موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٨ يونيو / حزيران ٢٠١٨
تجليات ثقافة النهضة في مسار الاصلاح

د. فيصل غرايبة :

حرصت الشعوب على تجديد ذكرياتها، لكي لا تمحى من ذاكرتها الوطنية انجازاتها وخبراتها وحلقات تطورها، كما اهتمت المجتمعات بتحين المناسبات لتتحدث عن حاصل جهودها وثمار جهادها الموصول وكفاحها المستمر، لتطور حياتها وتسعد أبناءها وتؤمن مستقبل أجيالها. وها هو الأردن اليوم يسترجع صرخة الحسين بن علي طيب الله ثراه من مكة المكرمة، إلى العرب أجمعين أن «يا أيها العرب تحرروا واتحدوا»...عندما هب الرجال من كل حدب لينضموا إلى الكتلة المتلاحمة من ثوار الأمة، التي أدركت أن النصر آت وأن الاستقلال لا بد أن يتحقق، إن لم يكن بقوة الكلمة وبيان الحجة فبقوة السلاح وعنفوان النفوس.

ها هو الأردن والعرب هذه الأيام يحتفيان بمرور ما يزيد عن مائة عام على اطلاق شريف مكة الرصاصة الأولى ايذانا ببدء الثورة الكبرى التي حملت تباشير النهضة العربية الكبرى، ويزدهي الأردن بهذه المئوية، التي جعلت منه دولة عربية هاشمية مستقلة بقرارها وإرادتها.. ترث مبادئ الثورة الكبرى، وتصون فحواها.

تحل هذه المناسبة في هذا العام، الذي تحيطنا فيه الكثير من التفاعلات السياسية والتحركات الشعبية من أجل الحرية والديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان، ويشعر الأردنيون قيادة وشعبا بما يشعر به أخوانه العرب من حوله ويحس بآلامهم ويقدر أهمية تحركهم من أجل أهدافهم الوطنية. ففي حلبة الفوضى الخلاقة التي انتصبت في هذه البقعة المهمة من العالم، منذ غزو العراق في 2003 نشهد حركات شعبية وتحركات سياسية وزعزعات أمنية، ما تزال تعصف في أقطار العروبة، منها ما كان شعبيا خالصا وصعيدا طيبا لخدمة الإصلاح، على أساس العدالة والمشاركة والحرية، ومنها ما أحاطت به الشبهات، حول نواياه وأهدافه لأغراض التقسيم والمحاصصة ونقل الأزمات والتعمية على الممارسات الباطلة والأهداف الضالة،تطييفا وأقلمة، وترك الساحة للاقتتال وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء،. ويظل الأردنيون مع اشقائهم بموقف الأخوة والمساندة على هدي مبادئ الثورة العربية، ويشرع ابوابه مثلما يفتح قلبه ووجدانه لاستضافتهم وتوفير الأمان لاطفالهم ونسائهم ويتقاسم معهم الرغيف والماء والمأوى.

في حين ما يزال الشعب الأردني يثبت دأبه على الدوام وكفاحه باستمرار، ويقدم النموذج الذي اوحت به نهضته الكبرى من أجل حياة أفضل، دستورية ديمقراطية آمنة مطمئنة، منذ انتفاضة الشوبك 1905وانتفاضة الكرك1910 واستقبال الثورة العربية والمشاركة فيها1916 ومعاهدة أم قيس وتأسيس الدولة 1921 وتعديل المعاهدة الأردنية البريطانية 1928لتعتبر الشعب مصدر كل قوة وكل حكومة تقوم بمشيئة الشعب. تذكرنا هذه المناسبة بالميثاق الوطني الذي أصدره المؤتمر الوطني الأول1928 وأكد على إرادة الأردنيين في السيادة والحكم الدستوري النيابي، كما أكدتها مؤتمرات 1929و1930و1932 و1933الشعبية، وزادت عليه برفض المشروع الصهيوني في فلسطين. وكان قيام الأحزاب الوطنية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، كحزب الشعب والحر المعتدل والتضامن واللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني، مظهرا لتمتع الأردنيون بحرية التعبير والتنظيم من أجل الوطن. مثلما كان القانون الأساسي للإمارة 1928 والدستور 1947 والدستور الحالي 1952، وثائق وطنية نافذة لحفظ الحقوق والحريات، والتي أقرت عالميا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

طرح ملكي جديد:

تحل هذه المناسبة في الظروف التي استوجبت طرح وريث النهضة ورائد الاصلاح افكاره التحديثية للدولة، من خلال الأوراق النقاشية الملكية الرفيعة، والتي شكلت مبادرة جديدة بنفس تلك الروح العربية الهاشمية، فدعت الى استنطاق الأغلبية الصامتة من الأردنيين، لتعبر عن ما يدور في خلدها ولتقول رأيها فيما يتعلق بالشأن العام، ولتدخل من بوابات الإصلاح التي بدأت تشرع أمامها، وذلك للمشاركة بفعلها وفكرها ووجدانها في الورشة الوطنية الكبرى لصناعة الأردن الجديد، في الوقت الذي حافظ الأردن فيه على نهجه الوسطي، والذي مكنه من الحفاظ على علاقات متوازنة مع محيطه العربي والإسلامي، وقبولا دوليا متميزا، ومن اتخاذ مسار ديمقراطي، يحترم التعددية والتنوع ويصون الدستور ويديم الحياة النيابية، وينشد تعزيز الانتماء الوطني ويؤكد الهوية الوطنية، وفي العصر الذي هبت فيه رياح العولمة على كل أنحاء العالم، وحل في عالمنا العربي موسم ربيع حائر، ما يزال تاركا المنطقة تعيش أوضاعا غير مستقرة، يفتقد فيها الأمن الشامل اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

لقد شكلت هذه الأوراق دعوة إلى شبابنا ليطرح أسئلة كبيرة ويطالب المجتمع الإجابة عليها، حول تعميق منهج الوسطية في حياة الإنسان الأردني، ودعوته للاقبال على العمل الحزبي والتطوعي والمشاركة في الانتخابات المختلفة، وجعل المجتمع العربي,ومنه المجتمع الأردني، شريكا بالعولمة بمكوناتها الثقافية، متجاوزا دور المتلقي أو المتلقن، بحيث يكون للشباب زمام المبادرة في إنتاج الثقافة العالمية، غير ملغ لثقافته، مما يخلص قيمنا الدينية والأخلاقية من المزايدات والمبالغات، واتجاهات التكفير واحتكار الحقيقة، ويبث روح احترام الدستور والقوانين والأنظمة وينمي إتقان دوري المواطن والمسؤول في دولة المؤسسات.

تطبيقات المبادئ والرسالة:

كانت عاصمتنا المرموقة»عمان» قد طوت قبل اعوام قليلة مئة عام من عمرها بثوبها الحديث، إذ أنها بحساب التاريخ تعود إلى خمسمئة عام، ولكنها احتفت بمئويتها الأولى منذ أن أصبحت ملاذا لمن سعى إليها ينشد الأمان والاستقرار، وصارت نسيجا اجتماعيا متينا، حولها بهمة القادمين والمقيمين، إلى رمز الثقافة الواحدة، تقوم على حداثة متأصلة، تسمن تراثها بالإثراء، وتحول من فيها من متساكنين إلى مواطنين، فالعادات والتقاليد واحدة، والمشاعر والآمال مشتركة، ولذلك نرى أن الربيع الأردني الذي درج الإصلاح على ربوعه، قاد إلى أجواء ديمقراطية وتفاعلات شعبية كبيرة، وعلى اعتبار أننا كما قال الملك نبدأ لحظة مسؤولية تاريخية لبناء المستقبل، وما الانتخابات باشكالها – مثلا–الا من أجل شرف تحمل المسؤولية، لا من أجل مكاسب شخصية ومنافع خاصة، انما أداء شعبي للفعل السياسي والتنموي المتكامل، وعبء لا يمكن لفئة بمفردها أن تحقق أهدافه.على ان تقوم هذه الجهود على أساس التعاقد الاجتماعي وعلى مبدأ التشارك، وعلى تشكل طاقة مجتمعية،تنظم المواطنين وتدفعهم الى العمل بفاعلية، على اعتبار أن المواطنة علاقة قانونية واجتماعية بين الموطن ودولته، تمنحه حقوقا على الدولة وتفرض عليه واجبات تجاه المجتمع.

لقد سطر الملك الأوراق النقاشية الملكية الزاخرة، وهي تحمل تطلعات القائد وتصوراته لمستقبل هذا البلد،بفعل أبنائه ونواياهم الصادقة،فكانت مبادرة خيرة من صاحب المبادرات الثرية والاثرائية، تخاطب الجميع وتستنطق الأغلبية الصامتة، لتعبر عما يدور في خلدها، ولتقول رأيها، فتناول الشأن العام يشكل بوابة من بوابات الإصلاح، التي بدأت تشرع أمامها.لذا يعتبر الطرح الملكي بعيد المدى دعوة للمواطنين ليحشدوا طاقاتهم ويصبوا جهودهم لأداء واجبهم الوطني، بتولي المسؤولية الاجتماعية تجاه بلدهم،والتمتع بحقهم بالقيام بالمسؤولية الواجبة والضرورية. وبشر في ثنايا اوراقه المتفحصة بتشكيل حكومات نيابية، بخطوات ثابتة ومستمرة وبعمل دؤوب، لا تقاعس فيه من أحد ولا إقصاء ولا تهميش، وبنفس الوقت لا انسحاب منه ولا سلبية تجاهه ولا مقاومة، سواء من قوى الشد العكسي التي تقاوم التغيير ولا من قوى الضغط المناوئ التي تستعجل جني الفوائد والوصول إلى المكاسب.

مواقف مجددة لروح النهضة:

تشير الأوراق النقاشية لما يضمن نجاح تنمية المسؤولية الاجتماعية، ألا وهو تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، لأن اصطدام المواطن بحياته اليومية بممارسات تحيد عن هذا المبدأ،ستهز قناعته بهذا النوع من المسؤولية، مما ينبه إلى أهمية أن تصبح المسؤولية الاجتماعية ممارسة حياتية،لا تقوى عليها مشاهد الخرق أو الفساد.

وعلى نفس الغرار جاء كتاب التكليف السامي الجديد للدكتور عمر الرزاز ليدعو الجميع لكي يعملوا من أجل تغيير حقيقي يطال المجتمع الأردني ببنائه الاجتماعي وصرحه الثقافي ومعطياته السياسية ولم يتضمن وعودا لا تراعي الزمن والإمكانات، بل اتجهت أساسا إلى كيفية الوصول إلى الإصلاح الشامل بمعناه ومبناه. ويبرز أهم متطلبات التحول الديمقراطي،وهي تعزيز المجتمع المدني،ودوره في مراقبة الاداء السياسي وتطويره، لتؤكد ترسيخ الثقافة الديمقراطية في المجتمع الأردني.. وهكذا يضع جلالة الملك الامور في سياقها الطبيعي ضمن اطارالحياة السياسية ويصنف المشاركة السياسية في أنها مسؤولية وواجب، ترتب على كل اردني مسؤوليات تتعلق بكيفية الانخراط في العمل السياسي وخاصة في بوتقته الحزبية.

انه لا يمكن النظر إلى مجمل الأصداء التي عكست قدسية الخط الأحمر الذي وضعه جلالة الملك لحدود المس بعزة الأردن ومنعته، إلا انه كان بحق وبمختلف المقاييس، استفتاء شعبيا عاما وبيعة جماهيرية عارمة، وهي التي تجلت في اعلان المليك وقوفه الى جانب الشعب وبين الناس، وزاد على ذلك ان كلف شخصا مستنيرا واضح الرؤية ومرتب الأفكار بتشكيل الحكومة على أساس هذه المبادىء والمنطلقات التي تبلورت بالاوراق النقاشية وتأكدت في كتاب التكليف الجديد.

ان حمل رسالة النهضة التي سطرتها الثورة الكبرى المتجددة، ورسمت للمرحلة الجديدة المستبشرة طريقها وأبعادها، تستدعي تجدد نمط تفكير المواطن على أساس هذه القيم،بما ينمي لدى الشباب روح المبادرة والمشاركة رأيا وفعلا في معالجة قضايا المجتمع ككل، ويساعد على توحيد المشاعر والقيم،وفقا لتفكيرمشترك فيما بين الشباب الأردني، وبما يجسد قيم العدالة والحرية لتأطير المواطنة وحقوق الإنسان والديموقراطية.

(الرأي الأردنية)