أصغر الرسل ولست أهلاً لأن أسمى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله…” (اكور 15 : 3 – 9)

ويعترف يوحنا الانجيلي أنه لما دخل القبر “رأى وأمن”، والتلاميذ الذين كانوا يرتعدون جزعا يوم الجمعة ها هم يعلنون بشجاعة أمام من يهددهم “ان يسوع الذي صلبتموه أنتم قد قام”، فقيامة المسيح هي أساس الإيمان المسيحي ونقطة انطلاق الحياة الروحية للكنيسة جمعاء، لذلك تمت صياغتها في قانون الإيمان سنة 325 بمجمع نيقية ونردد كلَّ يوم إيماننا “تألم ومات وقبر وقام في اليوم الثالث”.

عشية موته، تحدث يسوع عن مجده، والمجد في قاموسه هو الصليب وتألق هذا المجد على وجوه الشهداء، شهداء الحق وشهوده، وما برح هذا المجد يسطع من خلال سير رجال ونساء وهبوا حياتهم وذواتهم، في كل يوم وكل لحظة، لخدمة المحبة وللتصعيد البطولي في معارك القداسة.

زرعت قيامة المسيح الرجاء في القلوب، وأعطت المعنى الحقيقي لمسيرة الإنسان ومصيره، وصاغت وجدان الشعوب من جديد، كما صاغت العقول وألقت بذور حضارة إنسانية جديدة، هي حضارة المحبة والقيامة.

ثالثاً: قيامة المسيح أقامت الإنسانية من سقطتها

لقد فعل يسوع كلَّ شئ كي تكون حياته حياتنا وقيامته قيامتنا، فعلينا أنْ نكرس كل طاقاتنا للسير على طريقه الحي الواضح على امتداد الإنجيل. ولكي نحيا فجر القيامة يجب ان نحيا حب الذي صلب وقام كي يشركنا بحياته. وهكذا فان القائم من الموت حاضر في صميم البشرية التي تصارع الموت، وهو ملء الزمان والمستقبل وغاية الخليقة كلها.

يقول بولس الرسول “بما أن الموت بإنسان، فبإنسان أيضاً قيامة الأموات، فكما في آدم يموت الجميع كذلك في المسيح سيحيا الجميع” (1كور 15 : 21 –22). قام المسيح وعاد ليملأ حياة الناس بالنور والنعمة. إن الإنسانية كافة مدعوة من المسيح، كأسرة واحدة، لتعيش في آمن وسلام، ينبغي أن تسقط العداوة والكراهية والتطرف، وليحل محلها التسامح والمحبة والتضامن.

قيامة المسيح أسست بشرية جديدة، فعلى كل إنسان أن يقوم من ضعفه ومن سقطاته بعد أن قام المسيح من الموت ليأخذ بيد كل محتاج أو ضعيف، ووضع قيماً روحية تقود الفرد والأسرة والمجتمع في طريق النور والخلاص ، قيامة المسيح علمت البشرية أن الحياة أقوى من الموت، وأن الإنسان يحمل رسالة من الله وأمانة، وكل إنسان مسؤول عن أخيه الإنسان، إن عيد القيامة هو عيدً لقيامة ويقظة ضمير كل إنسان.

لنترك الأكفان جانباً، ولا نُستعبد لذكريات الألم ولا نستسلم لليأس بل علينا أن نرى في قيامة المسيح الرجاء الأكيد، والتجديد المتصل لكل شؤون الحياة، لنقم من قبر الخطيئة وكل عبودية، وننظر إلى من تحمل الألم والموت ثم قام لتقوم معه البشرية وتتفاءل في المستقبل وعمل الواجب والخير. قام المسيح، دٌحرج الحجر، سقطت القوى الغاشمة التي كانت تظن أنها تحرس القبر، فالحياة الحقة لا تحبس، والحق مهما ضٌيق عليه الخناق سينتصر، قام المسيح فليفرح كل من يجاهد للبناء وللتقدم، وكل من تألم ويتألم من أجل خدمة الإنسان، فحيثما قال إنسان نعم للخير والحقيقة والحب، وحيثما نشد المزيد من العدل والتضامن والمغفرة والمصالحة، هناك تجلى يسوع القائم من الموت، وتحقق وعد الرب للواثقين فيه “كن أميناً حتى الموت فلسوف أعطيك إكليل الحياة ” (رؤيا ٢: ١٠).

ختاماً

في هذا المساء المبارك نرفع صلاتنا، من أجل عالمنا الذي نعيش فيه، لكي يسكب الله رحمته على كل أبناء البشر، فيتوقف العنف والحروب والانقسامات ويعمَّ السلام، ويوجه العالم طاقاته إلى تنمية الحياة الإنسانية، ليجد طعاماً لكل جائع، وحياة أرقى وأفضل لكافة الشعوب.

نصلي من أجل كل شهيد وشهيدة يشعل شمعة في ظلام التعصب والتطرف.

نصلي من أجل وطننا الحبيب مصر، ومن أجل رئيسنا، لينعم الرب عليه بالصحة والنعمة ليواصل خدمته للوطن مع جميع المسؤولين وجنودنا البواسل وكل من يقوم بعمله باخلاص وامانة.

لتكن سنة الرحمة، التي بدأناها في ديسمبر الماضي، فرصة روحية لكي نبادر دوماً بأعمال الخير لكل إنسان. نلتمس شفاعة مريم العذراء، الشاهدة الأمينة على قيامة المسيح، كي يبارك الله تعالى شعب مصر ويحفظ وحدته ومسيرته للمضى قدما نحو التقدم والبناء.

وكل عام وجميعكم بخير.