موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأربعاء، ١١ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
ثلاثة أنواع من الحضور!

الأب ألبير هشام نعّوم :

لا زلتُ أحتفظ بهذه الأنواع الثلاثة من الحضور منذ أن قرأتها في كتاب "حياة الجماعة وتقبّل الآخر" للأب يوحنا لطّوف، وأقدّمها هنا، باختصار، لتعمّ فائدتها على قرائنا الكرام:

أن أكون حاضرًا "مع": هذه أول درجة من المحبة. تؤدي إلى نموّ محدود: فالأفضل أن أكون "مع"، على أن أكون لوحدي. ومعظم الذين يدخلون في جماعة قد حققوا هذه الدرجة الأولى من النموّ. هذا الحضور فيه فرح واستمتاع بحضور الآخرين، وفيه شركة في أمور كثيرة. وهو يعطي شعورًا بالأمان. لكن هذا النوع من الحضور يبقى ناقصًا، لأن الشخص يضع شروطًا لحضوره: أن تكون الأمور كما يرغب، وأن يكون الأشخاص على ذوقه، وأن يعطونه الاهتمام، وأن تلبّي النشاطات حاجاته... وطالما هذه الشروط غير متوفرة، يكون غير مرتاح أو غير مبال أو غير ملتزم كفاية. ولا يمنع أن يتكبّر ويحسد ويتذمّر ويرفض المشاركة، بل قد يكون عقبة في طريق الشركة. لهذا فالحضور "مع" ليس كافيًا، وليس فيه اتّجاه حقيقي نحو الآخر. فهذه درجة طفولية من الحضور، لأن الشخص يعتبر الآخرين حاضرين من أجله!

أن أكون حاضرًا "لأجل": هذه درجة أرقى من المحبة والشركة والحضور، تدلّ على نموّ في العلاقات. إذ يدخل الشخص بشكل أعمق في حياة الجماعة (...) الشخص الراشد هو في جماعة مع الآخرين ولأجلهم. عنده نظرة نضج ومسؤولية والتزام وثبات. وإنّها نظرة فيها خروج من الذات باتّجاه الآخرين. هذا الخروج من الذات هو ضروري لكي يعيش الشخص حياة الجماعة. وفي نفس الوقت، فالجماعة تساعد كثيرًا على الخروج من الذات (...) نظرة "لأجل" تجعل الشخص يفكّر في العطاء: "الآخرون بحاجة إليّ". وهذا يعطيني شعورًا بأنّي مرغوب. هذه درجة ثانية من النضج. فنظرة "مع" فيها تجاور، بينما في نظرة "لأجل" يتوقع الشخص من ذاته أن يعمل واجباته تجاه الآخرين، والانطلاق نحوهم والاهتمام بهم، مما يحقق عمقًا أكبر في العلاقات ومزيدًا من العطاء.

ورغم هذا، فنظرة "لأجل" ليست سهلة دائمًا، فإذا كان الحضور ممتعًا والعلاقات سليمة يسهل العطاء. لكن في غالب الأحيان، عندما تكون العلاقات صعبة، يتعثّر العطاء ويصعُب الحضور "لأجل" الآخر. لهذا كان لابدّ من درجة أكبر من الحضور، فيها المزيد من المحبة والتضحية والصبر وطول الأناة.

أن أكون حاضرًا "بالرغم": الحبّ "بالرغم" هو درجة أسمى من المحبة والنموّ. قد لا نحققها دائمًا. فالحبّ "بالرغم" يعني الاحتمال والصبر والمغفرة والتضحية ونكران الذات، وعدم الاكتراث للصعوبات. فأن نستمر في الحوار "بالرغم"، فهذه درجة أعظم من النضج العاطفي، تؤدي إلى شركة أعمق مع الآخرين. ويتميّز هذا النوع من الحب أيضًا بعدم التمييز في المعاملة، وبالخدمة رغم الصعوبات الشخصيّة والماديّة، والصعوبات التي تواجهني مع الآخر. إنها أقصى درجات المسؤولية، فيدرك الشخص أنه مدعو للحب ومسؤول عن إعطائه للآخرين حتى عندما يكون في أسوأ حالاته النفسية! وهكذا، فحضور الزوج والزوجة، كلّ منهما للآخر، ليس حضور "مع" فقط بل هو حضور "لأجل" و"بالرغم". وإلاّ فالعلاقة الزوجيّة تبلغ حدود الكارثة. فالحضور "لأجل" يُعطي درجة قصوى من الأمان.

ويسوع في علاقاته، كان "مع" الآخرين. لكنه عرف أن الحضور "مع" لا يكفي. فكان حضوره "لأجل" أيضًا: "أضحّي بذاتي من أجل الخراف، يراق من أجلكم وأجل كثيرين، أي حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبّائه". لكن محبته كانت خاصةً "بالرغم": بالرغم من صعوباته: "ثقبوا يدي ورجليّ... سأبشّر باسمِكَ". بالرغم من صعوبات الآخرين ونكرانهم وشكّم وإهانتهم له، واستهتارهم بألوهيته، بدءً ببطرس وتوما، ومرورًا بالسامرية والكنعانية والأبرص... فهو أحبّ البشريّة بمجملها رغم خطيئتها: "إذ كنّا بعد خطأة، مات من أجلنا ولا يكاد يموت أحد عن إنسان بار...".

وإننا جميعًا نعيش هذه الدرجات من الحب، في ظروف وأوقات مختلفة. لكننا لا ننجح دائمًا في تحقيق الحبّ الكامل الذي عاشه وعلّمنا إياه يسوع. وعندما نفشل بحقّ المحبة، علينا بالتوبة التي تعيدنا إلى كمال المحبة والشركة مع الله والآخرين.