موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٤ يناير / كانون الثاني ٢٠١٥
"راحيل" عجوز مسيحية عاشت مع "داعش" شهوراً

أربيل - النقاش :

تحولت "راحيل" المسيحية المسنة إلى بطلة بعدما عاشت بمفردها في بلدة مسيحية شرقي نينوى هجرها سكانها هرباً من تنظيم داعش الذي اعتقل العجوز شهوراً قبل أن يخلي سبيلها قبل أيام مع تسعة مسنين آخرين كانوا محتجزين جميعاً في الموصل.

عندما رأت صورتها تتصدر الصحف تذكرت اللحظة التي وقفت فيها على أرض لا يسيطر عليها "داعش" وتذكرت أيضاً كيف غادرت الحافلة التي نقلتهم إلى مشارف كركوك، لتتأكد أنها تخلصت من شبح الموت أخيراً.

راحيل اصبحت استثناء عن جميع سكان بلدة كرمليس (30 كلم شرق الموصل) البالغ عددهم خمسة آلاف نسمة، إذ رفضت مغادرتها عندما بسط المتطرفيون سيطرتهم على سهل نينوى معقل المسيحيين العراقيين مطلع آب 2014، وعاشت هناك لوحدها إلى جانب المسلحين المتشددين الذين نشروا الرعب في عموم البلاد.

بعد رحلة شاقة استمرت يومين وصلت العجوز إلى أربيل قادمة من الموصل، إذ مرّ إسبوع على وجودها بين أقاربها في مخيّم للنازحين ببلدة عينكاوا شمالي أربيل، ومازالت الآذان تتسابق لسماع حكاية الأشهر الخمسة الماضية التي قضتها بين كرمليس والموصل.

كثيرون تحمسوا لمعرفة ردة فعل المسلحين وهم يشاهدون العجوز أول مرة، والطريقة التي تعاملوا بها معها طوال فترة بقائها بينهم.

تجيب راحيل "عند دخولهم القرية سألوني ما منعك من الفرار، قلت لهم إنني قضيت 71 عاماً من عمري هنا ولن أغادر مهما فعلتم بي".

وتتابع "طوال مدة بقائي في القرية لوحدي من الرابع من آب لغاية 24 تشرين الأول كنت أجول الشوارع كلها، متحدية تحذيراتهم لي، حتى إنهم اطلقوا النار في الهواء كذا مرة لإجباري على عدم الخروج".

"مع هذا فقد تكفلوا بتوفير الطعام والماء لي، كما تراوحت معاملتهم بين اللين والقسوة، لأن العناصر كانوا يتغيرون باستمرار"، تواصل سرد حكايتها.

العجوز هي الشاهد الوحيد على عمليات سلب ونهب المنازل والمزارع والممتلكات كلها "الاشياء التي لم يستطيعوا نقلها عمدوا على تخريبها بما فيها خزانات الماء" تقول مجيبة على تساؤلات بعض سكان كرمليس عن أحوال منازلهم وممتلكاتهم.

يبدو إن علاقة راحيل بداعش لم تكن سلمية دائماً، إذ التفتت لابن عمها شماس كنيسة كرمليس، لتخبره أنها حافظت على منزله، حتى مغادرتها القرية ولم تسمح لهم بسرقته حتى صورة والديه انزلتها من الجدار وحفظتها في موضع آمن.

"وماذا عن زجاجات البيرة المعتّقة هل حطموها"؟ قاطعها غانم فأجابته "لا لم يحطموها بل أخذوها معهم" ضجَ المخيّم بالضحك.

الجزء الأصعب كان إجبارها على مغادرة القرية، إذ يبدو إن المسلحين يأسوا من إقناعها بالرحيل، فجلبوا إحدى سيارتهم لينقلوها رغماً عنها إلى دار العجزة والمسنين في الموصل.

وهي تسرد هذا الجزء بصوت حزين، بادرها أحد الأطفال بالسؤال عن مصير (استقرارة) فقالت "المسكينة تركتها وصوت موائها ما زال يتردد في أذني، وضعت لها كمية كبيرة من الطعام قبل المغادرة.

"استقرارة" هي آخر قطة لراحيل المولعة بتربية الحيوانات، هي لم تتزوج من قبل وليس لها عائلة فشقيقيها يقيمان خارج البلاد، لذا تعامل القطط كبنات لها.

عندما وصلت دار المسنين تحسنت أوضاعها حيث تم وضعها في غرفة تضم امرأتين مسيحيتين وبدأت تلتقي بموظفي الدار، صار لديها أناس تتحدث إليهم لكنها لم تفتقد عناصر داعش لأنهم يزورون الدار باستمرار لإقناع المسيحيين فيه باعتناق الإسلام.

في هذه الأثناء علم أقاربها إنها في الموصل "استطعت أن أتكلم معها هاتفياً بوساطة أحد الأشخاص، عندها تأكدت أنها ما زالت على قيد الحياة" يقول الشماس غانم.

يبدو إن قدر العجوز مليء بالمغامرات، إذ حاول الشماس إخراجها من الدار وجلبها إلى أربيل بواسطة الرجل الذي أمّن الاتصالات بينه وبينها مقابل المال، لكن الرجل حصل على المال ثم اختفى دون الإيفاء بوعده.

المحطة التي لا تُنسى في القصة هي محكمة داعش، إذ لم تغادر الدار سوى مرة واحدة يومها تم نقلها مع آخرين إلى مقر المحكمة الشرعية للبت بأمرهم، وعندها فقط علمت بوجود سبعة رجال مسيحيين في الدار نفسها، إذ صعدوا جميعا في حافلة واحدة.

تواصل راحيل دون ملل سرد حكايتها "وقفنا أمام شاب ملتحٍ دعانا لاعتناق الإسلام مستشهداً بآيات قرآنية وأحاديث النبي محمد لنحو نصف ساعة، ثم أمر بإعادتنا للدار بعدما أعطى الجميع نسخاً من القرآن".

بعد أيام من المثول أمام القاضي الشرعي، ابلغت إدارة الدار المسيحيي بأنهم سينالون حريتهم ويُنقلون إلى عائلاتهم "يومها لم نصدق إن كابوسنا سينتهي ونلتقي أهلنا مجدداً" تقول راحيل وهي ممسكة بكف الشماس غانم.

في صباح اليوم التالي صعدوا إلى الحافلة ذاتها، تحركت سالكة الطريق المؤدي إلى كركوك، لم يصدق الركاب بأنهم يغادرون إلى خارج المدينة فقد ظنوا إن المتشددين يقودونهم للإعدام حتى ترجلوا قرب ساتر ترابي وقفلت الحافلة عائدة من حيث أتت.

إلى هنا لم تنته القصة فراحيل ورفاقها كانوا يقفون على أرض حياد بين "الدولة الاسلامية" ومدينة كركوك، وأمامهم حاجز تقيمه قوات البيشمركة الكردية، ولا يُسمح بدخول أي شخص قادم من الموصل مهما كانت ظروفه.

وبالرغم من عوّق إثنين من المسنين العشرة بقوا أمام الحاجز المنيع ليومين كاملين قبل أن تقنع كنيسة كركوك المحافظ بالسماح بدخولهم، وقد أثّر ذلك كثيراً على صحة هؤلاء المسنين.

راحيل حظيت باستقبال الأبطال في أربيل، فقد أعلن الشماس غانم عبر مكبر الصوت لأبناء كرمليس إن ابنة عمه وصلت، فأُطلقت الزغاريد ووزعت الحلوى على شرفها وتسابق الجميع لالتقاط الصور معها.

راحيل اليوم باتت مقصداً للفضوليين والصحفيين وهواة قصص المغامرات، فضلاً عن المسيحيين الذين يسألون عن ذويهم المفقودين بعد حزيران الماضي، وفي النهاية ستبقى قصتها محفوظة في ذاكرة كرمليس وسهل نينوى إلى الأبد.