موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣١ مارس / آذار ٢٠١٣
رسالة البطريرك اغناطيوس يوسف الثالث يونان لعيد الفصح 2013

بيروت - الشماس حبيب مراد :

باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بمراحم الله، بطريرك الكرسي الرسولي الأنطاكي للسريان، إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الاحترام، وأولادنا الخوارنة والكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة الأفاضل
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المباركين بالرب، نهديكم البركة الرسولية والنعمة والمحبة والسلام بمخلّصنا يسوع المسيح: "لأنّنا إذا شاركناه في آلامه، نشاركه في مجده أيضاً".

1. مقدّمة: محورية القيامة

في مثل هذه الأيّام من كلّ عام، نحيي بشكلٍ فريد ومميّز حدث قيامة الرب يسوع من بين الأموات، وهو ملء الفداء الذي أتمّه المخلّص بآلامه وموته وانبعاثه ممجَّداً من القبر. مع المسيح نتألّم، ومعه نموت عن الخطيئة، ومعه نقوم لحياة جديدة، كي نشاركه في مجد سعادة السماء.

بعد أن دخل يسوع إلى أورشليم يوم الأحد راكباً جحشاً بن آتان بتواضعٍ منقطع النظير، أسّس السرّ الفصحي من خلال ثلاثية خميس الأسرار وجمعة الآلام العظيمة وسبت النور. هذا السرّ ليس فقط تذكاراً لحدثٍ من الماضي، بل هو حاضرٌ على الدوام بالشكل الأسراري من خلال حياة النعمة بالروح القدس. وهذا ما عناه مار بولس رسول الأمم بقوله: "فأعرفه وأعرف قوة قيامته والمشاركة في آلامه، فأتمثّل به في موته، لعلّي أبلغ القيامة من بين الأموات" (في 3: 10 ـ 11)، وقوله أيضاً: "لأنّنا إذا شاركناه في آلامه، نشاركه في مجده أيضاً" (روم 8: 17).

2. من الصليب إلى القيامة

إنّ المسيح كلمة الله المتأنّس، المسمَّر على خشبة الصليب، هو ذبيحة فداء عن البشرية جمعاء، إتماماً لإرادة الآب الخلاصية، وتحقيقاً لسرّ محبّته العظمى: "لقد تمّ كلّ شيء" (يو 19: 30)، و"يا أبتِ، بين يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). هو ملك المحبّة التي تفوق كلّ كنوز الأرض، ورغم هول الصليب يفكّر الفادي بنا، فيسلّم أمّه مريم الأمومةَ الشاملة لجميع الناس ولكلّ واحدٍ منهم، بشخص يوحنّا الحبيب، هم الذين تركوه وخذلوه وصلبوه: "يا امرأة هذا ابنكِ، ويا يوحنّا، هذه أمّكَ" (يو 19: 26 ـ 27). إنّ مأساة الصليب متواصلة بسبب خطايا كلّ إنسان، لكنّ ذبيحته دائمة في سرّ الإفخارستيا، أي تجديد العشاء الفصحي، تكفيراً عن خطايا كلّ واحدٍ منّا.

في باعوث (طلبة) مار أفرام بحسب طقس يوم الجمعة العظيمة، يتأمّل آباؤنا السريان بالابن المصلوب الذي آلف ووحّد بين أقطار المسكونة الأربعة بواسطة الصليب الرباعيّ الأبعاد، محوّلاً إيّاه من مصدرٍ للعار واللعنة إلى مَعينٍ للبركات والخيرات: "ܡܬܰܚ ܢܰܦܫܶܗ ܒܰܪ ܐܰܠܳܗܳܐ ܥܰܠ ܩܰܝܣܳܐ ܕܰܨܠܺܝܒܽܘܬܳܐ܆ ܘܒܰܦܫܳܛܳܐ ܕܬܰܪܬܶܝܢ ܐܺܝܕ̈ܰܘܗܝ ܐܶܚܰܕ ܠܰܐܪܒܰܥ ܦܶܢܝ̈ܳܬܐ. ܐܳܘ ܨܠܺܝܒܳܐ ܕܰܡܠܶܐ ܚܶܣܕܳܐ ܘܢܳܒܥܳܐ ܡܶܢܶܗ ܚܰܠܝܽܘܬܳܐ܆ ܩܒܺܝܥܳܐ ܒܶܗ ܠܰܘܛܰܬ ܚܰܘܳܐ ܘܰܡܠܶܐ ܟܽܠܶܗ ܒܽܘܪ̈ܟܳܬܳܐ". وترجمته: "مدّ ابن الله نفسه على خشبة الصليب، وببسط يديه الإثنتين ضبط الجهات الأربع. أيها الصليب المملوء عاراً ومنه تنبع الحلاوة، إنّ لعنة حواء قابعة فيه وهو المفعم بالبركات".

كتب المفكّر المسيحي الفرنسي باسكال: يوجد في العالم ثلاث مراتب من العظمة: مرتبة المادّيات، وفوقها مرتبة الفهم الخارق، وفوق الإثنتين، مرتبة الحبّ والجودة التي هي ميزة الإله المتأنّس، يسوع المسيح، وتُسمّى مرتبة القداسة. إلى هذه الأخيرة ينتمي المسيحيون، بحكم دعوتهم. وقد تجلّت لنا بسموّها على خشبة الصليب، ومنها وُلدت البشرية الجديدة المتمثّلة بالكنيسة، "جسد المسيح السرّي"، بتعبير القدّيس بولس، أو "المسيح الكلّي" بتعبير القدّيس أوغسطينوس.

3. من الآلام إلى المجد

حقّق يسوع، من خلال الألم، فداءَ البشرية، ففي سيره على درب الآلام وارتفاعه على خشبة الصليب، قضى على عبثية الألم والموت، واهباً الإنسان النعمة والتبرير. وها هو يشرح حقيقة هذا الأمر حينما قال لتلميذَي عمّاوس: "يا قليلَي الفهم وبطيئَي القلب عن الإيمان بكلّ ما تكلّم به الأنبياء، أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟" (لو 24: 25 ـ 26).

ومثلما دخل يسوع بآلامه إلى المجد، هكذا كان نصيب رُسُله من هذه الآلام التي أدخلتهم، هم أيضاً، إلى المجد السماوي: "ما كان الخادم أعظم من سيّده" (يو 15: 20). ولا يزال نصيب الآلام، حتّى يومنا هذا، طريق المؤمن إلى ملكوت السماوات، فكم من الآلام نعاني، جسدية ونفسية، مادّية ومعنوية!

لم يأتِ المسيح لينهي الآلام ويزيل الضيقات والصعوبات، بل جاء ليعلّمنا كيف نتغلّب على الألم ونجعل منه طريقاً إلى الملكوت، وكيف نداوي الجراح بزيت الغفران وبلسم المحبّة. يقول بطرس الرسول: "لهذا دُعيتم، فقد تألّم المسيح أيضاً من أجلكم وترك لكم مثالاً لتقتفوا آثاره" (1 بط 2: 21). والأثرُ الأكبر الذي تركه لنا، محبّتُه الكُبرى التي أوصلته إلى بذل ذاته على الصليب. وما يجعلنا نتغلّب على مرارة الألم هو عيشنا وصية الرب بمحبّة بعضنا البعض كما أحبّنا هو، لننتقل معه من الموت إلى الحياة. ويوضح القدّيس يوحنّا ذلك في رسالته الأولى بقوله: "نحن نعلم أنّنا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نُحبّ إخوتنا، مَن لا يحبّ بقي رهن الموت" (1 يو 3: 14).

لا تقف القيامة ومفاعيلها عند حدود الحياة الروحية فقط، بل تتعدّاها لتبلغ بها إلى الحياة الخلقية والاجتماعية والسياسية. والبابا الطوباوي يوحنّا بولس الثاني يقول: "فالفداء القائم على الصليب والموت والقيامة يشكّل الحدّ الإلهي للشرّ، بحيث أنّ الشرّ أضحى مغلوباً جذرياً بالخير، والبغض بالحبّ، والصليب والموت بالقيامة" (يوحنّا بولس الثاني، ذاكرة وهوية، صفحة 35).

4. جراح المسيح علامة فارقة للقيامة

إنّ توما، أحد التلاميذ الإثني عشر، وقد شكّ بالقيامة، جثا ساجداً أمام المخلّص، معلناً إيمانه بقيامته، بعد أن تلمّس جراح الصلب وطعنة الحربة التي أصبحت، بالنسبة إليه، علامات فارقة (يو 20: 24 ـ 29).

لم تُلغِ القيامة جراح المسيح، بل بقي جسده موسوماً بها ليؤكّد أنّ "المحبّة أقوى من الموت". فآثار المسامير وطعنة الحربة لم تشوّه منظره، بل جعلته أكثر إشراقاً.

إنّ أحد اللاهوتيين يشبّه هذه السمات "بالأوسمة التي زيّنت جسده بعد انتصاره على الخطيئة والشرّ". وسيحمل الفادي جراحه إلى
السماء لأنّها هي التي ستكون أبلغ شاهدٍ لشفاعته لدى الله الآب من أجل الخطأة: "هو الذي حَمَل خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن خطايانا فنحيا للبِرّ. وهو الذي بجراحه شفيتم" (1 بط 2: 24). وقد أطلق الفنّانون العنان لمخيّلاتهم في رسم صُوَر المسيح، فنجد في جميع لوحاتهم آثار الجراح في يدَيه ورجليه وجنبه تأكيداً لهذه الحقيقة اللاهوتية: إنّه لولا العذاب لما كان الفداء، ولولا إكليل الشوك لما كان إكليل المجد.

5. من الحزن إلى الفرح

ما يشدّ الانتباه في حادثة ظهور يسوع لتلاميذه أنّهم فرحوا لمشاهدته بعد أن أراهم يدَيه وجنبه. فلم يكن فرحهم بخبر القيامة بقدر ما كان الفرح بشخص القائم من بين الأموات الحامل علامات الصليب. وهذه إشارة إلى أنّ العذاب ليس طريق المجد وحسب، بل هو أيضاً طريق الفرح، إذا ارتضيناه مع المسيح ومن أجله. كما أنّ "الرسل انصرفوا من المجلس فرحين بأنّهم وُجدوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل اسم يسوع" (أع 5: 41).

يدعو بطرس الرسول إلى فرح الاشتراك في عذابات المسيح: "افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه، حتّى إذا تجلّى مجده كنتم في فرح وابتهاج" (1 بط 4: 13). ويعبّر بولس الرسول عن فرحه بالعذابات التي يتحمّلها: "يسرّني الآن ما أعاني لأجلكم، فأتِمّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح، في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (كول 1: 24)، "قد امتلأتُ بالعزاء وفاض قلبي فرحاً في شدائدنا كلّها" (2 قور 7: 4).

لقد أنبأ المسيح بهذا الفرح الناتج من العذاب حين قال لتلاميذه في أثناء العشاء الأخير: "الحقّ الحقّ أقول لكم: ستبكون وتنوحون، وأمّا العالم فيفرح. ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحاً... وما من أحد يسلبكم هذا الفرح" (يو 16: 20 ـ 22).

يعيش الناس في حياتهم اليومية أنواعاً شتّى من الألم والمعاناة، فأفراد العائلة يعانون ويتألّمون لإصابة أحدهم بمرضٍ عضال، أو لخيانة زوجية، ويتألّم الأفراد والجماعات بسبب فراقٍ أو خيانةٍ أو غدر. إلا أنّ المؤمن يُطلَب منه أن يفرح، حتّى في عذاباته، ولا يعني ذلك إنكار الإحساس البشري والشعور الإنساني، أو الاستكانة الراضخة لصعوبات الحياة وتحدّياتها، أو التلذّذ المرضي بالألم والتعبّد الخاطئ بإذلال الجسد. إنّما الفرح في العذاب عند المؤمن ينبع من التسامي فوق الألم، فلا يرزح تحت وطأته، بل يجعله باباً للدخول في المجد السماوي: "إنّ آلام الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلّى فينا" (روم 8: 18). ويفرح المسيحي في عذاباته لأنّه يتمثّل بالمسيح الذي تحمّل الآلام والصليب. فمَن لا يحمل صليبه كلّ يوم ويتبعه ليس أهلاً له (مت 10: 38).

في معرض التعبير عن الفرح بالقيامة، تؤكّد صلوات رتبة السلام التي تحتفل بها كنيستنا السريانية في قداس العيد، أنّ القيامة هي زمن الفرح والسرور للسماء والأرض، وهي مجلبة الأمن والسلام: "ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܚܳܕܶܝܢ ܒܶܗ ܫܡܰܝܳܐ ܘܰܐܪܥܳܐ ܘܟܽܠ ܕܰܒܗܽܘܢ܆ ܕܒܶܗ ܩܳܡ ܡܳܪܰܢ ܡܶܢ ܩܰܒܪܳܐ ܘܰܐܒܗܶܬ ܐܶܢܽܘܢ ܠܨܳܠܽܘ̈ܒܶܐ... ܘܝܰܗ̱ܒ ܗܘܳܐ ܠܳܗ̇ ܠܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܫܠܳܡܳܐ ܘܫܰܝܢܳܐ ܐܰܡܺܝܢܳܐ". وترجمته: "في هذا العيد تفرح وتبتهج السماء والأرض وكلّ ما فيهما، إذ فيه قام ربّنا من القبر وأخزى الصالبين... ومنح الكنيسة المقدّسة السلام والأمان الدائم".

6. الكنيسة الجامعة في فرح وعيد

منذ بضعة أسابيع، وبعد حبرية عابقة بعطر رائحة المسيح الزكية، تلك التي ملأت أجواء لبنان الحبيب بالبركة والوداعة، أضحى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر لنا المثال، مقدّماً للعالم كلّه أمثولةً عظيمةً عن أنّ الإيمانَ فعلُ حبٍّ كبير للمسيح وكنيسته، وفعلُ تسليمٍ مطلق لإرادة الله، وفعلُ تواضعٍ وتجرّدٍ عميق من الذات، وهو المتسامي فضيلةً وعلماً. فأعلن استقالته، بالغاً الذروة في مفهوم المسؤولية وفي الشجاعة على ممارستها.

وقد أنعم الله على كنيسته ببابا جديد، يحمل المشعل ويتابع المسيرة، متقدّماً أبناء الكنيسة الجامعة وبناتها، وسائراً بهم إلى مروج العزّ والفضيلة. إنّه البابا فرنسيسكو، هذا الإنسان المتواضع، الوديع، المحبّ الفقراء والضعفاء والمحتاجين والمهمَّشين، مقتفياً إثر المسيح وناهجاً على خطى أسلافه العظام.

إننا نصلّي ضارعين إلى الرب الإله كي يمنحه الصحة والعافية، ويأخذ بيده لما فيه خير الكنيسة المقدّسة التي تسير في بحرٍ متلاطم الأمواج، فيقودها إلى ميناء الأمان والسلام.

7. صدى العيد في شرقنا والعالم اليوم

تعيش منطقتنا الشرق أوسطية هذه الأيّام حالةً من عدم الاستقرار والقلق، إذ تعاني دولٌ عدّة فيها حروباً وصراعات ونزاعات تهدّد وجودها ومستقبل مواطنيها. فتغيب عن كثيرين منهم فرحة العيد ليحلّ مكانها الحزن والألم.

إننا، ومن موقعنا كرعاة روحيين مؤتمَنين على حياة أبنائنا وخلاص نفوسهم، نكرّر مع ذوي الفطنة والحكمة شجبَنا وإدانتَنا لاستعمال العنف والسلاح بحجّة نشر الديمقراطية وأفكار الإصلاح. إنّ مفهوم الديمقراطية، أي ممارسة الشعب حقَّه في تنظيم حياته المدنية، يعني مسيرةً حضاريةً هدفها حياة الإنسان وليس موته. فلا سبيل لنشر الديمقراطية الحقّة ولتفعيل المساواة في المواطنة بين الجميع في البلد الواحد، بغضّ النظر عن العدد أو العرق أو الدين، إلا بالجلوس على طاولة المفاوضات عبر الحوار البنّاء، وانتهاج لغة العقل بالاحترام المتبادل. وهذا يتطلّب شجاعةً تزيل ما ترسّب من اتّهاماتٍ وآثارٍ سلبية للنزاعات.

إننا ندرك أنّ ما تكابده شعوبٌ عدة في مشرقنا، من مختلف أشكال الترهيب والتنكيل والأخطار التي تهدّد الحياة والكيان، هو تحدٍّ كبير أرغم الكثيرين من أبنائنا على مغادرة ديارهم وترك ممتلكاتهم، بحثاً عن مكانٍ ينعمون فيه بالأمان والطمأنينة. منهم من نزح إلى مناطق أكثر أمناً ضمن البلد الواحد، وآخرون هاجروا بلاد المنشأ بحثاً عن عيشٍ حرّ ومستقبل كريمٍ في بلدٍ غريب.

لا تزال أفكارنا وقلوبنا ومشاعرنا متوجّهةً خصوصاً إلى سوريا الجريحة، التي يعاني مواطنوها صراعاتٍ ومعارك دامية تتفطّر من جرائها الأكباد. وها هي سوريا يسودها الخراب والدمار والتفتّت يوماً بعد يوم. وها هم عشرات الأبرياء يسفكون دماءهم على مذبح الوطن، والاقتصاد في حالة تقهقُر، ومؤسّسات الدولة والمجتمع المدني تتكبّد الأضرار الفادحة.

أمام هول المآسي والآلام التي فُرِضت على الشعب السوري ظلماً وبهتاناً، لا يسعنا إلا أن نجدّد محبّتنا وتضامننا ومشاركتنا الصلاة الحارة من أجل جميع المواطنين في سوريا، وبخاصة أبنائنا وبناتنا في أبرشياتنا السريانية الأربع في دمشق وحمص وحلب والجزيرة، رعاةً روحيين وإكليروساً ومؤمنين. ونحن نتوجّه إليهم، بثقةٍ وإيمانٍ ببشرى السلام التي حملها القائم من بين الأموات، متيقّنين أنّ درب الآلام التي يعانونها الآن لا بدّ وأن ينبلج في نهايتها فجر القيامة.

كما نهيب بجميع الأطراف المتنازعين، أن يحكّموا ضميرهم الأخلاقي وحسّهم الوطني، فلا يتأثّروا بأيّ ضغطٍ أو إملاء من أيّ جهةٍ أتى، بل يعتمدوا جميعاً لغة الحوار والتفاهم والمصالحة، نابذين لغة السلاح والعنف والتطرّف التي لن تؤدّي إلا إلى المزيد من القتل والدمار وتفتيت الوطن. وإذ نسأل للشهداء الرحمة، ندعو للجرحى والمصابين بالشفاء والتعافي، وللمفجوعين بفقد عزيز بنعمة الصبر والتعزية السماوية. ,,,

ولا يغيب عن بالنا العراق، بلاد الرافدين، البلد الأمّ لعددٍ كبيرٍ من المواطنين المعذَّبين، الذي لا يزال يعاني ويتألّم. إننا نحثّ جميع مكوّناته على التعاضد وشبك الأيدي للنهوض به وإحلال الأمن والسلام في ربوعه، وذلك بنبذ شرور الطائفية والعصبية والقبلية التي تقف عائقاً أمام تقدّمه وازدهاره.

ونوجّه محبّتنا وصلاتنا بشكلٍ خاص إلى أبناء أبرشياتنا هناك، سيّما في بغداد والموصل وسهل نينوى وإقليم كردستان والبصرة، مشجّعينهم على مواصلة الشهادة للرب في هذا البلد العزيز، فهم مكوِّنٌ أصيلٌ ومؤسِّسٌ فيه. كما نحيّي بالمحبّة مهنّئين غبطة أخينا البطريرك الجديد للكنيسة الكلدانية مار لويس روفائيل الأوّل ساكو، وقد شاركنا بفرح في حفل توليته في بغداد منذ ثلاثة أسابيع، راجين أن يكون عهده مدعاة خير وبركة للمؤمنين هناك.

إننا نهنّئ أبناءنا وبناتنا في الأردن، بمناسبة عيد القيامة المجيدة، متمنّين لهم كلّ خير، ولبلدهم دوام التطوّر والازدهار.

كما نتوجّه بالمعايدة إلى أبنائنا وبناتنا في الأراضي المقدّسة، ونصلّي من أجلهم كي يقوّيهم الرب لأداء الشهادة لإنجيل المحبّة والسلام.

أما مصر، فقد زرناها منذ أسبوعين، وشاركنا في حفل تولية غبطة أخينا الأنبا ابراهيم اسحق البطريرك الجديد للأقباط الكاثوليك، وزرنا قداسة أخينا الأنبا تاوضروس الثاني بابا الأقباط الأرثوذكس، وشكرنا الله لما لمسنا من محبّة أخوية وتضامن كلّي بين الرعاة الروحيين والمؤمنين هناك. وإنّنا فيما نهنّئ أبناء كنيستنا هناك بالقيامة المجيدة، نضرع إلى الفادي المنبعث أن يحلّ أمنه وسلامه في هذا البلد، بالوحدة والألفة بين مواطنيه على تنوُّع انتماءاتهم.

وبهذا العيد المجيد، لا يفوتنا أن نعايد أبناءنا وبناتنا في تركيا، متمنّين لهم أيّاماً هانئة، ومثمّنين دورهم وعملهم في المحافظة على الوجود التاريخي لكنيستنا وشعبنا السرياني هناك.

أما لبنان، وطننا الحبيب، الذي لا يزال يعاني الإنقسامات والتشنّجات بين أبنائه، والتي تزداد خطورتها، سيّما بعد استقالة الحكومة وانتظار تشريع قانون انتخابي تتوافق عليه أقلّه الأغلبية.

إنّ الواجب يدعونا إلى إيقاظ اللبنانيين على ما وصلوا إليه من سوء حال، والإهابة بهم إلى تناسي خلافاتهم الشخصية والحزبية والطائفية، والاستماع إلى صوت الضمير في ظلّ الوضع الخطير الذي نعيشه اليوم، سيّما على المستوى الأمني والمعيشي والاقتصادي والاجتماعي. هذا الأمر يقتضي من أصحاب الإرادات الصالحة العمل على رصّ الصفوف، وجمع القوى، للنهوض بالوطن من كبوته. وهذا لن يكون بالهرب من الواقع وبتجاهله، بل بمعالجته بالحكمة والرويّة، وبما يستوجبه من دقّة، وبالعودة إلى الروحية التي وضعت أسس العيش الواحد بين اللبنانيين.

من هنا ندعو القيّمين على شؤون البلاد أن يتحلّقوا حول فخامة رئيس الجمهورية، على طاولة حوار صريح وحضاري، ويبادروا إلى تأليف حكومة تكون قادرة على مواجهة التحدّيات التي تعصف بالوطن، وتجري الانتخابات النيابية التي يجب أن تتمّ وفق قانونٍ انتخابي يؤمّن التمثيل العادل والشامل لكلّ مكوّنات المجتمع وفئاته.

أمّا أبناؤنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا وأميركا وأستراليا، فإننا نهنّئهم بهذا العيد المجيد، معبّرين لهم عن محبّتنا الأبوية وافتخارنا بهم، ممتدحين إيمانهم والتزامهم بكنيستهم الأمّ وتعلّقهم الدائم ببلاد نشأتهم. وقد قمنا في شهر شباط المنصرم بزيارة مؤمنينا المنتشرين في أستراليا، وفرحنا كثيراً بما لمسناه لديهم من شعور كنسي وتعلُّق بالشرق.

وإذ نؤكّد حرصنا على متابعة شؤون كنائسنا في بلاد الانتشار، نحثّ أبناءنا هناك على التواصل الدائم مع الكنيسة والوطن في الشرق، والحفاظ على وديعة الإيمان والتراث السرياني الأصيل ونقلهما إلى الأجيال اللاحقة، حتى تتعزّز الشهادة الواحدة لإيماننا وتراث كنيستنا.

8. خاتمة: القيامة تنقلنا من الخوف إلى السلام:

يؤكّد قداسة البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر في رسالته "الشخص البشري قلب السلام"، أنّ السلام ينبع من قلب الإنسان: "بما أنّ الفرد البشري مخلوق على صورة الله... فهو مدعو، بفعل النعمة، إلى إنضاج قدرته على المحبّة، وتطوير العالم، بتجديده إيّاه في العدالة والسلام الذي هو نعمة وعطية من الله ومهمّة... إنه (أي السلام) يتجلّى في خلق الكون وفي افتداء البشرية من فوضى الخطيئة... فالخلق والفداء يمهّدان لفهم معنى وجودنا على الأرض" (من رسالته "الشخص البشري قلب السلام"، فقرة 2 و3).

بعد أن خيّم الحزن على التلاميذ في أثناء العشاء السرّيّ بسبب قرب فراق معلَّمهم، يسكّن يسوع روعَهم بقوله: "السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم" (يو 14: 27). وبعد موته ودفنه، يحضر في وسطهم ليهدّئ اضطرابهم، مردّداً تحيّة السلام، ليعلّمنا أنّنا بالسلام نستطيع أن نقهر الشرّ ونمحو الخوف ونزرع الوفاق.

أيها الأحبّاء، إنّ معنى احتفالنا السنوي بشكلٍ خاص بقيامة يسوع هو أننا مدعوون كي نقوم معه من ظلمة الخطيئة إلى نور النعمة، وأنّ بلاد هذا المشرق المعذَّب مدعوّة أيضاً لتقوم بوجهٍ مضيءٍ، متغلّبةً على كلّ آثار الشرور وتداعيات الصراعات العنيفة وشبح اليأس في مسيرتها الزمنية على هذه الأرض.

نجدّد التهنئة بهذا العيد المجيد، سائلين الرب يسوع القائم من بين الأموات أن يعيده عليكم جميعاً بالخير والبركة، بشفاعة والدته القدّيسة مريم وجميع القدّيسين والشهداء. ولتشملكم جميعاً بركة الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

ܡܫܺܝܚܳܐ ܩܳܡ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܡܺܝ̈ܬܐ܆ ܫܰܪܝܪܐܝܬ ܩܳܡ
مشيحو قوم من بيت ميثيه، شاريروإيث قوم المسيح قام من بين الأموات، حقاً قام
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان
في اليوم السابع والعشرين من شهر آذار عام 2013،
وهي السنة الخامسة لبطريركيتنا,