موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٥ فبراير / شباط ٢٠١٧
رسالة البطريرك غريغوريوس لحّام الثالث لزمن الصوم

بيروت – أبونا :

وجه بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام رسالة الصوم 2017 "دموعًا أعطني يا الله..." جاء فيها: "أردت يا رب أن أمحو بالدموع صك زلاتي. وأرضيك بالتوبة باقي أيام حياتي". بهذا النشيد الروحي نستقبل الصوم الأربعيني الكبير المقدس. ومع المرأة الخاطئة وصلوات "يا رب القوات"، نهتف: "دموعًا أعطني يا الله، كما أعطيت قديما المراة الخاطئة. وأهلني أن أبل قدميك اللتين حررتاني من طريق الضلال. وأقدم لك كطيب ذكي، عيشة نقية إقتنيتها بالتوبة. لكي أسمع أنا أيضًا صوتك المشتهى. إيمانك خلصك! فامض بسلام".

معكم أيها الأحباء، أريد أن أتأمل في قوة دموع التوبة، في مسيرة أيام الصوم المقدسة، التي تقودنا إلى أفراح القيامة. ولهذا فإنني في هذه الرسالة سأستعرض من خلال الكتاب المقدس ونصوص صلوات آبائنا القديسين، محطات تساعدنا على أن نسكب نفوسنا أمام الرب يسوع، الذي يدعونا قائلا: "إذا صمت فادخل مخدعك. وأغلق بابك. وصل لأبيك الذي في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية، هو يجازيك علانية" (متى 6:6). يسوع نفسه دمع أكثر من مرة في حياته على الأرض. وكانت دموعه تعبيرا عن رحمته ومحبته وعطفه وحنانه وشعوره مع الناس.

إلى هذه الوقفة الحميمية مع الله، مع يسوع، تدعونا الكتب المقدسة. فتضع أمامنا أمثلة على التوبة بالدموع. منها دموع داود النبي التائب الذي وضع المزمور الخمسين تعبيرا عن توبته بعد خطيئتيه: القتل والزنى. وتتردد عبارات توبة ممزوجة بالدموع في الكثير من المزامير المنسوبة إليه. "أعييت في أنيني. بدموعي أغسل كل ليلة سريري. وأبل فراشي. ذبلت من الغم عيني" (المزمور 6). وفي المزمور 101 يعبر عن ألم قلبه هكذا: "من صوت تأوهي لصق عظمي بجلدي... صرت مثل بوم الأخربة... مزجت شرابي بدموعي".

في سفر النبي يوئيل يدعو الله الشعب بفم النبي إلى البكاء: "إرجعوا إلي بكل قلوبكم. بالصوم والبكاء والنوح. مزقوا قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم. ليبك الكهنة خدام الرب! ويقولوا. أشفق يا رب على شعبك! ولا تسلم ميراثك للعار" (يوئيل 2: 18،13،12). ويقول ملاخي عن الكهنة: "يغطون مذبح الرب بالدموع والبكاء والصراخ" (ملاخي 2: 13). والرب يستجيب لبكاء الشعب: "لأنك لا تسر بهلاكنا، فتلقي السكينة بعد العاصفة، وبعد البكاء والنحيب تفيض التهليل" (طوبيا 3: 22). وتصف الأسفار المقدسة لقاءات تعزية ومصالحات بين المتخاصمين بالدموع والمعانقات الحارة. فالدموع تقرب إلى الله، وتقرب بين المتخاصمين وتعبر عن الندامة والمصالحة.

في العهد الجديد، نرى يسوع نفسه يبكي مرتين: على صديقه لعازر "ودمع يسوع" (يوحنا 11: 35). ومرة أخرى بكى على أورشليم: "ولما قرب من المدينة بكى عليها" (لوقا 19: 41). والدموع تعبير عن الشكر والندامة: "فصاح أبو الصبي من ساعته بدموع وقال: إني أومن يا رب فأعن قلة إيماني" (مرقس 9: 23). والمرأة الخاطئة "تقف من وراء يسوع عند رجليه باكية. وجعلت تبل رجليه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها" (لوقا 7: 38). وبطرس "يخرج إلى الخارج ويبكي بكاء مرا" (لوقا 22: 62) بعد أن أنكر يسوع ثلاث مرات قبل الآلام.

ويسوع يعد تلاميذه بأن حزنهم يؤول إلى فرح: "الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون، والعالم يفرح وأنتم تحزنون. ولكن حزنكم يأول إلى فرح" (يوحنا 16: 20). بولس يبكي ناصحا المسيحيين الأوائل: "فاسهروا إذن وتذكروا أني مدة ثلاث سنين لم أكف ليلا ونهارا من أن أنصح كل واحد منكم بالدموع" (أعمال 20: 31). ويقول أيضا عن يسوع: "في أيام بشريته قرب تضرعات وتوسلات بصراخ شديد ودموع إلى القادر أن يخلص من الموت. فاستجيب له بسبب الاحترام" (عبرانيون 5: 7). وفي سفر الرؤيا يمسح الله دموع المؤمنين به: "لأن الحمل الذي وسط العرش يرعاهم ويرشدهم إلى ينابيع ماء الحياة. ويمسح الله كل دمعة من عيونهم. ولا يكون بعد موت ولا نوح ولا صراخ ولا وجع لأن ما كان سابقا قد مضى" (رؤيا 7: 17، 21: 4).

وهناك البكاء بسبب خطايا الآخرين: "فاضت من عيني مجاري مياه لأنهم لم يحفظوا شريعتك" (مزمور 118: 136). "تبكي نفسي في الخفية على كبريائكم. وتستعبر عيني استعبارا وتسيل الدموع لأن قطيع الرب قد سبي" (أرميا 13: 17). ويقول بولس لأهل كورنثس: "إني أخشى أن يذلني إلهي بينكم إذا قدمت إليكم مرة أخرى وأنوح على كثيرين من الذين خطئوا ولم يتوبوا عما صنعوا من النجاسة والزنى والفسق" (2 كورنتس 12: 21). ويحرض القديس يعقوب في رسالته الجامعة قائلا: " نقوا أيديكم أيها الخطاة. إكتئبوا. أبكوا. ونوحوا" (يعقوب 4: 8، 9).

هذا الأمر ينطبق على موضوع رسالة الصوم حول الدموع. ولهذا السبب أعود وأكرر الدعوة إلى أبناء وبنات كنيستنا الرومية الملكية، لاسيما الإكليروس والرهبان والراهبات وكهنة الرعايا ألا يهملوا الصلوات الطقسية اليومية. وأن يشركوا العلمانيين فيها في الأعياد السيدية وأعياد كبار القديسين الرهبان وآباء الكنيسة. الصلوات اليومية هي بمثابة قراءة يومية في الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، وفي كتب ومؤلفات الآباء القديسين.

البكاء لغة! إنه تعبير صامت فصيح عميق عن المشاعر الأكثر حساسية في الإنسان. هكذا كان بكاء المرأة الخاطئة. وهكذا كان بكاء بطرس الرسول. وعندما يعجز الكلام عن التعبير عن المشاعر، تتفجر ينابيع البكاء من المآقي بفعل جسدي وروحي في آن واحد. فتبكي العينان. ويبكي القلب. ويبكي الإنسان كله. والصلاة هي الوقت الأكثر مناسبة للتعبير عن عمق المشاعر بالبكاء.

يحرضنا بولس الرسول قائلا: "أبكوا مع الباكين وافرحوا مع الفرحين" (رسالة إلى الرومانيين 12: 15). كم من باكين وحزانى ومجروحين ومرضى ومتألمين وجياع وعطاش في مجتمعنا، ولاسيما اليوم في مشرقنا الرازح تحت كابوس الإرهاب والعنف والحرب والتكفير والقتل والإجرام...
أمام هذا العالم المعنف نحتاج إلى كم كبير من الدموع. وكأننا مثل راحيل تبكي اطفالها بعد مذبحة بيت لحم، ولا تريد أن تتعزى.

الصيام مرحلة مقدسة ووقت مقبول للبكاء مع الآخرين من خلال الاعمال الصالحة. ولاسيما التضامن مع كل من يحتاج إلى محبتنا وعطائنا وخدمتنا وتضحياتنا. لتكن دموعنا، دموع التوبة، واللقاء مع الله، والمحبة، لتكن سبيلنا إلى القريب وإلى كل محتاج. إلى هذا يدعونا البابا فرنسيس في رسالته عن الصوم للعام 2017: "والصوم هو الزمن الملائم لفتح الباب لكل محتاج ونرى فيه أو فيها وجه المسيح. كل منا يلتقي بهم في مسيرته الشخصية. كل حياة نلتقي بها هي عطية، تستحق الاستقبال والاحترام والمحبة".

وإلى هذا تدعونا صلواتنا الطقسية على مدى أسابيع الصوم، لكي نقرن الدموع بالتوبة والندامة والصلاة والتقرب إلى الله واللقاء معه. نقرن كل ذلك بأعمال المحبة والرحمة. هكذا نقرأ: "هلم نطهر نفوسنا بالصدقات والرأفة بالبائسين. ولا ننفخ بالبوق. ولا نشهر إحساننا. ولا تعلم الشمال ما تصنعه اليمين. ولا يبدد المجد الباطل ثمرة الصدقة. بل لنصرخ خفية نحو عالم الخفايا: أيها الآب اترك لنا هفواتنا. بما أنك محبٌ للبشر" (الأحد الأول من الصوم - آيات آخر الغروب). "لنصم الصوم الروحي. ونمزق كل شرك. ونهرب من شكوك الخطيئة. ونغفر لإخوتنا ذنوبهم. لكي تغفر لنا ذنوبنا. وحينئذ يمكننا أن نهتف: لتستقم صلاتنا كالبخور أمامك يا رب" (الأسبوع الثاني من الصوم، الإثنين، آيات آخر الغروب).

مرحلة الصيام كانت في الأساس وقت الاستعداد المباشر للاحتفال بعيد الفصح. والقيامة المجيدة والمعمودية المقدسة. ولهذا فالصوم هو مرحلة استعداد لعيد الأعياد وموسم المواسم ولأكبر فرحة روحية التي تبعث فينا نشوة روحية عندما نهتف معا المسيح قام!

بكاؤنا هو استعداد للفرح: فرح التوبة. فرح الندامة. فرح الاعتراف بخطايانا. فرح اللقاء مع الرب يسوع، ومع القريب. الفرح الذي هو ثمرة الدموع. إنه كما يقول لنا البابا فرنسيس: "فرح الإنجيل الذي يملأ قلب وكل حياة جميع الذين يلتقون يسوع. أولئك الذين ينقادون له يحررهم من الخطيئة والحزن والفراغ الداخلي والعزلة. إن مجازفة عالم اليوم الكبيرة بما يقدم من استهلاك عديد وساحق، هو حزن فرداني نابعٌ من قلب متربع وبخيل، نابعٌ من البحث السخيف عن ملاذ سطحية، من ضمير منعزل عندما تنغلق الحياة الداخلية على مصالحها الذاتية، يفقد محل الآخرين. فلا الفقراء يدخلون، ولايسمع صوت الله، ولا يتمتع بفرح حب العذب، ولا يعود ينبض حماس فعل الخير. حتى المؤمنون يتعرضون لهذه المجازفة الأكيدة والدائمة. كثيرون يرزحون تحت عبئها ويتحولون إلى أناس مفكرين، مستائين، لا حياة فيهم. ليس في ذلك اختيار حياة كريمة وملأى، ولا هذا ما يرغبه الله لنا. وليست هذه الحياة في الروح النابع من قلب المسيح القائم من بين الأموات" (فرح الإنجيل 1-2).

أيها الأحباء، لكم جميعا هذه الوجبة الصيامية! إنها باقة روحية صيامية، قطفتها لكم من الفردوس الجميل الذي نعود إلى سكناه بالصوم والاعمال الصالحة: فردوس كلمة الله ومناسك الرهبان وعبق بخور كنائسنا التي ترتفع منها صلوات الصوم المبارك. وأتمنى لكم صوما مباركا يقودنا إلى أفراح عيد القيامة المجيدة التي نفرح هذا العام بنوع خاص بها لأننا سنعيدها معا، جميع المسيحيين شرقا وغربا. ونأمل أن يكون فصح هذا العام مقدمة لعيد مشترك واحد موحد لجميع المسيحيين.

ونطلب شفاعة أمنا مريم العذراء لتبارك صيامنا ونتضرع إليها لأجلنا ولأجل كل إنسان يحتاج إلى الفرح مع صلوات الباركليسي الجميلة: "لا ترفضي مجاري دموعي يا نقية. يا من ولدت المسيح إلهنا. الذي انتزع من كل وجه كل دمعة. إملئي قلبي فرحا أيتها العذراء. التي فيها قد حل ملء الفرح. وأقضي عني بعيدا حزن الخطيئة" (التسبحة التاسعة).

صيام مبارك ومقدس! يقودنا بالدموع إلى أفراح القيامة!".