موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ فبراير / شباط ٢٠١٨
رسالة البطريرك الماروني بشارة الراعي لزمن الصوم: ثمار تدلّ على التوبة

موقع البطريركية المارونية :

1. زمنُ الصّوم الكبير مسيرةٌ روحيّة نستعدّ خلالها للعبور مع فصح المسيح إلى حياة جديدة، عبر توبة القلب وثمارها. فلمّا بدأ يوحنّا المعمدان رسالته في إعداد القلوب والنّفوس للمسيح الآتي، ممارسًا معموديّة الماء للتوبة، قال للآتين إليه طالبين هذه المعموديّة: "أثمروا ثمرًا يدلّ على توبتكم" (متى 3: 8). هذه الثّمار هي أربع: السَّير في نور الحقيقة، والصّلاة، والصّوم، والصّدقة. والتّوبة وثمارها تجعل من الصّوم الكبير زمنًا مقبولاً لدى الله، يجدّدنا مع الطّبيعة الّتي، من بعد أن تعرّت من عتيقها في زمن الشّتاء، تلبس ثوب الرّبيع من أجل مواسم العطاء.

تتناول هذه الرسالة، في ثلاثة أقسام، التوبة وثمارها وتوجيهات راعويّة.

أوّلاً، التّوبة

2. التّوبة فضيلة وسرّ. هي فضيلة قوامها رجوع القلب إلى الله بالإرتداد عن الخطيئة وحالتها؛ والإبتعاد عنها وعن أسبابها، مع كره للشّر وللأفعال السّيئة التي اقترفناها. وفي الوقت عينه تنطوي على رغبة ومقصد بتغيير المسلك الحياتي، مع الرّجاء المتّكل على رحمة الله، والثقة بمساعدة نعمته[1].

وهي سرّ مقدّس يرتكز على إقرار التّائب بخطاياه أمام الكاهن، صاحب السّلطان الإلهي، الذي يحلّه منها. ويدعى هذا السّر "سرّ التّوبة أو الإعتراف أو المصالحة". السّر وسيلةٌ تحقّق توبة القلب بفضل النعمة الإلهيّة التي تمحو الخطايا، وتعطي التّائب قلبًا جديدًا، وتعضده في مقاصده لئلّا يسقط من جديد، ولكي ينتصر على تجارب الشّيطان ومغريات الحياة، وبخاصّة إذا اقترن سرّ التوبة بسرّ القربان، لأنّ فيه ذبيحة المسيح التي صالحتنا مع الله، والتي تغذّينا وتقوّينا في عيش حياة المسيح. إنّها الدواء الذي يعطينا مناعة ضدّ السقطات اليوميّة والخطايا المميتة[2].

3. توبة القلب تستدعي اللّجوء إلى نعمة السّر لتنال مبتغاها، والسّر يشترط توبة القلب ليؤتي مفاعيله وثماره. فالتوبة الحقيقيّة تنطوي على ثلاثة: الندامة من كلّ القلب عن الخطايا والذنوب والنواقص، والإقرار بها نوعًا وعددًا وظروفًا، والتكفير عنها بالتعويض المطلوب عدالة، إذ لا غفران من دون عدالة.

هذه العناصر علّمها الربّ يسوع بالمَثَل الواضح في عودة الابن الضّال إلى أبيه. فلمّا أدرك بالعمق خطيئته، وندم على حالته البائسة بالرجوع إلى نفسه، عاد إلى أبيه، وأقرّ بخطيئته، وفرض على نفسه تعويضًا عادلًا (راجع لو15: 17-21).

4. التوبة الحقيقيّة المثمرة هي التي تدرك الخطيئة في جوهرها، في أسبابها ونتائجها. الخطيئة ظهرت في مسلك الابن الضّال على أنّها سوء استعمال خيرات الدنيا، والإفراط في ممارسة الحرّية الشخصيّة، من دون أيّ رباط وشركة مع الله المعطي. إنّها تعلّق القلب والفكر والإرادة بعطايا الله ونسيانه. فالإبن غادر بحصّته أباه وبيته قاطعًا كلّ الروابط معهما، بسفره إلى بلد بعيد. فكان أن بدّد ماله بالطيش، وراح بالتالي يفتقر حتى بات راعيًا للخنازير، ويسابقها على أُكُلِها. ما يعني أنّه بلغ درجة سحيقة من الانحطاط الإنساني والاجتماعي. عندئذٍ رجع إلى نفسه، إلى صوت أبيه في أعماق ضميره، وهو صوت الله، وأدرك حقيقة واقعه المرّ وخطيئته (راجع لو15: 2-17).

5. بعد إدراك الخطيئة ونتائجها القاتلة، والندامة عليها من أعماق القلب، لا بدّ من طلب الصفح والمصالحة. هنا تنجلي التوبة-السّر المقدّس الذي أسّسه الربّ يسوع لجميع أعضاء كنيسته الذين، بعد معموديّتهم، سقطوا في الخطيئة، وفقدوا بالتالي نعمة معموديّتهم التي جعلتهم سكنى الله وهيكل الروح القدس، وجرحوا الشّركة مع الكنيسة. في ممارسة هذا السّر المقدّس، الله الذي وحده يغفر الخطايا منح الكنيسة بواسطة سرّ الكهنوت السلطان لمغفرة الخطايا بمحبّة الآب، ونعمة فداء الابن، وفعل الروح القدس المُحيي.

6. تمّت المصالحة بين الابن الضّال وأبيه بأبهى وجوهها. فأبوه كان في انتظاره لكثرة محبّته وحنانه وألمه. وما إن أطلّ من بعيد حتى لاقاه وقبّله طويلًا، وبادله عن خطيئته، إنّما إكرامًا لتوبته وعودته، بإعادته إلى حالة النعمة التي فقدها، وقد رمز إليها الثوب الأبيض؛ وردّ له عهد البنوّة بالخاتم في إصبعه؛ وفتح أمامه طريقًا جديدًا لمسلك جديد، بالحذاء الذي وضعه في رجله؛ وأعاده إلى الشركة الكاملة معه ومع الكنيسة بوليمة العجل المسمَّن الذي يرمز إلى حمل الفصح، وليمة جسد المسيح ودمه (راجع لو15: 20-32).

7. التوبة ضروريّة ولاغنى عنها من أجل خلاص الإنسان. فقد دعا إليها الربّ يسوع في أوّل عظة له، بعد اعتماده وصومه أربعين يومًا، إذ نادى: "تمّ الزمان واقترب ملكوتُ الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر1: 15؛ راجع متى 4: 17). وفي موضع آخر نبّهنا بشدّة: "إن لم تتوبوا، فجميعكم تهلكون" (لو13: 5).

وبطرس الرسول في عظته الأولى، التي شرح فيها موت يسوع مصلوبًا ليخلّص كلّ مَن يدعو باسمه، عندما سأله الحاضرون المتأثّرون بكلامه: "ماذا يجب علينا أن نعمل؟" أجاب: "توبوا، وليعتمدْ كلُّ واحد منكم باسم الربِّ يسوع، فتُغفر خطاياكم، ويُنعم عليكم بالروح القدس" (أعمال2: 14، 37-38).

وكذلك بولس الرسول خاطب أهل أثينا قائلًا: "إذا كان الله غضَّ نظره عن أزمنة الجهل، فهو الآن يدعو الناس كلَّهم، في كلّ مكان إلى التوبة، لأنّه وقّت يومًا يدين فيه العالم كلَّه بالعدل" (أعمال 17: 30-31).

8. أمام كلّ هذا، لا يستطيع الأسقف والكاهن إهمال خدمة سرّ التوبة التي ائتُمن عليها بحكم رسامته. فهو مسؤول عن موت الخطأة في خطاياهم، على ما نبّه الربُّ بلسان حزقيال النبي: "أنا جعلتك رقيبًا على شعبي، فتسمع الكلمة من فمي وتنذرهم عني. فإذا قلتُ للشرّير: يا شرير موتًا تموت، وقصّرت أنت عن إنذاره عني. فهذا الشرير يموت بإثمه. لكنّي من يدك أطلبُ دمه. أما إذا أنذرتَ الشرير ليتوب عن طريقه وما تاب، فإنّه يموت في إثمه، وتكون خلّصتَ نفسك. وإن تاب الخاطئ عن جميع خطاياه التي فعلها، وعمل ما هو حقّ وعدل، فهو يحيا ولا يموت ولا أذكرُ له آثامه" (حزقيال 33: 7-9، 14-16).

9. إنّنا نوجّه دعوة حارّة إلى إخواننا المطارنة وأبنائنا الكهنة الأبرشيِّين والرّهبان، كي يبادروا إلى إعطاء دفع جديد لسرّ المصالحة، من أجل خلاص أبناء كنيستنا وبناتها، وتحريرهم من حالة الخطيئة، ومنحهم نعمة السّرّ التي تقدّسهم. هذه المسؤوليّة تتقدّم كلّ مسؤوليّاتنا. لقد كَثُرت الخطايا وتشعَّبت وتفشّى الشّرّ في مجتمعنا وفي العالم. فلا بدّ من أن نتحمّل مسؤوليّاتنا الأسقفيّة والكهنوتيّة.

تُلزمنا القوانين الكنسيّة بأن نؤمّن للمؤمنين إمكانيّة ممارستهم سرّ التّوبة، في الوقت الملائم لهم، وفي الأيّام والساعات التي يرتاحون إليها (راجع القانون 735 بند 1). وتطلب منّا الكنيسة تحقيق أعظم التّسهيلات الممكنة لتأمين الإعترافات، والحضور الظّاهر في أماكن العبادة خلال الأوقات المحدّدة وخارجها، والجهوزيّة الدّائمة لتلبية ضرورات المؤمنين قبل الإحتفال بالقداديس وأثناءها وخارجًا عنها[3].

* * *

ثانيًا، الثمار التي تدلّ على التوبة

1- السير في نور الحقيقة

10. الصوم الكبير زمن سماع كلام الله في الرياضات الروحيّة التي تقام في الرعايا والأديار والمؤسّسات، وعبر البرامج الروحيّة التي تبثّها وسائل الإعلام المسيحيّة والمدنيّة، والقراءات الإنجيليّة والتأمّلات الفرديّة والجماعيّة. وفيما نسعى إلى هذا السماع، نصلّي: "كلمتُك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي" (مز119: 1). فكلمة الله تغذِّي العقول والقلوب بنور الحقيقة الموحاة، وتحيي الضمائر كي تتمكَّن من سماع صوت الله الموجِّه من الداخل إلى فعل الخير وتجنُّب الشّر"[4].

نصوم عن الطعام، ونعيش شيئًا من التقشّف والإماتة والحرمان، كي نغتذي من كلام الله الإلهي، إذ نجلس إلى مائدة كلمة الله[5] التي تعلّمنا الحقيقة، والحقيقة تنير عقلنا، وتعطي الحرية إطارها، وهكذا نتمكّن من معرفة الله ومحبّته[6]. وبهذا المعنى نصلّي مع صاحب المزامير: "أَشرِقْ علينا بنور وجهك، يا ربّ (مز4: 7).

11. عندما نعرف الله الذي كشفه لنا يسوع المسيح، الإله المتجسّد، نعرف "سرّ الإنسان الذي لا ينجلي إلّا في سرّ الكلمة المتجسّد، الذي أظهر الإنسان لنفسه بملئها، وكشف له سموَّ دعوته[7]؛ ونعرف كيف نميّز بين الخير والشّرّ، مُدركين ما يجب علينا فعله؛ وينجلي لنا وجه الكنيسة الذي يضيء عليه نور وجه المسيح؛ ونفهم أخيرًا معنى الحياة وغايتها[8]. وهكذا نطرح السّؤال الأساسي في حياتنا كما طرحه ذاك الشاب على يسوع: "ماذا أعملُ من الصّلاح، لأرثَ الحياة الأبديّة؟" (متى19: 16).

12. الصّوم الكبير هو زمن الإصغاء لصوت الله الذي يكلّمنا بشخص المسيح وتعليمه وأفعاله وآياته. يقول عنه القديس برنردوس انّه "الكلمة المسموعة بالأذن، والمرئيّة بالعين، والملموسة باليد". كلمةُ الله تنبع من قلبه، وتريد الوصول إلى قلب الإنسان، كما قال لحزقيال النّبي: "كلماتي التي أقولُها لك، إحفظْها في قلبك" (حز 3: 10). لذا، يشترط الرّبّ يسوع، من أجل قبولها وفعلها فينا، ثلاثة: سماعها بالقلب وليس فقط بالأذن والعقل؛ وحفظها كالخميرة في العجين والزّرع في الأرض الطّيّبة؛ والعمل بها بأفعال وأقوال ومبادرات تعكس تفاعلها مع كياننا الدّاخلي (راجع لو8: 19-21، 11: 28).

13. أجل، كلمة الله كالمطر والثّلج ، فلا يرجعان إلى السّماء، بل يرويان الأرض فتُنبِت زرعًا وأُكُلًا، على ما قال الله بلسان أشعيا: "كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليَّ فارغةً، بل تتمّم ما شئتُ، وتنجح في ما أرسلتُها له (أش 55: 10-11). وهي كسيف ذي حدَّين (رؤيا 1: 16). إنّها سيف الروح (افسس6: 17) الذي حيث يدخل يقطع كالمنجل في الأدغال، وكالفأس على أصل الشجرة، يقطع كلّ يباس. بهذا المعنى يقول لنا الربّ يسوع: "أنتم أنقياء بالكلمة التي قلتُها لكم" (يو15: 3).

في ضوء كلّ هذا، يدعونا يعقوب الرسول "لعدم الاكتفاء بسماع كلام الله من دون العمل به، لئلّا نخدع نفوسنا. فمَن يسمع الكلام ولا يعمل به يشبه الناظر في المرآة صورة وجهه، فهو ينظر نفسه ويمضي، ثمّ ينسى في الحال كيف كان" (يعقوب1: 22-24).

2- الصلاة

14. الصلاة هي ثمرة سماع كلام الله، إذ نصوغ صلاتنا من كلماته. فمَن لا يسمع كلام الله لا يعرف كيف يصلّي. الصلاة هي ارتفاع العقل والقلب والفكر إلى الله، ونسيان كلّ الباقي. ألسنا نفعل كذلك عندما نخاطب شخصيّة بارزة؟ وعليه، يحتاج المصلّي إلى شيء من العزلة والاختلاء، لتسهيل صلاته، والخروج من ضجيج محيطه وانشغالاته وهمومه. فكم كان الربّ يسوع يعتزل في البراري للصلاة على انفراد (لو5: 16). يقول الروح على لسان النبي هوشع: "أقتادها إلى البرّية، وأخاطب قلبها" (هوشع2: 16). أليس المصباح يضيء في الخلوة وينطفئ في الهواء؟ (الطوباوي ابونا يعقوب).

15. الصوم الكبير، بما يحتوي من رياضات روحيّة وأصوام وإماتات وتوبة، هو زمن الصلاة بامتياز. فلا تكون صلاتنا من الشفاه، فيما الفكر والقلب بعيدان عن الله (راجع متى 6: 5-6). ولا تكون بملل، فالربّ يوصينا: "إسهروا وصلّوا، لئلّا تقعوا في التجربة" (متى26: 41). والصلاة عن إيمان تنال مبتغاها. ولهذا حثّنا الربّ عليها: "إسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم. فمَن يسأل ينل، ومَن يطلب يجد، ومَن يقرع يُفتح له" (متى7: 7-8). يقول القدّيس أغسطينوس انّ الربّ يحثّنا على الصلاة، "لأنّه يصلّي معنا كرأس، ويستجيب لنا كإله".

16. يظنّ البعض أنّ الصّلاة مضيعة للوقت! على العكس، فالقدّيسة مونيكا نالت ارتداد ابنها أغسطينوس بدموعها وصلواتها لسنين. فكان أعظم القدّيسين واللّاهوتيِّين. وهو القائل: "الصلاة هي مفتاح كلّ كنوز السماء". بكلمتين من القلب ممزوجتَين بالتّوبة، نال لصّ اليمين الخلاص: "أذكرْني يا سيّدي متى صرتَ في ملكوتك". فكان جواب الرّبّ: "اليوم، تكون معي في الفردوس!" (لو 23: 42- 43). العشّار المصلّي بانسحاق قلب، عند باب الهيكل: "اللهمَّ إرحمني أنا الخاطئ"، عاد إلى بيته مبرّرًا دون الفرّيسي (لو18: 14).

لاقى القدّيس لويس التّاسع، ملك فرنسا، انتقادًا لأنّه كان يُخصّص وقتًا طويلًا للصّلاة، وبذلك يهمل شؤون المملكة، فأجاب القديس: "لو خصّصت وقت الصّلاة للصّيد واللّهو، مثلما يفعل قوم من البلاط، لما كان انتقدني أحد!".

3 – الصّوم

17. الصّوم، بما يحتوي عليه من انقطاع عن الطّعام وإماتات وتقشّفات، إنّما هو تعبيرٌ خارجي عن توبة القلب، وإلّا فقد قيمته الشّاملة. فالله على لسان يوئيل النّبي نادى: "إرجعوا إليَّ بكلّ قلوبكم وبالصّوم والبكاء والنّدامة. مزِّقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرّبّ إلهكم (يوئيل 2: 12-13) ؟ وبلسان أشعيا: "إغتسلوا وتطهّروا، وأزيلوا شرّ أعمالكم من أمام عينيّ، وكفّوا عن الإساءة" (أش1: 16).

الصّوم فريضة إلهيّة تتجذّر في الكتب المقدّسة. إنّه موقف تواضع وانسحاق أمام الله، تكفيرًا وتطهيرًا من الخطايا (أحبار 16: 29- 31)، وانفتاح القلب للنّور الإلهي (دانيال 10: 2)، وترقّب النّعمة الإلهيّة الضروريّة لإتمام الرّسالة (أعمال 13: 2-3)، وتسليم للآب على مثال يسوع بثقة كاملة (متى4: 1-4)، ووضع الذّات أمام الله بإيمان وقبول إرادته وعمله، مثل موسى (خروج34: 38)، وإيليا (1 ملوك 19: 8).

18. كتب قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة الصوم الكبير (2018): "الصوم ينتزعُ منّا العنف ويساعدنا على النموِّ الروحي. يجعلنا نختبر معاناة الذين ينقصهم الضروري وأوجاع الجوع اليوميّة. إنّه يمثّل أوضاع نفسنا الجائعة إلى الخير، والمتعطِّشة للحياة الإلهيّة. الصوم يجعلنا أكثر انتباهًا لله وللقريب، ويوقظ فينا إرادة الطاعة للإله الذي هو وحده يُشبع جوعنا".

4- الصَّدقة

19. ترتبط الصدقة ارتباطًا وثيقًا بالصوم. نحرم ذواتنا من مأكل ومشرب لكي نساعد الفقير والمحتاج بدلًا من ذواتنا. هذه هي حكمة الصوم والصدقة الضاربة جذورها في الكتب المقدّسة. فالصوم الذي يرتضيه الله، وقد أعلنه بلسان أشعيا النبي إنّما هو "كسر خبزك للجائع، وإدخال البائسين بيتك، وكسوة العريان، وعدم إهمال مَن هم في حاجة (أش 58: 7)، فضلًا عن أعمال الرحمة الأخرى من مثل: "حلّ قيود الشّر، وفكّ ربط النير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا" (أش 58: 6).

20. نقرأ في رسالة البابا فرنسيس لصوم هذه السنة انّ "الصدقة تحرِّرني من الجشع، وتساعدني على اكتشاف الآخر أخًا لي. فما أمتلكُ ليس أبدًا مُلكًا لي وحدي، بل يقتضي منّي أن أتقاسمه مع المحتاج، كما فعل الرسل والمؤمنون في الكنيسة الناشئة" (راجع أعمال الرسل 2: 44-45).

في هذا الإطار البيبلي تدخل حملة رابطة كاريتاس لبنان، وهي جهاز الكنيسة الاجتماعي الرسمي في الرعايا والكنائس والمؤسّسات وعلى الطرقات، من 11 شباط إلى 22 نيسان. كما حملات سواها من المؤسسات الخيرية وكلّها مشكورة، بالإضافة إلى المبادرات الفردية والجماعية الأخرى.

ويضيف البابا فرنسيس: "كلّ صدقة هي مناسبة للتعاون مع عناية الله بأبنائه. إذا كان الله يحتاجني اليوم ليساعد أخًا لي، فكيف لا يهتمّ غدًا بحاجاتي، هو الذي لا ينغلب في السخاء!"

ونودّ القول انّ ممارسة الصدقة في زمن الصوم الكبير دعوة وتمرّس كي تصبح محبّة اجتماعية وجزءًا من حياتنا اليوميّة، كما فصَّلنا ذلك في رسالتنا العامّة الخامسة: "خدمة المحبة الاجتماعية" (2017).

* * *

ثالثًا، توجيهات راعوية

1- الصوم الكبير

21. يدوم هذا الصوم سبعة أسابيع، استعدادًا لعيد الفصح. يبدأ في اثنَين الرماد، وينتهي يوم سبت النور ظهرًا. ويقوم على الامتناع عن الطعام من منتصف اللَّيل حتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وعلى القطاعة عن اللّحوم والحليب ومشتقّاته والبيض.

يُفسَّح من الصوم والقطاعة أيّام السبوت والآحاد والأعياد التالية: مار يوحنا مارون (2 اذار) والأربعين شهيدًا (9أذار) ومار يوسف (19 اذار) وعيد شفيع الرعيّة. امّا طيلة أسبوع الآلام من الاثنين إلى سبت النور فيبقى الصوم والقطاعة إلزاميَّين.

22. يُعفى من الصوم والقطاعة على وجه عام المرضى والعجزة الذين يفرض عليهم واقعهم الصحي تناول الطعام ليتقووا وخصوصًا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاع صحية خاصة ودقيقة، بالإضافة إلى المرضى الذين يخضعون للاستشفاء المؤقت أو الدوري. ومعلوم أن الأولاد يبدأون الصوم في السنة التي تلي قربانتهم الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في إيام الدراسة.

إنّ الذين يُعفون من شريعة الصوم والقطاعة مدعوّون للاكتفاء بفطور قليل كافٍ لتناول الدواء.

ونظرًا لمقتضيات الحياة وتخفيفًا عن كاهل المؤمنين والمؤمنات، تبقى شريعة القطاعة إلزاميّة، في الأسبوعين الأوّل والأخير من الصوم الكبير، على أن يعوّض مَن لا يستطيع الالتزام بالقطاعة في الأسابيع الأخرى بأعمال خير ورحمة.

2- صوم الرسولين بطرس وبولس والرسل الاثنَي عشر

23. هذا الصوم معروف "بقطاعة الرسل"، فيقوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقّاته والبيض، من 17 إلى 28 حزيران.

3- صوم انتقال السيّدة العذراء

24. هذا الصوم معروف "بقطاعة السيّدة"، ويقوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقّاته والبيض من 7 آب، بعد عيد الربّ إلى 14 منه.

4- صوم الميلاد

25. يقوم هذا الصّوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقّاته طيلة فترة تساعية الميلاد التي تمتدّ من 16 إلى 24 كانون الأوّل.

5- القطاعة يوم الجمعة

26. تقوم هذه القطاعة على الإمتناع عن أكل اللحوم والحليب ومشتقّاته والبيض كلّ يوم جمعة على مدار السّنة.

يُستثنى يوم جمعة أسبوع المرفع، وأيّام الجمعة الواقعة بين عيدَي الفصح والعنصرة، وبين عيدَي الميلاد والدّنح. وتُستثنى أيّام الجمعة التي تقع فيها الأعياد التّالية: ختانة الطّفل يسوع (أوّل كانون الثاني)، عيد مار أنطونيوس الكبير (17 كانون الثاني)، دخول المسيح إلى الهيكل (2 شباط)، عيد مار مارون (9 شباط)، عيد مار يوحنا مارون (2 آذار)، عيد الأربعين شهيدً (9 أذار) عيد مار يوسف (19 آذار)، عيد بشارة العذراء (25 آذار)، عيد القديسَين الرّسولَين بطرس وبولس (29 حزيران)، عيد الرّسل الإثنَي عشر(30 حزيران)، عيد التجلّي (6 آب)، عيد إنتقال العذراء (15 آب)، عيد قطع رأس يوحنا المعمدان (29 آب)، عيد ميلاد العذراء (8 أيلول) عيد إرتفاع الصّليب المقدّس (14 أيلول)، عيد الحبل بسيّدتنا مريم العذراء بلا دنس (8 كانون الأوّل)، عيد ميلاد الربّ يسوع (25 كانون الأوّل)، عيد شفيع الرّعيّة، عيد قلب يسوع.

6- الصّوم القرباني

27. هو الإنقطاع عن الطّعام إستعدادًا لتناول القربان الأقدس خلال الذبيحة الإلهيّة، أقلّه ساعة قبل بدء القدّاس الإلهي للمحتفل، وساعة قبل المناولة للمؤمنين، هذا بالإضافة إلى حالة النّعمة والحشمة في اللباس والتخشّع، واستحضار المسيح الربّ الحاضر تحت شكلَي الخبز والخمر.

الخاتمة

28. زمن الصوم الكبير هو المناسبة السنوية المقدّسة التي فيها نرمّم علاقتنا المثلّثة: الأولى مع الله، بالتوبة إليه والصلاة والاستنارة بكلامه؛ والثانية مع الذات بالصوم والقطاعة وتحرير الإرادة من ضعفها وعبودياتها؛ والثالثة مع إخوتنا المعوزين بالتصدّق عليهم لا بروح التعالي والانزعاج، بل بروح التقاسم وبدافع من المحبّة. وهكذا، من خلال هذا الترميم المثلّث الأبعاد، نستعدّ لفصح المسيح الذي هو فصحنا بنعمة موته فداءً عن خطايانا، ونعمة قيامته لتبريرنا (راجع روم 4: 25).

وإنّا من صميم القلب نتمنّى لكم جميعًا صومًا مباركًا وفصحًا قادمًا مباركًا.

مع محبّتي وصلاتي وبركتي الرسولية.