موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٨ سبتمبر / أيلول ٢٠١٤
د. شارلي أبوسعدى يكتب: "ماذا يحدث من حولنا: أنهرب... أم ماذا؟"

د. شارلي يعقوب أبو سعدى :

كم من مرة سألني أحبائي وأصدقائي وآخرون هذا السؤال في الأيام القليلة الماضية. لا شك بأننا نمر بنفق مظلم جداً، نفق يشبه صمام القلب الصغير الأملس الذي يوشك على الانكماش والانكسار. إننا نمر بمرحلة دقيقة ونجتاز نكسات وتخبطات على مستوى الوطن الفلسطيني والوطن العربي من العراق إلى سوريا فمصر وليبيا وغيرها. ماذا يحدث من حولنا، وماذا عسانا بفاعلين، وما دورنا كمسيحيين فلسطينيين؟

أذاقنا الاحتلال الأمرين ويسعى لإطفاء آمالنا المستقبلية، أما بما يسمى بداعش "البعبع" الآخر على الساحة فيهدد ويتوعد ويقترب، ولعله بيننا! وتمر قيادتنا السياسية بظروف تراجيدية وضغوطات من هنا وهناك، والكل يتوعد بها. أما رؤساؤنا الروحيون في القدس فهم كالعادة الغائب الأكبر. وفرنسا فقد دعت المسيحيين العراقيين إلى اللجوء إليها، ونسيت فرنسا تاريخها المظلم وغير المشرف في الشرق وخصوصاً مع المسيحيين المشرقيين. كل هذا ويستمر الصراخ والبكاء الذي يُسمع من قلب غزة ومن أطفالها البريئين الذين يستحقون الحياة ولا شيئ غير الحياة والعدالة.

القلب يبكي والعين تدمع والعقل يفكر بالخلاص، والكل ينادي بنهاية الحزن والقتل والدمار والظلم، ويتسائل: ومن أين السلام والعدل ومن سينهي الظلم عن أطفالنا ونسائنا وكهولنا؟ ومن سيُرجع لنا وطننا وأرضنا ومن يعطينا حقنا؟ ومن أين لنا بالصبر وقوة الصمود؟

قامت الطفلة الصغيرة، إبنة قائد إحدى السفن الكبيرة، منزعجة خلال نومها بسبب صراخ وأصوات البحارة والطاقم الذين كانوا يهرولون ويحاولون النجاة بالسفينة وبأنفسهم من شدة العاصفة والرياح الشديدة التي كانت تضرب خشب السفينة. فأوقفت هذه الطفلة أحد البحارة وسألته ماذا يحدث؟ فقال لها إن جميع من في السفينة خائفين لأن السفينة تكاد أن تغرق من شدة العاصفة والأمطار والرياح والأمواج العاتية. فسألت البحار من جديد وبكل براءة: أما زال أبي هناك يقود السفينة؟ فرد عليها بالإيجاب. فرجعت الطفلة إلى نومها وهي تقول: ما دام أبي هناك يقود السفينة فأنا أستطيع أن أرجع إلى النوم بهدوء.

وفي إنجيل متى البشير (8، 23-27) نقرأ عن الرسل الذي كانوا مع يسوع المسيح في قلب بحيرة طبريا، بأنهم كانوا مرتبكين تماماً، خائفين من مصيرهم بسبب العاصفة. فخافوا من الموت ونهاية المصير. ظروفنا صعبة وكلنا نخاف الموت لأننا خُلقنا ووُلدنا لأن نعيش، لا لأن نموت، فربنا رب الحياة لا الموت.

أما النبي إيليا فقد رأى قدرة الله بطريقة جلية مدهشة، وجرب هو وبنفسه قوة الله الذي نصره على آحاب الملك وزوجته إيزابيل، كما نصره على كهنة بعل. وبعد ذلك اعتقد إيليا ان حياته ستصبح "سهلة" لأن الله معه ونسي أن يظل متمسكاً "بسلاحه"، كالجندي الذي يعتقد أن المعركة انتهت، فيضع سيفه جانباً ويستريح. لكن ما حصل كان العكس تماماً. فوجد إيليا نفسه مطارداً وكان في خطر محدق، خطر روحي ونفسي وجسدي. وكان مثلي ومثلك الآن يبحث عن الله في وسط صراعه وآلامه. فيجب علينا أن نكون متيقظين دائماً للاختبارات والأوقات الصعبة كالتي نعيشها الآن.

فيا رب، أين أنت في وسط الآلام؟ أين أنت من عذابي ومعاناة الأطفال ومآسي شعبي؟ الحياة ضاقت علينا، نُقتل ونحن نيام، نستشهد خلال صلاتنا، عائلاتنا تتشرد وتهرب ولا مكان لها للهروب. فأين أنت يا الله؟ وكما يقول المزمور والترنيمة: في وقت ضيقي بحثت عن النجاة فجئت إليك يا رب، يا رب الحياة. فاستمع صلاتي واستجب لدعاي. يا رب يا صخرتي إني اتكل عليك وأشثوا أمام صليبك، فاستجب لدعاي ولصلاتي. أعطني يا رب صبراً كصبر أيوب لأتحمل كل أحزاني وهمومي. فيا رب القوات كن معنا، ليس لنا في الضيقات معين سواك، يا رب القوات ارحمنا. ونرجع ونتسائل: ماذا عسانا بفاعلين، وما دورنا كمسيحيين فلسطينيين؟

استسلم البعض وقال: إن الإحتلال أي الشيطان قد أطلق عنانه وليس من قوة تستطيع قهره ودحره عنا وعن قُرانا... فقلت أن الله المحب البشر وخالق الجميع، لا يستطيع إلا أن يقف إلى جانب المضطهدين والأسرى والفقراء والمشردين واللاجئين والمظلومين والمرضى. فقالوا: وأين الله، ألعله نائمٌ؟ فلماذا يسمح بكل هذا الظلم والاستبداد. فأجبت: إن كلمة السر وهي الصلاة والثقة بالله وبعدالته.

إني كمسيحي، أؤمن بالله العلي القدير، الخالق والمحب البشر، كل البشر بغض النظر عن جنسيتهم ولونهم. كما أؤمن بالكنيسة، كنيسة الله على الأرض، امتداد عمل الله في التاريخ البشري. وأؤمن بقدرة الله وبمشيئته التي وجب علينا الانصياع لها والاتكال عليها. وأؤمن أيضاً أن يسوع المسيح قدوتي، فكما حمل صليبه فعلي حمل صليبي والاتجاه به نحو القيامة والانتصار على قوة الشر والظلام. فهل استسلم للواقع؟ لا وألف لا. هل أجلس وأكتف ذراعي وانتظر أحداً ما ليساعدني؟ أبداً. لأني لست وحدي وأنت لست وحدك، ويا أطفال غزة ونسائها وشيوخها إن الله معكم، إنه العمانوئيل. إنه ليس بنائم. فانظروا ما حدث في السفينة، نهض يسوع ونَهَرَ العاصفة فسكتت. وعندما استسلم إيليا أمام قدرة الله ومشيئته عندها تدخل الله لصالح النبي. استسلامنا فقط يجب أن يكون لله ولعظمته ولقوته وقدرته على بسط سلامه علينا وعلى من حولنا.

كتب بولس الرسول عن تجربته المريرة خلال العاصفة في البحر المتوسط (أعمال الرسل 27). كانت الظروف تلك تشبه ظروف غزة اليوم. كادت السفينة أن تغرق، كما تكاد غزة أن تُمحى عن الوجود. كاد بولس ومن معه أن يموتوا، ولم يعرفوا ما العمل وكيفية الخلاص ففقدوا السيطرة على السفينة تماماً. وبعد عدة محاولات استسلم القبطان ومن معه لقوى الشر واستعد الجميع للموت. أما بولس فكان يثق بالله، فسلم أمره وأمر جميع من معه لله ولقدرته. وعندها انقلب الوضع وتغير التاريخ ونجا جميع من كان بالسفينة بقدرة الله لا بقدرة بشرية. فكلمة السر هي الثقة بالله.

الإيمان هو الثقة بما لا نرى. الإيمان هو الإتكال على الله دائما، والثقة بأنه هناك ليكون معنا في الضيقات والمشقات والأزمات. أما طرقه فهي غير طرقنا البشرية أحياناً، أما نحن فنسعى من ناحيتنا إلى أن نطلب المعونة من الله وفي الوقت عينه فإننا نريد إجباره على التدخل باسلوب بشري بحت، معتقدين أننا الأدرى وانه لدينا دائماً البدائل وطرق الحل المُثلى. وهنا نقع في الخطأ، لأننا نريد إجبار الله على اتباع ما نريد وفقاً لأهوائنا.

علينا الآن وفي هذه الظروف الرجوع إلى الله وإلى كلمته، علينا الصلاة فالصلاة ومن ثم الصلاة والصوم، على أساس أن "ذلك الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (متى 17، 21). نريد كهنة تصلي وأساقفة تدعو الله، نريد كنيسة فقيرة مادياً وغنية بالروحانيات. نريد علمانيون يقودون انتفاضة روحية داخل كنائسنا ورعايانا، انتفاضة تدعو إلى الوحدة والعمل المشترك، انتفاضة تدعو للمحبة الحقيقية بين أفراد الشعب الواحد. انتفاضة تُرجعنا إلى العمل الرعوي الأصيل. نريد انتفاضة تدعو إلى محبة إخوتنا المسلمين، نريد شباباً لا يخاف عندما يواجه الظلم والاستبداد والاحتلال. نريد أناساً تصمد وتزرع وتحصد الزرع الوفير، نريد عائلات تُعطي مجاناً ولا تكتفي بالأخذ. نريد أطفالاً تقرأ وتدرس وتحترم الكبار وتنحني للعلم وللوطن. نريد شباناً وصبايا تصول وتجول في خدمة الرعية والمحتاجين والمرضى والفقراء والمضطهدين. نريد آباء وأمهات ترعى وتصون بيتها وعائلاتها.

لا نريد أن نلبس ثوب الضعيف فنحن لسنا بضعفاء. لا نريد أن نستمر في التغني بالماضي المشرق للمسيحية المشرقية. كفانا التحدث عن التآخي الإسلامي المسيحي، لأننا نريد اليوم أفعالاً لا مجرد كلمات وخطابات، وعلى اخوتنا المسلمين العمل بجد وبسرعة على محاربة التطرف الأعمى. نريد أن نعيش يومنا هذا والآن من دون البكاء على الأطلال. وفي نفس الوقت علينا التفكير بمستقبل مشرق للمسيحي والمسلم في نفس الوقت. مستقبل تميزه العدالة المجتمعية بكل أشكالها وألوانها. ولا وألف لا للتحالف مع القوي ضد الضعيف، أو التحالف مع الشيطان ضد أيٍ كان.

إن قائد السفينة في القصة المذكورة سابقاً هو الله تعالى. أما البحارة فهم كل شخص فينا يعمل ويسعى لبناء مستقبل مشرق. أما إيماننا فيجب أن يكون واضحاً ومرئياً لدى الجميع. ثق بالله ولا تخف. "لا تضطرب قلوبكم ولا تَرْهَبْ، آمنوا بالله وبي أيضاً آمنوا" (يوحنا 1:14). ويقول القديس بيّو: "اذا كنت في حالة ألم أو غبطة، حزن أو فرح، اذا كنت متوحداً او مع الجماعة، لا تنسَ أنّ الله يحبّك، يساعدك ويمشي إلى جانبك. أحبّه أنت أيضاً. تشجّع! فيسوع يعتني بكلّ شيء". عزيزي: صلي، ثق بالله وتوكل على المخلص.

عزيزي الفلسطيني المسيحي، لا تقف حائراً بائساً ولا تجعل اليأس يتغلغل في قلبك ولا تجعل الخوف يسيطر عليك. ولا شك أن أجدادنا عانوا في الماضي البعيد والقريب وعاشوا ظروفا أصعب من هذه التي نعيشها اليوم. استُشهدوا وما زلنا هنا، هُجروا وما زالت كنائسنا عامرة وستبقى هكذا ولن تقوى عليها أبواب الجحيم. ومن حمى المسيحية المشرقية لم يكن إنساناً ولا دولة، بل كان الروح القدس. فعمانوئيل هو معنا وسيكون. إن مستقبلك بين يديك، وهذه دعوة لك للتمسك بالأرض والوطن والكنيسة والعائلة. لا تهرب ولا تستسلم، قاوم الشر بكل أشكاله وأنواعه وافتخر معي بأنك مسيحيٌ فلسطينيٌ عربيٌ مشرقي أصيل، واحمل صليبك وامش.