موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٩ سبتمبر / أيلول ٢٠١٧
تحديث نظام المِلل والنِّحَل: نموذج للعيش المشترك

د. كامل أبو جابر :

لا اعتقد ان احدا كان يتصور النتائج التي قد تترتب على انهيار الاتحاد السوفياتي والعقائد اليسارية، الذي افسح المجال لاستفحال الرأسمالية الغربية التي وصلت أحيانا حد التوحش والاحساس ان التاريخ انتهى لصالحها ووقع في حضنها وتبع ذلك الانهيار انهيار الامن القومي العربي وعموده الفقري الايمان بالوحدة العربية المرتكز الى مفاهيم العدل الاجتماعي والانسانية.

اقل ما يمكن ان يُقال فيما تلا بالنسبة الى عالمنا العربي ان الفترة اللاحقة شهدت تتابع المصائب والزلازل التي ما زالت معنا حتى اليوم، لا ادري كيف تم اقناع بعض الانظمة العربية، العراق، ليبيا، وسوريا التخلي عما كان لديهم مما كان الغرب يسميه «اسلحة الدمار الشامل»، الامر الذي مهد بدوره لا لتدمير البلاد وعبادها وحسب، بل والتمثيل بجثث صدام حسين ومعمر القذافي واستباحة البلاد ومواردها واهلها.

قاد الفراغ العقائدي الذي تلا انهيار العقائد اليسارية والقومية بالنسبة الى العالم أجمع، لا بالنسبة لنا العرب وحسب قاد الى تيه جديد والى حيرة والى الاجتهاد في البحث عن هوية وبالطبع كان الملاذ المتوفر في كل مجتمعات الارض العودة الى الدين والبحث فيه ليس عما يجمع البشر بل العكس عما يفرقهم لاثبات تميز بعض الجماعات على غيرها.

واضح ان الدين كان وما زال وسيبقى على مدى المستقبل المنظور اهم مكون من مكونات هوية البشر حتى في ارجاء العالم الغربي الذي يبدو وكأن حتى الانغماس الشره في الاستهلاك المادي لم يقف حاجزا امام البحث عن هوية روحية، الأمر الذي قاد، وللأسف بالنسبة الينا العرب، الى تغلغل الصهيونية جوف هذه الحضارة وتجيير مقدراتها لصالح اهدافها.

منذ زمن وانا ادعو الى عقد مؤتمر قمة دولي يبحث في علاقة الاديان ببعضها على غرار مؤتمر بيجين للمرأة ومؤتمر كوبنهاجن الاجتماعي ليسلط الاضواء على اهمية الدين في كل المجتمعات، والاهم البحث عن معادلة تمكن الجماعات الدينية والاثنية من العيش المشترك على مستوى معقول من السلام الاجتماعي.

مثل هذا النظام، نظام المِلل والنِحل اعتمدته الحضارة العربية الاسلامية منذ لحظة ولادتها الامر الذي استمر عبر التاريخ ووصلنا نحن اهل العالم العربي عبر قرون الامبراطورية العثمانية حتى انهيارها في العقدين الاولين من القرن الماضي، كان نظام المِلل والنِحل التي وصل عددها حين انهيار الامبراطورية ثمانية عشر ملة تتعايش جنبا الى جنب على جانب كبير من قبول بعضها للاخر ولو على نحو من الحدة والتوتر وحتى العنف احيانا. مثل هذه التعددية الاجتماعية والدينية والاثنية ما زالت من اروع سمات حضارتنا العربية الاسلامية التي تتفوق قطعا على حضارة الغرب احادية البعد.

نظام المِلَل والنِحَل الاسلامي معمول به اليوم قانونياً ودستورياً في لبنان التي تعترف بثمانية عشر ملة، ومعمول به عرفاً، وشبه قانون ودستورا في الاردن، وهو وعلى الرغم من بعض الثغرات والمثالب يرتكز الى قاعدة فكرية فلسفية رائعة عمودها الفقري قبول - تسامح الآخر مع الآخر - وهي القاعدة الرائعة التي ارساها الرسول صلى الله عليه وسلم في نجران وفي دستور المدينة الذي لا شك بانه اول دستور مدني في تاريخ البشرية، فالتسامح يعني سمو فئة على اخرى بينما القبول امر اخر امتثالاً للآيات القرآنية الرائعة «لكم دينكم ولي دين»، «وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، وحتى قوله تبارك وتعالى «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، مثل هذا الانفتاح وسعة الصدر والانسانية لم تعرفه اي حضارة اخرى ولعل الاهم من ذلك كله الارتكاز الى قاعدة ان كل البشر متساوون يعودون لاب واحد وام واحدة.

لو تمكن علماء الفلسفة والسياسة والاجتماع من تطوير هذا النظام وتحديثه ليناسب ظروف العصر ومتطلبات المستقبل لتمكنا من تقديم نموذج انساني حضاري لتعتمده هيئة الامم المتحدة وتدعو له عبر ادخال مفاهيمه مناهج التربية والتعليم في كل دول العالم وتطويره ليرتكز بالاضافة الى قواعده الدينية الى الالتزام بقواعد الدستور وما ينبثق عنه من قوانين عصرية وانسانية بحيث تعلم جميع المِلَل والنِحَل انها متساوية من ناحية الدستور امام القانون الذي يسمح لكل فئة منها، كما كان الامر تاريخياً ان تحيا حياتها الروحية والاجتماعية كما تشاء، والولاء السياسي بالكامل للدولة ودستورها وقوانينها وهويتها مع السماح لكل فئة ان تختلف عن الآخرين اجتماعيا.

جميع المجتمعات البشرية اليوم تعاني من مسألة البحث عن هوية مرضية لها ولفئاتها ويعود ذلك الى فقدان نموذج صالح للعيش المشترك، وخير دليل على ذلك معاناة الاقليات في معظم بلدان العالم والمثال الصارخ على ذلك ما جرى لمسلمي يوغسلافيا سابقاً وما يجري اليوم لمسلمي الروهينجيا في ميانمار وما نشاهده من موقف مؤسف ومخزٍ للسيدة سان سوكي التي التزمت جانب الصمت المدوي على المذابح البربرية التي يعاني منها المسلمون هناك بسبب ايمانهم.

(نقلا عن الرأي الأردنية)