موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١٤ ابريل / نيسان ٢٠١٧
تفجير الكنائس: هل المقصود الأقباط أم الدولة المصرية؟

القاهرة - إميل أمين :

<p dir="RTL">بالتأكيد ليس هذا هو الوقت الملائم للحديث عن علم الأجناس، غير أن لفظة &laquo;قبطي&raquo; أو &laquo;أقباط&raquo; تستدعي دلالات تاريخية أبعد كثيرًا جدًا من الواقع المأزوم والمكلوم لتلك الجماعة الوطنية، في علاقتها مع أرض الوطن، والتي عبر عنها عظيم القبط الراحل البابا شنودة الثالث ذات مرة بالقول: &laquo;إن مصر وطن يعيش فينا، وليس وطناً نعيش فيه&raquo;.</p><p dir="RTL">يستمد أقباط مصر تسميتهم من اللفظ اليوناني &laquo;إيجبتوس&raquo; والمنحدر في الأصل من كلمة &laquo;ها كابتاح&raquo;، أي &laquo;روح الإله بتاح&raquo; إله الخلق العظيم عند الفراعنة، ومنه اشتقت كلمة &laquo;كيمت&raquo;، وتحورت وتحولت لاحقاً إلى &laquo;قبط&raquo; كما نطقها اللسان العربي عند دخولهم إلى أرض مصر. المعنى والمبني هنا هو أن هؤلاء المصريين الأقباط ليسوا سلالة وافدة على أرض مصر، أو جماعة عرقية متمايزة، إنما هم من أصل وجذور هذا الوطن، الذي يضرب في بطون التاريخ ضروباً طويلة من الحكمة والفنون والعلوم والآداب، وقصة لحضارة مجيدة&raquo;.</p><p dir="RTL">من الماضي البعيد إلى الحاضر المؤلم وغير السعيد يطرح التساؤل ذاته.. ما الذي جرى يوم أحد الشعانين في أرض مصر المحروسة؟ الحديث يملأ القلوب ألماً ويعتصرها عصراً، فالدماء صبغت أوراق السعف الخضراء بلون أحمر قانٍ، وتحولت فرحة المصريين إلى حزن عميق.</p><p dir="RTL"><strong>شهداء مسلمين ومسيحيين</strong></p><p dir="RTL">والشاهد أن المسألة أعمق كثيرًا -على قدر المأساة- من مشاهد الجثث والأشلاء المتناثرة، إذ يصل الفهم الواعي، ويقود الثبات النفسي إلى القطع بأن الهدف الأكبر والمستهدف الأعظم هو مصر حتى وإنْ كان الأقباط هم الذين يدفعون الثمن، أو إنْ شئت الدقة، فقل البعض منهم، سيما أن الإرهاب الأعمى يقتل يوميًا من رجالات الشرطة والجيش في مصر العشرات، وبالفعل سقط على أبواب الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، شهداء من الشرطة مسلمين ومسيحيين لتمتزج الدماء من جديد، كما امتزجت طوال أزمنة الحروب التي عاشتها مصر، لكن لماذا استهداف الأقباط تحديداً بعمليات نوعية وكمية واختيار مواقيت مؤلمة وحساسة سواء تعلق الأمر بالمناسبات أو بالأعداد المتواترة عليها؟</p><p dir="RTL">الثابت أن هناك أكثر من قراءة يمكن للمرء أن يغوص فيها بعيداً، وربما أبعد من ألم اللحظة الراهنة.</p><p dir="RTL"><strong>مواقف تاريخية</strong></p><p dir="RTL">دون أي تطويل ممل أو اختصار مخل نشير إلى أن الإرهاب الأعمى يسعى لتحويل مصر إلى دولة فاشلة، ويشتهي أن تتكرر تجارب بلدان بعينها في الإقليم، حولتها الأصوليات والراديكاليات الشريرة، إلى شبه دول، وهو يسعى سعيه الخبيث هذا عبر تفتيت وتفكيك يشاغل ويشاغب الأعراق تارة، والمذاهب والأديان تارة أخرى، وبالنظر إلى أوضاع أقباط مصر يرصد المراقب المحقق والمدقق مواقفهم التاريخية، والتي لا يُزايد أحد فيها على وطنيتهم ومواطنتهم.</p><p dir="RTL">حدث في زمن والي مصر محمد علي باشا الكبير أن أرسل قيصر روسيا، مبعوثاً إلى بطريرك الأقباط &laquo;بطرس السابع&raquo; المشهور باسم بطرس الجاولي (1809-1852)، وقد أظهر مبعوث القيصر ألمه على حالة الأقباط التعيسة التي تثير الشفقة، فقبل محمد علي كان مفهوم الذمية منسحباً على مسيحيي مصر، ولم تبدأ معالم جديدة للدولة الحديثة، إلا مع محمد علي الوالي الألباني الأصل، وقد عرض القيصر حماية الأقباط ووضعهم تحت مسؤوليته مباشرة. هل تدرون ماذا كان جواب عظيم القبط وقتها؟ سأله البطريرك: &laquo;هل ملككم يحيا إلى الأبد؟&raquo;.</p><p dir="RTL">فأجابه مندوب القيصر: &laquo;لا يا سيدي الأب، بل يموت كما يموت سائر البشر، فقال البابا: &laquo;إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، وأما نحن فنعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله&raquo;.</p><p dir="RTL">تكرر المشهد بشكل آخر في زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر، حيث حاول المحتل اللعب على الوتيرة الطائفية، وتفريق جموع المصريين، غير أنهم كانوا أكثر حصافة، بل قال أشهر خطيب لديهم إبان ثورة العام 1919: &laquo;ليمت الأقباط ولتحيا مصر&raquo;.</p><p dir="RTL"><strong>محاولات شق الصف</strong></p><p dir="RTL">ولعل الذاكرة القريب ترصد وتُخزن مشهدين، الأول لمثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، الذي رفض زيارة الأقباط للقدس، إلا مع المسلمين من المصريين، فيما المشهد الآخر للبابا تواضروس الثاني، والذي حاول الإرهاب الأسود اغتياله في تفجير الإسكندرية، ففي أغسطس الماضي، وعندما أحرق المتطرفون كنائس الأقباط، وكان رده الوحيد: &laquo;وطن من دون كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن&raquo;.</p><p dir="RTL">هل يسعى الإرهاب لشق الصف المصري، وتفتيت النسيج الاجتماعي الواحد، وإدخال مصر عنوة في دائرة التناحر الأهلي بمسحة طائفية، لا تبقي ولا تذر؟</p><p dir="RTL">يمكن القول إن هذا صحيح إلى أبعد حد ومد، بل أكثر من ذلك أنه يحاول الوقيعة لا بين الأقباط والمسلمين، بل بين الأقباط والنظام المصري الحالي، والمؤامرة الفكرية الخبيثة مفادها كالتالي: &laquo;أنتم أيها الأقباط خرجتم ضمن صفوف المصريين الذين خرجوا بالملايين في 30 يونيو 2013 رفضاً لحكم الجماعات الظلامية، ولاحقاً دعمتم السيسي قلباً وقالباً، وها هي الدولة المصرية عاجزة عن حمايتكم&raquo;.</p><p dir="RTL">هذا التفكير الجهنمي يؤكد ما ذهبنا إليه منذ اللحظات الأولى لهذا العمل الإرهابي المدان والجبان، من أن المقصود هي مصر، وهو أمر تدركه القيادات الروحية والكنسية للكنيسة القبطية المصرية، ولهذا جاءت كلمات البيان الرسمي للكنيسة عقب أحد الشعانين الدامي كالتالي: &laquo;لقد زهقت أرواح الشهداء، بأيدي أعداء البشرية وكارهي السلام وحاملي أدوات الدمار، إلا أنهم مع كل الكنيسة يرفعون صلواتهم إلى الديان العادل الذي يرى ويسمع ويكتب أمامه سفر تذكره&raquo;.</p><p dir="RTL">البيان يضيف في لهجة وطنية خالصة... أن الكنيسة تنعى شهداء الوطن من رجال الشرطة البواسل مصلين إلى الله من أجل شفاء المصابين، وأن يحفظ مصر وكل أبنائها من هجمة الكراهية التي تسعى إلى هدم جدران الوطن وتمزيق نسيجه الإنساني الذي جسد تراثه العظيم في الوحدة والتماسك والعيش المشترك. حفظ الله مصر وكل أبنائها من كل ظلمة ومن روح الكراهية ومن كل سوء&raquo;.</p><p dir="RTL">يعن للمرء أن يتساءل: &laquo;أي تسامٍ روحي وأخلاقي بل وإنساني نجده في مثل هذا البيان من جماعة وطنية خسرت 44 شهيداً وأكثر من مائة وعشرين جريحاً، ثم كيف لهم أن يرتفعوا على الألم، ويباعدوا بينهم وبين روح الانتقام؟&raquo;.</p><p dir="RTL"><strong>الأقباط والوعي بالمؤامرة</strong></p><p dir="RTL">ربما فهم أقباط مصر المشهد بصورة عقلانية تجاوزت كرامة الشهداء على قدرها الرفيع، لقد رأوا الأيادي السوداء تمتد لتضرب مصر البازغة من جديد، والتي تعود بقوة إلى أطرها الإقليمية ومكانتها الدولية، نافضة عنها غباراً التصق بأرجلها عبر عقود طوال من الاستكانة والجمود، بل والتكلس الفكري والحضاري. جاءت تفجيرات كنيستي طنطا والإسكندرية بعد زيارة ناجحة للرئيس السيسي للولايات المتحدة الأميركية، وفيها بدأت مرحلة جديدة من التحالفات السياسية الناجحة، ومنطلقاً لدور مصري رائد في محاربة الإرهاب بشراكة مصرية أممية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأميركية.</p><p dir="RTL">كما تجيء الضربة الإرهابية الأخيرة في توقيت بدأت فيه السياحة المصرية تنتعش، والاقتصاد يتعافى والاحتياطي من العملات الأجنبية يصل إلى أفضل حالاته منذ 25 يناير 2011، وعليه يدرك فعلة الشر، وسكان تخوم الإثم مقدار الضرر الذي سيلحق بمصر من جراء إظهارها للعالم، بمظهر الدولة غير الآمنة سياحياً، وغير الملاءمة لاجتذاب الاستثمارات اقتصادياً بسبب عدم استقرارها السياسي.</p><p dir="RTL"><strong>استهداف زيارة البابا</strong></p><p dir="RTL">بعد آخر من الأبعاد المثيرة للتأمل، والتي تعكس لنا أسباب الشر الذي تعرضت له مصر نهار &laquo;الأحد الدامي&raquo;، يتصل بالزيارة التاريخية التي يخطط للقيام بها بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، يومي 28 و29 أبريل الجاري، والهدف الرئيس لها زيارة الأزهر الشريف ومشاركة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في أعمال مؤتمر السلام العالمي الذي يعقده الأزهر، ومن المنتظر أن يُلقي البابا فرانسيس كلمة يستمع إليها العالم برمته وليس الشعب المصري فقط، كلمة تتصل ببسط السلام حول العالم وإدانة التطرف والعنف والإرهاب.</p><p dir="RTL">في هذا السياق هناك تساؤل يبحث عن جواب: &laquo;هل تلعب تلك القوى الإرهابية دور مخلب القط لجماعات ودول بعينها تهتم اهتماماً بالغاً بأن تبقى العداوات والكراهيات بين الشرق والغرب قائمة، وأن تمتد حالة الخصومة بين المسلمين والمسيحيين حاضرة، واللبيب بالإشارة يفهم من هؤلاء وأولئك؟&raquo;.</p><p dir="RTL">إن المتابع المحقق والمدقق لأعمال وأقوال بابا الفاتيكان الحالي يدرك كيف أن الرجل داعية من دعاة بناء الجسور، وهدم الجدران بين الأمم والشعوب، بل إن مواقفه ومواضعه من الإسلام والمسلمين تقدمية ومرحب بها، فالرجل على متن الطائرة العائدة به من تركيا، رفض الربط الجذري بين الإسلام والإرهاب، وهو صاحب مواقف رائعة وإنسانية تجاه اللاجئين المسلمين الذين خلفتهم أزمات سوريا والعراق، ومؤخراً تكلم صراحة عن رفضه لما يجري لمسلمي الروهينجا ووصفهم بأنهم إخوة لنا.</p><p dir="RTL">هل من له مصلحة غير طيور الظلام في إلغاء تلك الرحلة والتي لن تلغى بالفعل؟</p><p dir="RTL"><strong>ملامح التكاتف</strong></p><p dir="RTL">مثير جداً شأن المصريين، الإرهابيون أرادوا أن يكون الأحد الحزين دافعاً للتفريق، لكن تجلت ملامح التكاتف الإنساني في أفضل صورها، وهذا ليس من قبيل الحديث البلاغي أو الإنشائي، بل هو واقع حال معيش، فقد تسابق مسلمو مصر قبل مسيحييها للتبرع بالدماء للمصابين، وفي المساء كانت الشموع في أيدي المسلمين والمسلمات شباباً وشيوخاً أمام الكنائس، هذا ناهيك عن ملامح التضامن الشعبي في تسهيل خروج جثامين الشهداء، ولاحقاً ارتفاع الأصوات المنادية بإقامة سلاسل بشرية لحماية الكنائس في أيام الأعياد. مصر النخبوية بدورها بدءاً من الرئاسة والقيادات السياسية، الأزهر والأوقاف والمفتي، الوزارات والهيئات الإعلامية ووسائل الإعلام، عززت وحدة الصف المصري وزادت من صلابة وتماسك النسيج الاجتماعي المصري. كان الأحد يوماً فارقاً في طريق الأمة العربية والإسلامية، فقد ظهرت مشاعر العالم الإسلامي والعربي بشكل طبيعي ومن دون مجاملات، تعاطف الجميع مع المصريين، وتنادي الكل لدعمها في وقت المحنة، أدبياً وأخلاقياً.</p><p dir="RTL">السؤال الآن: هل ما جرى في مصر وطال الأقباط واستهدف مصر حدث محلي؟</p><p dir="RTL">بالقطع يستدعي المشهد حالة من حالات التنادي العالمي، فالإرهاب بات طاعون القرن العشرين، والمواجهة والمجابهة لم تعد أمنية فقط، ولعل ما أشار إليه الرئيس السيسي في كلمته مساء الحادث الإرهابي يتطلب وقفة عالمية، وتعاوناً أممياً لا سيما تجاه دول باتت راعية للإرهاب، وحاضنة لجماعاته، ومسخِّرة وسائل إعلامها لخدمتهم ولبث سمومهم، عطفاً على تمويلهم تمويلاً كبيراً، وكأن المطلوب هو تحويل العالم إلى مسار الحرب العالمية الإرهابية بشكل قسري.</p><p dir="RTL"><strong>الخطاب الديني.. بيت القصيد</strong></p><p dir="RTL">لا ينبغي التفكر في حوادث أقباط مصر بشكل قاصر يتوقف عند الضحايا والدماء، المسألة تقتضي وعلى عجل إعادة قراءة وتفكيك ثم تركيب وتطوير وتصحيح لخطابات عدة، في مقدمتها الخطاب الديني المغلوط الذي ولد ولا يزال عقولاً إرهابية، وإلى خطاب إعلامي وثقافي لا يسطِّح القضايا الجوهرية وإنما يعمقها ويجعلها مثار بحث ودراسة واستخلاص عبر ودروس.</p><p dir="RTL">اللحظة مفصلية والعالم وليس مصر فقط في خطر، والإرهاب الأسود لن يوفر أحداً.</p><p dir="RTL">لن تنكسر مصر، فهي أم الصابرين الصامدين أمس وبعد الأمس.... رحم الله شهداء مصر وحفظ الكنانة من كل شر.</p>