موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ١٥ أغسطس / آب ٢٠١٩
انتقال العذراء مريم إلى السماء.. عقيدة إيمانية

المطران كريكور أوغسطينوس كوسا :

أعلن قداسة البابا بيوس الثاني عشر عقيدة إنتقال العذراء بالنفس إلى السماء سنة ١٩٥٠ قائلاً: "نؤكد ونعلن ونُحَدّد عقيدة أوحى بها الله وهي أن مريم أم الله الطاهرة مريم الدائمة البتولية، بعدما أتمت مسيرة حياتها على الأرض، رفعت بالنفس والجسد إلى المجد السماوي".

مريم هي حواء الجديدة، فهي موازية للمسيح آدم الجديد. إتحدت مريم إتحادًا وثيقًا بآدم الجديد في محاربة العدو الجهنمي، فكان لا بُدَّ من أن تنتهي الحرب التي خاضتها مريم متحدةً مع إبنها بتمجيد جسدها البتولي، والإنتقال من هذا العالم بالنفس والجسد.

إنتقال القدّيسة مريم، أمّ الفادي، بنفسِهَا وجَسَدِها إلى مجد السماء يجعل منها تحفة الفداء وعمل الله الثالوثي: إنَّها إبنةُ الآب وأمّ الإبن وعروس الروح القُدُس. بواسطتِها تحقّق تصميم الآب الخلاصي الذي وعد به منذ سقوط آدم وحواء "فهي تسحق رأسَكِ، وأنتِ تُصيبينَ عَقِبَه" (تكوين ٣: ١٥). منها ظهر للعالم الكلمة المتجسّد، ومعها بدأت الشركة بالروح القدس بين الله والإنسان. محبَّةُ الآب ملأتها، ونعمةُ الإبن خلّصتهَا، وحلول الروح قدّسَهَا. يجعلها الإنتقال نموذجاً لعمل الله الثالوثي في كلّ إنسان في دعوته الشاملة إلى القداسة، وفي دعوته الخاصّة وسط مسيرة شعب الله. ويجعل منها قدوةً في إختبارات الإنسان مع عمل الله.

إنتقالها بالنفس والجسد مشاركة فريدة في قيامة ابنها وصعوده بالمجد نفسًا وجسدًا إلى السماء، وإستباق لقيامةِ القلوب ومشاركةِ النفوس المفتداة بدمِ إبنها الفادي الإلهي في الأمجاد السماويّة، ولقيامةِ الأجسادِ في نهايةِ الأزمنة للمشاركة في هذا المجد.

إن الإنتقال، في كلّ ما يحتويه من حقائق، إعلان لكرامة الشخص البشريّ في نفسه وجسده، ولمصيره الأبديّ الذي يتسأل حوله الكثيرون: ماذا بعد الموت؟ بإنتقالها إلى السماء، بقيت أمومتها في الكنيسة، شفيعة، ترفع صلواتها لأجل أبنائها المسافرين في هذا العالم وسط محنة وتعزيات الله، تتضَرّع من أجلهم وتستمطر عليهم النِعَمْ التي تضمن خلاصهم الأبديّ، فيكتمل نهائيًا عقد المختارين جميعًا، ولهذا تدعوها الكنيسة: الأُمّ، المحامية، المعينة، المغيثة، الوسيطة، المعلِّمة، المرشِدة. ونحن بدورنا ننشد لها: "وإن كان جِسمُكِ بعيدًا منّا، صلواتك هي تصحبنا…".

إنّ مريم العذراء، منذ تكوينها بريئة من دنس الخطيئة حتى نياحها مُحرّرة من فساد الموت والقبر، وهي إلى جانب إبنها أيقونة الحرّية والتحرير بمعناها الرّوحيّ وبُعدها الانسانيّ والإجتماعيّ. إنّ الكنيسة، بالنظر إلى مريم أمّها ومثالها، تفهم فهماً كاملاً معنى رسالتها وأبعادها، وتلتزم بها دون خوف أو تردّد أو مساومة.

من أكثر الأعياد قدماً ومحبة للعذراء مريم الكلية القداسة هو عيد انتقال العذراء لمجد السماوات بالنفس والجسد، أي بكامل كيانها البشري، بكامل شخصها. يُعدّ إنتقال العذراء مريم بالنفس والجسد إلى السماء عقيدة من أهم العقائد المسيحية حول العذراء في الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية. والعقيدة معناها حقيقة إيمانية إلزامية، بحيث لا يمكن لأحد أن يدعي المسيحيّة ما لم يؤمن بها.

أشار نص سفر الرؤيا إلى مصير سيدتنا مريم العذراء، مصير مجد فائق الوصف لأنها متحدة بشكل كبير بالإبن الذي تلقته بالإيمان وولدته في الجسد، وقاسمت بالكمال مجده في السماوات. "ظهرت آية عظيمة في السماء: إمرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبًا، حامِلٌ تَصرُخُ من ألم المخاض… فوضعت ابنًا ذكرًا، وهو الذي سَوفَ يَرعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصًا من حديد" (رؤيا يوحنا ١٢: ١-٢ و٥). إن عظمة مريم، أُمّ الله، الممتلئة نعمةً، والخاضعة بالكامل لعمل الروح القُدُس، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نفسًا وجسدًا.

هكذا آمنت الكنيسة على مر العصور "أن أُمَّ الله الطاهرة، في ختام حياتها الأرضية، قد نُقِلَتْ نفسًا وجسدًا إلى المجد السماوي". وهذا ما حدَّده البابا بيوس الثاني عشر في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني عام ١٩٥٠، سنة اليوبيل، عقيدةً إيمانية بشأن إنتقال مريم المجيد إلى السماء، الذي يشيد به عيد اليوم. قال البابا حينها: "إنها لحقيقة إيمانية أوحى الله بها، إن مريم والدة الإله الدائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب، بعد إتمامها مسيرة حياتها على الأرض نُقِلَت بجسدها ونفسها إلى المجد السماوي". ويبيّن البابا أن هذا العيد "لا يذكر فقط أن الفساد لم ينلْ من جسد مريم العذراء بل يذكر إنتصارها على الموت أيضاً، وتمجيدها في السماء، على مثال إبنها ووحيدها يسوع المسيح.

أتى هذا الاعتقاد في الكنيسة الكاثوليكية متوافقاً مع الرؤية المسيحية لأمومة مريم البتول الإلهية وقداستها وحُبل بها بلا خطيئة:

أولاً: بما أن أنها الوالدة المجيدة للمسيح مخلصنا وإلهنا واهب الخلود، فهو يهبها الحياة، وهي تشاركه إلى الأبد في عدم فساد الجسد. فهي متحدة اتحاداً وثيقا بإبنها الإلهي وشريكة معه في كل شيء.

ثانياً: القديس جرمانس من القسطنطينية يرى أن جسد مريم البتول، والدة الإله، نُقِلَ إلى السماء، ليس فقط بسبب أمومتها الإلهية، بل لقداسة خاصة شَمَلَت جسدها البتولي، فقال: "جسدك البتولي كلُه مقدسٌ وكله عفيف ولكنه مسكن لله. ولهذا فهو بعيد عن كل انحلال ولا يعود إلى التراب".

وأخيراً، الإنسان يموت بسبب الخطيئة المتوارثة منذ آدم وحواء، وبصفة أن العذراء لم ترث هذه الخطيئة الأصلية فهي بالتالي لا داعي لموتها. ومن هنا جاء تعليم الكنيسة الكاثوليكية: أن العذراء مريم، التي عصمها الله وصمات الخطيئة الأصلية، والتي أكملت حياته الأرضية، رُفِعَتْ، بالنفس والجسد، إلى مجد السماء، وأعطاها الرب لتكون ملكةَ الكون، ولتكون أكثر تطابقاً مع إبنِهِ، ربُّ الأرباب، المنتصر على الخطيئة والموت"، فنالت لامتيازاتها ألا يمسَّها فساد القبر ونُقلت نفساً وجسداً إلى السماء حيث تجلس الآن ملكة متألقة عن يمين ابنها، ملك الدهور.

انتقال العذراء وآباء الكنيسة

وقد ظهرت هذه العقيدة في كتابات آباء الكنيسة إذ يقول القديس يوحنا الدمشقي: "كما أن الجسد المقدّس النقي، الذي اتخذه "الكلمة الإلهي" من مريم العذراء، قام في اليوم الثالث هكذا كان يجب أن تُؤخذ مريم من القبر، وأن تجتمع الأم بابنها في السماء" ويتابع القول: "كان لا بد لتلك التي استقبلت في أحشائها الكلمة الإلهي، أن يتم انتقالها إلى أخدار ابنها، كان لا بد للعروسة التي اختارها الآب، أن تقيم في أخدار السماوات".

ويشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظة شهيرة فيقول: "اليوم حُمِلَت العذراء إلى الهيكل السماوي. اليوم، التابوت المقدس الحي الحامل الإله الحي، التابوت الذي حمل في أحشائه صانعه، اليوم يرتاح في هيكل الرب الذي لم تبنه أيدٍ بشرية".

أما القديس بطرس دميانوس فيقول: "في صعودها جاء ملك المجد مع أجواق الملائكة والقديسين لملاقاتها بزفةٍ إلهية، ولهذه الأقوال نجد صدىً في الكتاب المقدس ولاسيما نشيد الأناشيد يقول: "قومي يا خليلتي، يا جميلتي، وهَلُمِّي" (نشيد الأناشيد ٢: ١٠).

+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية واورشليم والاردن للأرمن الكاثوليك