موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٧ فبراير / شباط ٢٠١٦
رسالة الصوم للبطريرك أغناطيوس الثالث يونان: بحر مراحمك

بيروت - أبونا :

وجه البطريرك إغناطيوس الثالث يونان، بطريرك السريان الكاثوليك، رسالة الصوم بعنوان "بحر مراحمك"، وجاء فيها:

1. مقدّمة: اقتران زمن الصوم بسنة الرحمة

إنّ الصوم هو زمن التجدُّد الروحي للدخول في سرّ المسيح الفادي، نموت معه لنحيا معه في قيامتنا من عبودية الخطيئة إلى حرّية أبناء الله. إنه استحضارٌ لعيد الفصح وتجلٍّ تدريجي له، وهو فترة شوقٍ وانتظارٍ للقيامة المجيدة بفرحٍ ورجاءٍ كبيرين.

يتميّز زمن الصوم هذا العام باقترانه بيوبيل سنة الرحمة الذي أعلنه قداسة أبينا البابا فرنسيس، ليضحي صومنا استجلاباً لبحر مراحم الله، فيغفر خطايانا ويحنو على ضعفنا البشري. الرحمة الإلهية هي قلب الكتاب المقدّس والكنيسة وتعاليمها، وقد أظهر الله عظمة محبّته ورحمته لنا بتأنُّس كلمته الأزلية، في شخص يسوع ربّنا، الذي بموته وقيامته منح الحياة الأبدية لكلّ من يؤمن به: "بهذا قد عرفنا المحبّة أنّ ذاك قد بذل نفسه من أجلنا، فيجب علينا أن نبذل نفوسنا من أجل الإخوة" (1 يوحنا 3: 16)، فيمكننا بتلك الثقة أن ننال رحمته.

وها هو مار أفرام، كنّارة الروح القدس، على ما لقّبَتْه كنيستنا السريانية، يحلّق عالياً في سماء الروح متغنّياً ببحر مراحم الرب الذي يفوق حدود إدراكنا البشري: "إنّك بحر المراحم يا رب، وخطيئتنا قطرة إثم. فقطرةٌ واحدةٌ غير قادرةٍ أن تعكّر محيط مراحمك".

2. الصوم اتّحادٌ بالله الرحوم

الصوم المقبول عند الله هو النابع من قلب المؤمن المتّحد به تعالى، والخاضع لمشيئته، والممتلىء بالثمار الصالحة، والكفر بالذات، والإنفتاح على احتياجات القريب، لأنّ الله ينظر إلى القلب وليس إلى المظهر. في الصوم، نقوم بعملٍ روحي استغفاري بوسائل مادّية، مثل الإنقطاع عن الطعام والشراب لمدّةٍ من الوقت، وتخصيص وقتٍ للصلاة، وتوفير ما نصوم عنه وبعض المال للآخرين.

لقد أعلن الله لموسى في العهد القديم عن ذاته قائلاً له: "إنّ الرب إلهٌ رحومٌ ورؤوفٌ، طويل الأناة، كثير المراحم والوفاء" (خروج 34: 6). وفي العهد الجديد ازداد هذا الإعلان عن رحمة الله ومحبّته: "لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لأجله، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 16). والرحمة الإلهية هي السبيل إلى القيامة: "مباركٌ الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي على حسب رحمته الكثيرة وَلَـدَنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لميراثٍ لا يبلى ولا يفسد ولا يضمحلّ، محفوظ في السموات لكم" (1 بطرس 1: 3ـ4).

لنسأل الرحمة من الله بثقةٍ، فهو القائل: "إسألوا تُعطوا... لأنّ كلّ من يسأل يُعطى ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتَح له" (متّى 7: 7-8)، وهو القائل أيضاً: "طوبى للرحماء فإنّهم يُرحمون" (متى 5: 7). في صلاة مساء يوم الأحد من كلّ أسبوعٍ، تأمّلٌ فريدٌ برحمة الرب المخلّصة للإنسان الخاطئ: "إنّي لبحر مراحمك يا وحيد الله أتوق، إذ قد كثرت آثامي وتعاظمت نقائصي".

3. الرحمة الإلهية تتجلّى في القول والعمل والصلاة

بالإقتراب من يسوع والإتّحاد به يتمّ التجسّد الحقيقي للرحمة الإلهية، وبالثقة به يمكننا أن نختبر محبّة الله وسلامه. وأفضل تجلٍّ لهذا الإتّحاد يتمّ في الكنيسة، إذ هي "جسد المسيح" (1 كورنثوس 12: 27)، ففي الكنيسة إعلانٌ واضحٌ وصريحٌ عن رحمة الله. الكنيسة موزِّعة الأسرار والنِّعَم الإلهية، وهي المصلّية من أجل الجميع، والرائدة للكثير من المشاريع الخيّرة للعالم بأسره. وفي الكنيسة، نلتقي أمّ الكنيسة وأمّ الرحمة، مريم العذراء والدة الإله والنور والخلاص لجميع الناس، والشفيعة لنا أجمعين أمام عرش الرحمة الإلهية. تظهر رحمة الله في حياتنا اليومية وتكتمل في علاقاتنا مع بعضنا البعض، فهي يجب أن تكون بالفعل لا بالقول فقط، إنها التزامٌ نحياه مع الله ونعكسه على علاقتنا بالذات والقريب في كلّ وقتٍ وحين.

كيف يمكننا أن نقوم بأعمال الرحمة؟ يعطينا الرب يسوع الجواب بقوله للقدّيسة فوستينا: "عندما تقترب منّي النفس بثقةٍ طالبةً رحمتي، فسأملأها من نِعَمٍ لا حدَّ لها، حتّى يصبح بإمكانها أن تشعّ نحو الآخرين".هذا الإشعاع يكون بالقول والعمل والصلاة، بل في دقائق الحياة برمّتها. فعالم اليوم المتطوّر بشكلٍ مذهلٍ في حقل الإكتشافات والتقنيّات، إنّما يحتاج إلى روحٍ ينعش كلّ إنجازاته، وهذا الروح هو الرحمة الإلهية التي عندما تسكن قلب الإنسان تصبح ينبوع محبّةٍ وفرحٍ وسلام.

4. يوبيل سنة الرحمة ينبوع فرحٍ ورجاء

في براءة إعلان يوبيل سنة الرحمة، التي افتتحها قداسة البابا فرنسيس في بازيليك مار بطرس بروما في الثامن من كانون الأوّل 2015، والتي تنتهي في 20 تشرين الثاني 2016، يقول قداسته: "الرحمة هي ينبوع الفرح والسكينة والسلام، وهي طريقنا إلى الخلاص. الرحمة تكشف سرّ الله الواحد والثالوث، وهي العمل الأخير والأسمى الذي به يأتي الله لملاقاتنا، لكي يسكن في قلوبنا، جاعلاً الرحمة شريعة حياةٍ فينا، بها نلتقي الآخر على دروب الحياة. الرحمة هي السبيل الذي يجمع الله والإنسان، لكي يفتح هذا الأخير قلبه على الرجاء بأنّه محبوبٌ من قِبَل الله بشكلٍ دائمٍ رغم حدود خطيئته" (البابا فرنسيس: وجه الرحمة، براءة إعلان يوبيل الرحمة غير العادي، فقرة 2).

ويتابع قداسته معلناً أنّ الهدف من يوبيل سنة الرحمة هو أن نصبح نحن أيضاً علامةً فاعلةً لعمل الآب الرحوم (الفقرة 3 من المرجع عينه). وهنا نذكر بروح الصلاة وطلب الشفاعة، البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني، الذي وضع عيد الرحمة الإلهية في الكنيسة، يوم الأحد الجديد، وهو الأحد الأوّل بعد عيد القيامة، مؤكّداً بذلك أنّ القيامة استعلانٌ لرحمة الله اللامتناهية في حياة المؤمن، بل في حياة البشر أجمعين.

5. في زمن الصوم وسنة الرحمة نتضامن مع شرقنا المعذَّب ومع كلّ فقيرٍ ومحتاج

في زمن الصوم المقدّس، وفي هذه السنة المكرّسة سنةً يوبيليةً للرحمة الإلهية، تتوجّه أنظارنا إلى أبناءٍ وبناتٍ لنا يعانون الألم والخوف والقلق إزاء المستقبل، وذلك من جراء لامبالاة الدول الكبرى وأصحاب القرار، ممّا جعل الوجود المسيحي في أرض الآباء والأجداد مهدَّداً بخطر الإضمحلال والزوال. إنّ الكنيسة مدعوّةٌ في هذا اليوبيل، كما كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، إلى التضامن والصلاة من أجل هؤلاء الذين يعانون هول الحروب والمآسي والنكبات، في بلدان الشرق عامةً، وبخاصة في سوريا والعراق، كي يداوي الرب جراحهم بزيت العزاء، ويضمّدها برحمته. لذا يقع على عاتقنا جميعاً واجب التعاضد معهم وإيلائهم العناية الضرورية، سيّما النازحين والمهجَّرين الذين يعيشون بيننا.

إنّنا نرفع التضرّع والإبتهال، متشاركين مع قداسة البابا فرنسيس، وجميع الرعاة الروحيين، وكلّ أصحاب النيّات الحسنة، إلى الرب يسوع، بحر المراحم، كي يبسط أمنه وسلامه في العالم كلّه، وبخاصة في شرقنا المعذَّب. فتعود الطمأنينة إلى القلوب، مع الإستقرار والعيش الكريم الآمن، بروح المحبّة والألفة والتضامن.

كما لا يمكننا أن نتغافل في زمن الصوم عن مدّ يد المساعدة لكلّ فقيرٍ ومحتاجٍ في جماعتنا الكنسية، ليشعروا بدفء مؤازرتنا وحرارة صداقتنا وأخوّتنا. ومن هنا، نشجّع كلّ المبادرات الإنسانية الفردية والجماعية، مثمّنين كلّ عمل تضامنٍ، إن بالصلاة، أو بالسند المعنوي، أو بممارسة أعمال الرحمة والإحسان.

خاتمة: المؤمن هو وجه الرحمة الإلهية المتجسّدة!

خير ما نختم به رسالتنا هذه، دعوة قداسة البابا فرنسيس لنا في رسالته التي وجّهها بمناسبة زمن الصوم لعام 2016، بعنوان "إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة"، إذ يؤكّد قداسته التلاحم والتكامل بين رحمة الله وزمن الصوم: "لِنَعِش زمن الصوم في هذه السنة اليوبيلية بزخمٍ أكبر كفرصةٍ ملائمةٍ للإحتفال برحمة الله واختبارها... إنّ رحمة الرب هي بالحقيقة بشرى للعالم، وكلّ مسيحي هو مدعو كي يختبر هو أوّلاً هذه البشرى... رحمة الله تبدّل قلب الإنسان وتجعله يختبر حبّاً صادقاً، وتجعل منه إنساناً قادراً بدوره على الرحمة". ويدعونا قداسته في نهاية رسالته "ألا نترك زمن الصوم المناسب للتوبة يمرّ سدىً".

إنّ كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، أيّها الأحبّاء، هو وجه الرحمة الإلهية المتجسّدة. هلمّوا نسأل الله، بحر المراحم، أن يغمرنا في سنة يوبيل الرحمة بفيضٍ من رحمته المُحِبَّة والغافرة، ويجعلنا صانعي رحمةٍ مع كلّ إنسانٍ، وفي كلّ مجتمع. فما أحوج عالم اليوم إلى الرحمة! وإنّنا إذ نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، نمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.