موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٧ ابريل / نيسان ٢٠١٧
بابا المصالحة التاريخية والتجديد

سمير مرقص :

«الكنيسة ليست هي المبنى (الحجر)، إنها البشر القادر على استيعاب وممارسة الحداثة... كما يجب ألا تتحول الكنيسة إلى منظمة غير حكومية أو شركة، والأساقفة إلى أمراء ومديرين بلا رحمة... «علينا أن ننتبه –دومًا- إلى الضعفاء والمعوزين والمهمشين».

كلمات بسيطة، ولكنها مفتاحية لفهم شخصية بابا الفاتيكان: البابا فرنسيس، الأب الروحي لأكثر من مليار كاثوليكي في أرجاء العالم، الذي يحل ضيفًا كريمًا على مصر من اليوم. فنحن أمام شخصية تاريخية بكل المقاييس لسببين هما: الأول: هو أنه حمل في شخصه «تسوية تاريخية» بين التيارات الفكرية التى كان يموج بها الفاتيكان تاريخيا: الوسطية، والمحافظة، والراديكالية. الثاني: أنه حمل معه إلى البابوية «هموم وآلام ومحن بسطاء الناس بالمعنى المسيحي»: «صالمنسيونش»؛ والذين خارج الحسابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

فلقد كان على مدى خدمته الكهنوتية في الأرجنتين معروفًا بأسقف الهوامش أو الأحياء الأكثر فقرًا الخالية من الخدمات والمرافق الأولية الانسانية: Bishop of Slums؛ أو بلغة أخرى مناطق البؤساء. لذا أعتبر البابا فرنسيس انقطاعًا تاريخيًا للفاتيكان.

الفاتيكان الذي كان طرفًا في لعبة الحكم الأوروبية التي كان طرفاها: «بابا روما، والإمبراطور». وكان الإمبراطور يتم الاعتراف به رسميًا بعد أن يتوج البابا الحاكم الجديد. وكانت الفاتيكان شريكة في كل مغامرات أباطرة أوروبا. قللت بعض الشيء معاهدة وستفاليا 1648 من سطوة الفاتيكان إلا أن المؤسسة الكنسية ظلت حاضرة بدرجة أو أخرى في اللعبة السياسية. إلا أن رياح التجديد هبت على الكنيسة الكاثوليكية على موجتين كما يلي:

أولا: الموجة الأولى فى 1955 مع انعقاد مجمع أساقفة أمريكا اللاتينية. وهو المجمع الذي أعلنوا من خلاله عن الوضع غير الإنساني الذي تعاني منه مجتمعاتهم بسبب الدكتاتورية وانحياز المؤسسة الدينية إلى الحكام وإلى طبقة الإقطاعيين بدعم الكنيسة المركز (أو ما يعرف بتحالف الكريول). وعندما شعر الفاتيكان آنذاك بأن هناك تمردًا سارع بعقد مجمع الفاتيكان الشهير الذى امتد لمدة أربع سنوات مطلع الستينيات. وصحيح أنه استطاع أن يصدر وثيقة تجديدية شاملة تاريخية. إلا أنها لم تنجح في الاستجابة لاحتياجات شعوب الجنوب أو الأطراف (إذا ما استعرنا التقسيم الذى أبدعته مدرسة التبعية: المركز والأطراف. أخذا في الاعتبار أن هذه المدرسة قد انطلقت من أمريكا اللاتينية).

ومن ثم انطلقت ثانيا: الموجة الثانية نهاية الستينيات من خلال حركة قاعدية شعبية عرفت بحركة لاهوت التحرير والتي أطلقها مجموعة من الشباب الذين انفتحوا على العصر بأفكاره الجديدة مثل: مدرسة فرانكفورت، وجرامشي، ومحاولات التجديد اللاهوتية في أوروبا وتحديدا ألمانيا، وفكر وثقافة وابداعات ثورة الشباب في فرنسا، وجديد علم التنمية، واقتصاد مدرسة التبعية،...،إلخ. ما نتج عنه اجتهادات لاهوتية بديعة مقرونة بممارسة حية وسط الفقراء، (عرضنا لجانب منها في دراستنا المبكرة عن تجربة لاهوت التحرير 1994، والتي توسعنا فيها ونعدها للنشر في كتاب).

في هذا السياق اللاتيني المعقد، ولد وعاش وخدم البابا فرنسيس. فلقد ولد عام 1936 في بيونس أيريس، الأرجنتين. وبدأ يتعلم اللاهوت في 1960. ودرس الفلسفة في تشيلي 1961. واستكمل دراسته اللاهوتية. ثم بدأ خدمته كراهب يسوعي منذ منتصف السبعينيات إلى أن أصبح رئيسا لأساقفة بيونس أيريس عام 1998 باسم: الكاردينال خورخي ماريو بيرجوليو. فلقد عانى البابا فرنسيس مثلما عانى أبناء القارة اللاتينية من كل الصعوبات التي مرت بدولها من: حروب، وانقلابات عسكرية متعاقبة ودورية، وانتهاكات انسانية وحقوقية، وظروف اجتماعية بشعة، وأمراض مجتمعية قاسية. لذا كانت خدمته ككاردينال تتميز بالانحياز للبسطاء من جهة. وتمكينهم من جهة أخرى.

وكانت ذروة ما أنجزه وثيقة استرشادية يتبعها رجال الدين فى أمريكا اللاتينية حيث تتمحور خدمتهم حول الفقراء وثقافتهم. وقد أعلنت في 2012 من خلال اللقاء الدوري لمجمع أساقفة أمريكا اللاتينية، الذي انعقد في 2007، وعرفت الوثيقة «To Change Poor People s Culture» ... كما لعب دورا كبيرا ومهما في مداواة وجبر الآثار السلبية لما يعرف «بالحرب القذرة» أو الحرب الأهلية التى جرت فى الأرجنتين بعد منتصف السبعينيات. لذا طرح اسمه ليكون على قمة الفاتيكان في 2005، ويفصل بول فالي في كتابه البابا فرنسيس: حلال العقدس - 2013، كيف كان الكاردينال بيرجوليو حاضرا بقوة في كل جولات الانتخاب التي جرت آنذاك وكان مرشحا قويا أمام الكاردينال راتزينجر (الذي عرف بمحافظته الشديدة) الذي أصبح البابا بينديكت 16 في هذه الانتخابات.

وجاءت انتخابات 2013. ومنذ الوهلة الأولى تبين للمتابعين اهمية هذا الرجل الذي وصلته دعوة للمشاركة في انتخاب خليفة للبابا بينديكت ومعها تذكرة درجة أولى. وهي التذكرة التي رفضها وجاء إلى روما بتذكرة اقتصادية. وتوضح كواليس الانتخابات الديناميكية التي كان عليها الكرادلة والإحساس بالحاجة إلى أمرين هما: أولا «المصالحة التاريخية» بين: «التقوى والحداثة»؛ وثانيا: «التجديد» «لدور ورسالة الفاتيكان»... ولأن البابا فرنسيس قد استطاع بانتخابه أن ينجز تسوية تاريخية بين التيارات الفكرية المختلفة في كنيسة روما. وأن يعيد الاعتبار لبسطاء الناس او المنسيين كما أشرنا في البداية. فإنه نجح أن يكون بحق: بابا المصالحة التاريخية بين الروحانية والرعاية الروحية والتقوى الدينية والزهد وبين التجديد المؤسسي. وأن يوظف ما سبق في مصالحة تاريخية عملية مع «المهمشين» أو قاعدة الجسم الاجتماعي للكيان الكنسي: «الغلابة - الأغلبية». فلا يعودو بعد على الهامش أو متلقين للإحسان وإنما كأعضاء فى جسم الكنيسة لهم كل الحقوق شأنهم شأن النافذين.

ومنذ انتخاب البابا فرنسيس، بهدوء ونعومة ومعرفة حديثة، وقبل ذلك بتواضع شديد ومن خلال ممارسات روحية لافتة، عمل أول بابا غير أوروبي منذ 12 قرنًا على تجديد الفاتيكان، قبلة الكاثوليكية في العالم. التجديد يتم هذه المرة من الداخل أو في المركز بواسطة البابا القادم من الأرجنتين. تجديدا حقيقيا وليس شكليا وإنما موضوعي. فأعاد هيكلة الفاتيكان على أسس عصرية وذلك باختياره عناصر شابة. فهو يؤمن بأهمية الشباب في هذا العصر، مدركًا -كما يقول أحد الباحثين: «أن الشباب أسرع فئة تصطدم بالواقع المغاير لطبيعته منتفضًا ضد الفساد والظلم». وعليه ناشد الشباب بقوله: «أنتم أيها الشباب لديكم حساسية تجاه الظلم، وعما يترتب على الفساد من تداعيات. وخاصة إذا ما جاءت على أيدي أشخاص كان من المفترض أن يسعوا نحو الخير العام لا إلى خيرهم الخاص. لذا لا تيأسوا أبدًا ولا تفقدوا الثقة والرجاء ويمكن للحقيقة أن تتغير كما يمكن للإنسان أن يتغير، فأسعوا لتحقيق الخير». وفي هذا الاتجاه يحرص البابا أن يقدم نموذجًا عمليًا في استخدام كل ما هو بسيط متجنبًا الكماليات والبذخ، ونازعا نحو التجرد والزهد.

لقد صنع البابا فرنسيس الكثير منذ 2013 واستطاع أن يكون مصلحًا وفي نفس الوقت راديكاليًا. يتبع راديكالية بنفس إصلاحي. أو إصلاح بمنهج راديكالي. البابا فرنسيس بات الملقب «بالمُصلح العظيم: بابا راديكالي» The Great Reformer: a radical Pope (بحسب أحد الباحثين المعتبرين). شريطة أنه يقوم بذلك بتجرد كبير وبرسائل واجتهادات غير مسبوقة تحث رجال الدين على عدم اكتناز المال. وعلى الانفتاح على الجميع دون شروط. كما أنه بدأ يكون حاضرًا في الساحة الدولية بمنهجية مغايرة وهو ما وضح في خطابه المهم في اسطنبول ورعايته للمصالحة التاريخية بين أمريكا وكوبا. إن تجربة البابا فرنسيس الأول في تجديد الفاتيكان جديرة بالقراءة والمتابعة الدقيقة والمتأنية خاصة أنها تعكس فكرًا وخطابًا متجددًا.

مرحبًا به في مصر.

(نقلاً عن الأهرام المصرية)