موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الثلاثاء، ٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٧
بين الإشراق والتنوير؛ أين المصير

الحسن بن طلال :

في الحديث عن مشرقنا العربي، تتبدّى مصطلحات الفوضى والتشظي والعنف والوهن والاستكانة في محاولة توصيف مجريات الأمور وتطوراتها. وفي مثل هذه الظروف يكون التمسّك بالواجبات المدنية والوطنية أولوية كبرى في مقابل الخلافات والمصالح الضيّقة. ويقف الوعي الوطني في مواجهة المصالح الطائفية والحزبية المحدودة.

وإذا كانت لأهدافنا جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية، علينا أن نضعها في صـورة رؤية تستوعب التطور مع مرور الزمن كضرورة حياتية. ويتصل بهذه الضرورة تحقيق الاستقرار السياسي والمجتمعي والاقتصادي، الذي يمثل قاسما مشتركا وهمّا مؤرقا يتصل بهشاشة الأوضاع في المشرق العربي، حيث نواجه مصفوفة من التحديات غير المسبوقة والمتشابكة، منها الصراعات الممتدة والحروب والنزوح البشري غير العادي وندرة المياه ونقص الطاقة. وفي ظل غياب إطار عمل إقليمي لفهم هذه الأحداث والاستجابة لها، تتفاقم مشكلات التنمية المزمنة، وتطال انعكاساتها التماسك الاجتماعي والكرامة الإنسانية والتوزيع العادل للموارد.

في الدولة المدنية، يكون الدستور والنظام السياسي مصدرين للاستقرار والمرونة والقدرة على الاستمرار. وتكون مجتمعاتنا مؤسسة على القواعد الأخلاقية التي ورثناها عن الآباء والأجداد. ويكون من مقتضيات تلك الدولة إعلاء دور القانون واحترام التنوع الديني والثقافي وتحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين.

وعندما يثار الجدل حول القوانين والتشريعات وعن كيفية صياغتها، يتعيّن الأخذ بالحسبان ما لهذا الأمر من بعد أخلاقي من شأنه أن يخدم المفاهيم الإدارية والقضائية التي تتصل بتنفيذ المهام اليومية للدولة.

ولا بدّ للدولة أن ترقى إلى تحقيق مفهوم الخير العام الذي يؤسس لإدارة الشأن العام (الحاكمية الرشيدة) القائمة على الشورى والحوار، والتي تعمل على تجسير الفجوات بين الواقع والطموحات، كما هو الأمر بين السلطة الإدارية والقرارات السياسية، أي بين حَرفِيّة الإدارة وروح القيادة ورسالتها. وترتبط التنمية السياسية في الدولة المدنية بالتنمية الاقتصادية، فالدولة التي تخفق في بناء نظام اقتصادي فاعل وعادل لن تحظى بمجتمع مدني يُحترم فيه القانون ويُصان فيه المال العام. سياسي؛ الإدارة التي تعزز الشعور بالمحاسبة وتحفز القدرة على التخيُّل والإبداع في التفكير. وقد تنزع بعض القيادات العامة التي لم يسبق لها أن مارست المسؤولية إلى العواطف، وتكرار الحديث عن الطموحات السياسية العامة من غير التدبير السليم للمتطلبات العملية.

وفي إطار الدولة المدنية، يتحقق التواصل بين القائمين على الشأن العام والمواطن، على أساس من الثقة المتبادلة والتعلّم المشترك والتعاون بما يحقق الصالح العام. وفي غياب ذلك تتنامى مشاعر فقدان الأمن والاستقرار، بما يحد من تحقيق التنمية المنشودة وإطلاق العنان للقوى الخلاقة في مجتمعاتنا.

إلى جانب المؤسسات الرسمية للدولة، تنهض مؤسسات المجتمع المدني والعمل التطوعي الإنساني بدور كبير في تعزيز قوة الدولة المدنية، ليس على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فحسب، وإنما يمتد ليشمل الدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز قيم المواطنة والعمل المدني.

ولكي تستقيم علاقة الفرد بالدولة، لا بدّ أن تكون علاقة تبادلية – تسير في اتجاهين – وتستندُ إلى القيَم الإنسانية الأساسية. ولعل المفتاح الأساسيّ بالنسبة للفرد هو تفعيل المواطنة الحاضنة للتنوّع الديني والثقافي، وتحفيز الأغلبية الصامتة كي تنهض بدورها الإيجابي.

ومن أجل بناء المواطن العقلاني المستقل، لا بدّ من تحفيز المشاركة أو الممارسة السياسية وتعميق ثقافة التسامح الفكري المتبادَل وتشجيع روح المبادرة بما يعزز الثقة بين المواطن والدولة ويرسّخ الوعي الجمعي لأفراد المجتمع.

إن إقامة حوار مجتمعي وسياسي منوط بتفهّم أطراف المعادلة بعضها بعضا والإحساس بالقرب والقربى بدلا من الخصام وفقدان الثقة. عندما يكون القانون بالمفهوم الفني منفصلا عن القـانون بأبعاده الأخلاقية، فإننا نجد من القائمين على إدارة الشأن العام من يتوهم أنه وحده يمتلك كل شيء.

وهذا ما يثير لديهم نظرة الشك والريبة إزاء الحديث عن الشفافية والرقابة القانونية، وفي سياق البحث عن الطموحات السياسية قد يتجه البعض إلى خداع الجماهير بدلا من الوفاء بالوعود والالتزامات. وهذا يؤكد أن أي إصلاح في المجال القانوني لا بدّ أن يصاحبه إصلاح في المجال الأخلاقي.

لا بدّ أن نستثمر مفهوم الأمة وهويتها الحضارية في سعينا نحو تحقيق التعارف والتكامل مع منجزات الأمم الأخرى بما يمكّننا من بناء مجتمع مدني قادر على تحقيق التنمية والتقدم والازدهار.

ولا يحول الحديث عن أمجاد الماضي ومآثر الأجداد دون أن نبصر أهدافنا وندرك جديّة مقاصدنا. كما أن الحديث عن أهمية المعتقدات لا يبرر التقصير في العمل أو الإخفاق في تحقيق التقدم والنماء. إن اكتشاف الأخطاء والاعتراف بها هما خطوتان أوليّتان نحو تصويب أوضاعنا وأخطائنا والشروع في التقييم الذاتي الشامل (بدلا من مديح الذات) بما يمكّننا من الارتقاء إلى المكـانة التي نستحقها بين الأمم.

وفي الاستجابة للتحديات الملحّة التي نواجهها، فإننا نركن إلى مواردنا البشرية والمادية من أجل ترسيخ بنيان الدولة المدنية. وفي مشرقنا العربي، تبرز الحاجة إلى تقوية الديمقراطية وتعزيز القيم المتأصلة في ثقافتنا الدينية والأخلاقية إلى جانب إقامة نظام اقتصادي متوازن ونظام اجتماعي عادل.

وفي هذا المسعى، فإن التمسك بقوّة العقل والأفكار، وتعزيز القيَم الإنسانية المشتركة هما السبيل إلى مواجهة التحديات الكبرى التي لطالما تكون الإنسانية فيها هي الحلقة المفقودة. يقول الله تعالى في مُحْكَمِ التّنزيل: “يَا أيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”. "سورة الانشقاق (84): الآية 6"