موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٧
خاص - أبونا – القاهرة: ’الملك والبطريرك... الحوار طريق لبناء الإنسانية‘

إميل أمين :

لعل اللقاء الذي جرت به المقادير الايام القليلة الماضية في قصر اليمامة بالعاصمة السعودية الرياض يستحق وقفة تأمل بين مشهدين، الماضي وتبعاته واستحقاقاته، والمستقبل وتوقعاته واستشرافاته، ذاك لأن اللقاء بين خادم الحرمين الملك سلمان، ومن ثم ولي العهد الامير سلمان، يعد ودون تهوين أو تهويل نقطة مفصلية في علاقة منطقة الشرق الأوسط حيث لا يزال ابناء أبراهيم يعيشون منذ ألفي عام والى ما شاء الله.

على أنه يعن لنا التذكير بأن لقاءً سابقًا جرت به المقادير على أرض مصر المحروسة في أوائل أبريل نيسان من عام 2016 بين الملك سلمان وبطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر تواضروس الثاني، كان أيضًا علامة أزمنة التلاقي عوضًا عن التجافي والاتفاق كبديل عن الافتراق، وفي زمن سقطت فيه الحدود وتلاشت الجدران.

في اللقائين يمكن القول انه كان هناك رابط مشترك أعظم، وهو النظر الى الاديان بوصفها موحدة للانسانية ومجمعة على كلمة الحق والصواب، وأن الدين هو علاقة بالاساس بين الانسان وربه، وغاية المراد منها ان تزخم حياة الانسان على الارض بكل ما يوفر له الامن والامان، والسلم والسلام.

في لقاء البطريرك الراعي مع الملك سلمان استمعنا ولمسنا التاكيد المتبادل على اهمية دور مختلف الاديان والثقافات في تعزيز التسامح ونبذ العنف والتطرف والارهاب وتحقيق الامن والسلام لشعوب العالم والمنطقة.

تأتي الزيارة مواكبة لتغيرات فكرية عميقة تشهدها المملكة وصفها ولي العهد الامير محمد بن سلمان بانها عودة الى صحيح الاسلام المعتدل المنفتح على ما عداه من اديان في تسامح بعيد عن اوجه التطرف والغلو، نافضًا غبار اربعة عقود ملأت المنطقة الشرق اوسطية غبارًا ضاعت في ضبابه الوسطية.

رؤية ولي العهد من حسن الطالع تتفق والمنهاج الشرعي للاسلام في التعامل مع الاخر، وهو منهاج يخالف وينافي كل حركات العنف والقسوة ناهيك عن التعطش للدماء والقتل والنحر، تلك المشاهد التي رايناها في الاعوام الاخيرة عبر احداث غير انسانية وغير ايمانية ولا علاقة لها بالاسلام بالمرة.

يحترم الاسلام غير المسلم لمجرد كونه انسانًا، وهناك من الآيات القرآنية العديد الذي يضع مبدًا أساسيًا في علاقة المسلم بالاخر وهو وحدة الانسانية الذي يعني في التطبيق العملي، قاعدتين تحكمان العلاقة بالآخر، هما الأولى: المساواة التامة بين البشر دون تمييز او تفريق بين فرد واخر استنادًا الى اي معيار خارج عن ارادة البشر مثل النوع او اللون او العنصر.

والقاعدة الثانية هي العدل مع غير المسلمين.

لقاء بطريرك الموارنة ومن قبله بطريرك الاقباط مع هرم السلطة في المملكة العربية السعودية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان هناك عهد جديد بقيادة سعودية شابة تنفتح ابوابه نحو الاخر، وهو عهد مرجعه اسلامي صحيح معتدل وسطي كما اشار الامير محمد اكثر من مرة، عهد للتعايش السلمي مع الاخر، ذلك انه اذا كان الاسلام قد جعل في قلوب المسلمين متسعًا للتعايش مع بني الانسان كافة، ففيه من باب اولى متسع للتعايش بين المؤمنين بالله.

من على ارض المملكة ارتفع عبر لقاء الملك والبطريرك نداء للعالم مفاده ان الانسان جاء قبل الاديان، وان الانسان انما يتلاقى مع الاخر عبر الاديان، وان القول بالصراع والمواجهة والمجابهة انطلاقا من نظريات او ايديولوجيات عدائية تحث على الكراهية، انما هي دعاوى مزيفة ومنحولة، وبخاصة في زمن صعود القوميات المتطرفة وارتفاع اصوات الاسلاموفوبيا وكأن هناك من يريد للبشر الدخول في محرقة الكراهية.

دعوة المملكة لبطريرك الموارنة لزيارة المملكة، ولقاء بطريرك الاقباط من قبل، كلها اشارات خلاقة تتفق على قاعدة ذهبية واحدة.."الانسان هو القضية... الانسان هو الحل"، وهي قاعدة نجد لها صدى عريض في الثقافة العربية الاسلامية التي اهتمت منذ زمن بعيد بالاخر والحوار معه، ووضعت منهجًا ثريًا للحوار اسمته بالمناظرة، بينت فيه اصول الحوار وقواعده وشروطه وضوابطه ونظرت الى الحوار بوصفه معرفة ويؤدي الى معرفة، وسيلته السؤال الهادف الى الحصول على المعرفة الموضوعية.

يذخر التراث الاسلامي بكتابات تنبذ التعصب والتمحور حول الذات، فقد كتب الجاحظ في رسائله ناصحا بعدم تعصب الانسان لرايه اذا تبين خطله، ونهى عن العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم والحمية التي لا تبقى دينا الا افسدته ولا دنيا الا اهلكتها.

وعند ابو حيان التوحيدي وبخاصه في كتابه العمدة "الامتاع والمؤانسة" نجد اشارة الى اهمية الحوار وشروطه فبين ان الهدف من المناظرة هو معرفة الحقائق التي عند كل طرف من اطرافها لان لكل امة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن ومساوئ ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير.

يمكن اعتبار لقاءات الملك سلمان مع قيادات رجال الدين المسيحيين بداية خلاقة حقيقية لتعايش وتعاون يرمي الى صون مستقبل الانسانية، ودونما النظر الى الماضي التاريخي الذي امتلا بالاخطاء على اكثر من صعيد بالنسبة للجميع شرقا وغربا، وهذا سمت انساني لو يعلم العالمون ببواطن الامور ومظاهرها معا، غير ان التوقف امام الاخطاء طويلا قد يقطع الطريق على الامل في الغد.

تفتح هذه اللقاءات، لقاءات السحاب بابا للتعايش والتعاون مع الاخر على البر والتقوى، كما يدخل في هذا التعايش التفاعل مع الاخر على ان يكون في اتجاه يدعم التمايز الحضاري الذي ينطلق من حقيقة موضوعية تؤكد وجود سمات خصائص تمايز ما بين الحضارات، تعبيرا عن تمايز الشخصيات القومية والمكونات التاريخية لامم تلك الحضارات، وقد اثبت التاريخ ان هذا التمايز لا يمنع من التقاء هذه الحضارات وتفاعلها.

هل يمكن ان تكون هذه اللقاءات علا مة استعلان زمن جديد.. زمن التسامح الديني؟

الشاهد ان التسامح الديني قيمة تتمثل في كونه يقتضي التسليم المطلق اعتقادا وسلوكا ووراثة بانه اذا كان لهولاء دين له حرمته فلاولئك دين له الحرمة نفسها، واذا كان لهولاء خصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك فلاولئك ايضا خصوصية ثقافية لا تقبل المس ابدًا.

ومن الجلي القول ان التسامح الديني يعد ارضية اساسية لبناء المجتمع المدني ولارساء قواعده، ولعله من البديهي القول ان الاديان بحكم انتمائها الى السماء فانها لا تامر الا بالخير والحق والصلاح ولا تدعو الا بالبر والرحمة والاحسان ولا توصي الا بزمن السلم والسلام، وما كانت يوما في حد ذاتها عائقا امام التبادل والتلاقح والتثاقف، ولا امام العيش والتعايش والتعارف والحوار وانما العائق يكمن في الذين يتوهمون انهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ويستغلون الاديان في اقدار الناس ومصائرهم، تلك المهمة التي أبى الله تعالى ان يمنحها لانبيائه الاخيار.

تغيير الواقع الانساني ينطلق من ارادة القيادات سيما اذا كانت ارادات خيرة، وتغيير شكل الارض لن يتأتى بالجهود الفردية فقط إنما يحتاج الى تكاتف وتعاضد انساني خلاق في زمن قنوات الاتصال بين البشر، مما يكشف للجميع ولكل واحد بطريقة اكثر اتساعا ثروات الانسانية الفكرية والروحية والمادية، وهكذا يفسح في المجال رويدا رويدا لنوع من الحضارة اكثر شمولا يدفع بوحدة الجنس البشري الى الامام ويعبر عنها بقدر ما يحترم ميزات كل ثقافة على حدة، وهكذا يؤدي ازدياد التبادل الانساني الثقافي لحوار حقيقي ومثمر بين مختلف الامم والشعوب.