موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٥ مايو / أيار ٢٠١٦
ببركة المستقيمين تعلو المدينة

سائد كراجة :

في معرض "إرث الأردن"، الذي افتتح في مكتبة الجامعة الأردنية؛ استوقفتني صورة لأردني يبذر باحة المدرج الروماني قمحاً، وصورة ثانية لإعلان عن فيلم "الطريق إلى يوتوبيا" في سينما الاستقلال. المعرض استرجاع لروح الشعب الأردني الثائر ضد الاستعمار العثماني، وهو يُغطي الفترة ما بين بداية القرن التاسع عشر وحتى الاستقلال. مذهل هذا التنوع للمواطنين الأردنيين؛ الشركس في عمان وجرش -تُميزهم من ملابسهم- يعيشون جنباً إلى جنب مع فلاحي وبدو الأردن. والمرأة حاضرة بوضوح في الحياة العامة؛ أُمّا مع وليدها، ومزارعة في حقلها، وراعية لقطيعها، إنها في صدر المشهد اليومي للحياة، لا مُتوارية ولا مَخفية.

في العمارة، ظهرت الكنائس والمساجد في السلط ومأدبا والكرك. وفي السلط، تجد عمارة أوروبية أو نابلسية. وفي كل الأحوال، فقد انتشر الناس، مسيحيين ومسلمين، كأردنيين يشتركون في بناء الوطن. وأَسقط الأردنيون دونما تنظير سياسي مُقعر مقولات الأقلية الدينية أو العرقية، فوجيههم قد يكون بدوياً أو شركسياً أو مسيحياً أو شامياً أو قدسياً، يعتمد ذلك على قيمه واستقامة أخلاقه ومساهمته في بناء المجتمع، ولهذا انخرطوا جميعاً في حلم بناء الوطن كمواطنين.

بغض النظر عن محاولات بائسة لربط الحكم العثماني بالإسلام، فإن التاريخ والواقع يُشيران أن فترة الحكم العثماني هي فترة فقر واستغلال للموارد والإنسان. فمثلاً، قطعت الدولة العثمانية مليوني شجرة تقريباً من أشجار الأردن لبناء سكة الحديد، لكنها لم تُقِم مشروعاً زراعياً تنموياً أو ثقافياً أو سياسياً يترك أثراً وراءها؛ فهي فترة نهب للثروات، وفرض للضرائب ومشاركة الفلاحين في رزقهم، وبطش سياسي وإعدامات جماعية. هذا ما وثّقته صور المعرض. وعلى الرغم من محاولة طمس هوية العرب والأردنيين لتغذية حس التتريك الذي راود حُكّام الدولة العثمانية؛ فقد زخر الأردن بتجربة فريدة يُثريها التنوع وقبول الآخر، والنضال السياسي الذي رَنا للتمدن والتحضر في نطاق هوية عربية منفتحة على العالم، غير عصبية ولا متعصبة.

صور الجد المؤسس تعكس نضال العربي الثائر الطامح لمستقبلٍ حرٍّ وطني، صور رفاقية مع شعب قليل الموارد، عريق التراث، شعب على مستوى مبهر من الوعي السياسي الحضاري القومي، فاعل ومتدخل في الحياة السياسية، يعقد مؤتمرات شعبية عارمة، جذر مطالبها التمسك بحق تقرير المصير، والمحافظة على عروبتهم، وبناء دولة مؤسسات ديمقراطية حرة.

هذا الإرث الأردني العميق من قبول الآخر ودمج الثقافات، هو ما زاد الهوية الأردنية عراقة وصلابة ومدنية، وأبرز ثقةً حضاريةً للأردنيين بهويتهم، وجسَّد بعمق هوية للأردنيين شعباً ومجتمعا قبل تأسيس الدولة وبعدها، فقد عاش الأردنيون بل سكنوا آثاراً نبطية ويونانية ورومانية وإسلامية، كما عاشوا تراثاً انسانياً لوطنهم، مَكَّنَهم من قبول ثقافات وعادات وشعوب انصهرت في هوية أردنية جامعة قادرة على التطور عصيّة على التآكل والذوبان.

خُلاصة القول؛ إن التراث والتاريخ يُثبتان أن الأردن كدولة ومجتمع، قام ثائراً على المرعوبين من الآخر وثقافته ودينه، وليس منهم من ترعبه حكمة لسليمان في الكتاب المقدس، أو شيخ صوفي أو قول لكنفوشيوس. ولقد مرّت عليهم تجمعات وعروق ولاجئون، ومع ذلك فإن هويتهم زادت تجذّراً وصلابة، بل إن استقلالهم هو احتفالٌ حضاري بالتعددية وقبول الآخر والمواطنة الفاعلة للأردنيين في بناء وطن حر.

كل عام والأردن بلد الأحرار المُتفتحين على الحضارات والثقافات، المدافعين عن وطن للأردنيين جميعاً.

(جريدة الغد الأردنية)