موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الجمعة، ٢٧ فبراير / شباط ٢٠١٥
الموصل خالية من أهلها الأصلاء في ذكرى استشهاد المطران فرج رحو

د. غازي ابراهيم رحو :

في ذكرى استشهاد شيخ شهداء كنيسة العراق المطران فرج رحو التي تمر هذه الأيام ذكراها الثامنة لاستشهاده، وأهل مدينة الموصل غائبون عنها، نازحون منها، مهجرون بقسوة الإرهاب. وتتزامن ذكرى استشهاده مع حزن أبناء الموصل الأصلاء لفقدانهم مدينتهم وبيوتهم، وأرضهم وتاريخهم وكنائسهم، بعد أن دنسها الأغراب وأفرغها المد الهمجي المتخلف من أهلها الأصلاء، وأصبحت مدينة الأشباح مدينة القتل والذبح والتكفير.

تلك المدينة التي أحبها شيخ الشهداء ورفض الخروج منها، أو تركها، وأصر على البقاء فيها حتى الاستشهاد، وشدد على أبناء شعبه ودعاهم بالبقاء في تلك الأرض رغم كل ما يحدث لهم، ورغم تفجير كنائسهم وقتل الآباء الكهنة واستشهاد الأبرياء على يد القوى الظلامية. إلا أن جرائمهم البشعة أفزعت أبناء شعبنا وأهلنا وتركوا مدينتهم تحت ظلم السيف المسموم بأفكار الظلم.

تمر اليوم ذكرى استشهاد هذا الرجل الجليل الذي أحب أرض الموصل وأحبته جبالها وسهولها ووديانها وأزقتها، ولجأ إليه حتى الاخرون طلباً للمشورة والمساعدة، فكان لهم أباً وأخاً وصديقاً، وقف مع أهل الموصل في وقت الضيق فأحبه الجميع.

اليوم اجراس الكنائس ونواقيسها حزينة حيث توقفت عن الترنيم بسبب قوى الشر الغاشمة التي اسكتتها وسرقت الكنائس ودمرت المخطوطات ونشرت الرعب في مدينة المحبة، مدينة الأديرة والكنائس، وحولت شوارعها وأزقتها إلى سواد في سواد، وانتشرت فيها رائحة البارود، وسيطرت العقول والأفكار المسمومة. وغاب عنها أهلها، وغابت عنها نفحات المحبة والتآلف، وأصبح البكاء والعويل رموزها، بعد أن كانت مدينة الربيع والعطاء والزهور.

تمر ذكرى استشهاد رجل السلام المؤلمة اليوم وشعب الشهيد المطران فرج رحو الذين كانوا يحتفلون بحزن بذكرى استشهاده في كنائس الموصل بالصلوات والدعاء وهم محزونون مكروبون بفقدانه وغيابه عن أرض الموصل جسداً، وبقاء روحه تحوم حول مدينة المدن التي أحبها الشهيد، وهم مشردون في مدن كردستان ومدن الجوار يئنون مما حصل لهم من ذوي القربى ومن الأغراب، هؤلاء القتلة والمأجورين اللذين دفعهم حقدهم على الإيمان وعلى كل من هو قريب من الرب.

في ذكرى الاستشهاد الحزينة هذه التي تمر علينا اليوم جميعاً، وأهل وأبناء الموصل الاصلاء يأنون ألماً بفراق مدينتهم التي نزحوا عنها إلى منافي الهجرة ومناطق النزوح وهم يتذكرون ويتألمون لفقدان راعيهم ذلك الرجل الشجاع الذي أحب الإيمان، وأخلص لشعب الإيمان، ورفض الذل والهوان، وقاتل كارهيه بالإيمان، وحاججهم بمحبته لأهله، وحتى لمن أراد له الموت والهوان. فقد صلى من أجل قاتليه ودعى ربه ليسامحهم لأنهم يفعلون ما لا يعرفون.

تمر الذكرى، وأبناء المطران الشهيد محزونون ومكروبون، ألماً بفراقهم لتلك الكنائس التي صدحت بصوت ذلك الرجل المؤمن المضحي وكلماته التي لا زالت وستبقى تصدح في آذان الجميع، والتي يعبر فيها عن حبه لمدينة الكنائس التي دمرها الأغراب الذين يحملون في قلوبهم حقداً على الإنسانية.

تمر هذه الأيام في ذكرى اختطافه يوم 29-2-2008 حيث كان في طريق عودته إلى داره بعد حضوره صلاة الصوم عندما هاجمه عدد من شذاذ الآفاق من الذين أرهبتهم كلماته وأقلقهم إصراره على البقاء وعدم الهجرة أو تهجير شعبه.

تمر أيام اختطافه ومدينته اليوم تتألم لفراق أهلها الأصلاء وكنائسها سجينة الإرهاب، وقد دنسها الأغراب. تلك الكنائس التي استقبلت حتى أبناء الموصل من الديانات الأخرى الذين كانوا يزورنها لوضع شمعة لسيدتنا العذراء مريم التي ذكرتها جميع الكتب السماوية، وهي أشرف نساء الدنيا التي حملت سيدنا يسوع المسيح ليكون منقذاً للبشرية في أخطائهم. تلك الكنائس التي دنسها الحاقدون المتخلفون، وتركها أهلها الأصلاء بعيون منكسرة وعيون باكية لهذه الهجرة القسرية. حيث سبقهم شيخ الشهداء المطران فرج رحو وغادرها إلى دنيا الحياة بعد أن تسامى في العطاء وقدم روحه فداءً لإيمانه ولمدينته التي أحبها، وترك غصة في نفوسنا ولوعه في قلوبنا، وفي العالم الذي ضج يوم اختطافه وحزن لما حدث له من عذابات قاسها من أجل إيمانه، ولكن رغم كل ذلك فهو لا يزال يعيش معنا في أحلامنا وضمائرنا.

إن أبناء الموصل يتذكرون شيخهم الجليل ويحتاجون لكلماته التي تعطيهم القوة والإيمان للصبر في محنتهم هذه، وهم ينتظرون يوم الخلاص من هذه القوى الغاشمة، ويتذكرون كلمات الشهيد لأنها تعيش معهم وفي أحلامهم وضمائرهم، ويتذكرونها عند الأصيل ويصلون مع الشهيد في الفجر ببسمة الأطفال البريئة، ويسمعون معه نشيد شجياً مع تراتيل الملائكة والقديسين. فيوم وداع الشهيد فرج لم يزل يؤلمنا جميعاً ومدينته التي كرمته ووضعت اسمه في أحد شوارعها، اليوم تبكيه وتبكي أهلها الذين غدر بهم الكافرون، وجعلوها مدينة الحزن والبكاء، بعد أن تحولت إلى مدينة الموت والدمار والدماء، فتحولت أزقتها إلى أشباح بعد أن كانت مدينة التآخي ومهرجان الربيع والفرح.

اليوم أيها الشهيد البطل الموصل تبكيك وتبكي أهلها وأصلائها الذين هجروها، وتحولت كنائسها إلى أطلال بعد أن أراد الأغراب أن يفقد أبنائها الإيمان ولكنهم فشلوا، لأن الإيمان بالقلوب وليس بالسيوف. اليوم وأنت تتألم لما يحدث لشعبك في الموصل، فإن صلواتك لهم ستكون سيوف في قلوب الأعداء. إننا نبشرك اليوم يا شهيدنا أن يوم التحرير والخلاص منهم، من مدينة الكنائس ومن أرض الموصل المقدسة، قريب وسيعود أهلها إلى كنائسهم، وسوف تدق أجراسها من جديد معلنة الخلاص، وستعود علامة اسمك، أيها الجليل، ترفرف في شوارع الموصل، وسوف تندحر قوى الظلام، ولن تنفعهم رصاصاتهم التي أفرغوها في تلك العلامة التي تشير إلى اسمك، لأن حروف اسمك أخافتهم وباتت ترعبهم، فشمروا عن قواهم بأن دمروا إشارة اسمك من شوارع الموصل، لأنهم يعتقدون أن تكسير علامات اسمك سوف تنهي ذكراك، وهم لا يعلمون أن اسمك محفور في قلوب وعقول أبناء الموصل جميعاً، وأن روحك لا تزال وستبقى ترفرف في سماء الموصل مع أرواح الشهداء والقديسين ومعك شهدائنا جميعاً: الأب رغيد والشمامسة بسمان وغسان وحيد وفارس ورامي وسمير، حيث ستبقى أسمائهم دوماً تظلل سماء الموصل بأرواحهم البريئة.

ومع أن ماساتنا اليوم كبيرة وكارثية، بعد أن فقدنا شهدائنا ومدينتنا وأرضنا وبيوتنا وما نملكه، ولكننا لم نفقد إيماننا وحبنا لبلدتنا العزيزة، وإن كان مطراننا قد رحل عنا فهو اليوم يقف معنا ليصلي من أجلنا لأنه أحب السلام وأمن بالتسامح، ومن أجل ذلك قدم روحه الطاهرة قرباناً لحبه للمسيح ولشعبه العراقي، وإننا جميعاً نعلم ونثق بأن الظلم لن يدوم، وأن الحق سيعود ويدحر الأوغاد إلى جهنم، وتبقى لأرواح شهدائنا في السماء، ومهما فعل هؤلاء المرتدون ومهما هددوا وقتلوا وعاثوا في الأرض فساداً فإنهم لن يستطيعوا إلغاء الحقيقة والوجدان في حب أهل الموصل لكنائسهم وأديرتهم، لأن الموصل ستبقى قبلة مسيحيي العراق بالرغم من التهديدات والتفجيرات التى طالت الكنائس وبيوت المؤمنين. وكما كان الشهيد المطران فرج رحو يقول ويردد دائماً أن: "الموصل الشهباء أرضاً مقدسة للمسيحيين، وأرضاً متعايشة فيها الأديان السماوية بالمحبة والوئام يتعايش فيها الجميع على المحبة والتسامح، يجب أن نبقى فيها وأن نموت فيها".. هكذا كان يقول مطراننا الجليل إلى أن استشهد فيها.

أننا اليوم إذ نستذكر يوم الشهادة لهذا الرجل الشجاع، ونتألم لضعف الآخرين ونكوث عهدهم من المحسوبين على هذه الكنيسة الشهيدة، نستذكر وقفة المطران الشجاعة في دفاعه عن العراق وشعبه بكل طوائفه ودياناته ضد الهجمة البربرية التي أصابت شعب وأرض العراق، وما قدمه شعبنا العراقي، وبالأخص شعبنا المسيحي المسالم من تضحيات. إن مطراننا الجليل الذي حمل سيف الكلمة الصادقة والمؤمنة بحرية العراق وشعبه والتي لم تروق كلماته لبعض العناصر المتخلفة والمجرمة التي ارتعشت من كلمات المحبة والتسامح التي نادى بها مطراننا الجليل الذي شرب وتشبع بحبه للعراق ولمدينته، ولهذا أغتالوه علهم يقتلون كلمته وأمنياته، وهم لا يعلمون أن كلماته سنحملها جميعاً بأرواحنا لكي ترفرف على العراق وشعب العراق بكل أطيافة. سنحملها لأنها دين في أعناقنا لنصرة أمتنا في العراق.

إننا بهذه الذكرى المؤلمة، نعزي المحبة والسلام والتسامح التي ناضل من أجلها الشهيد بإيمانه وصلواته، ونتذكره اليوم بعد أن توج خطواته بالسلام والتسامح التي يشهد عليها أبناء بلدته الموصل بشيوخها ورجالها ونسائها وأطفالها وشبانها.

سيدي ومولاي الجليل العزيز المطران فرج رحو، أقول لك اليوم: نم، نم، نم قرير العين، فإننا نبشرك أن ذكراك ستبقى خالدة في الدينا، وأن قصتك في الشهادة في هذا الزمن الغادر سترويها الأجيال، لأن استشهادك توج مسيرة الإيمان التي خطها سيدنا وربنا يسوع المسيح عندما صلب على الصليب. إننا نبكيك اليوم، نبكيك دماً ودمعاً لذكر اسمك الوقور الطاهر، فعش يا سيدي قوياً عند ربك، بإيمانك بالله العزيز، والمسيح والعذراء والكنيسة، فالجنة فتحت لك أبوابها، وبئس ما فعله الغادرون لأنهم لا يعلمون أن شهدائنا في السماء ينعمون مع القديسين والصديقيين والملائكة في الجنة.

نم قرير العين!، لأن اسمك سيبقى نجماً وتنزف باسمك المؤمنين دماً، وتبكيك السماء لفقدانك أيها الراعي الصالح، وستبقى روحك الطاهرة ترفرف فى كل كنيسة خدمت فيها، وفي قلب كل طفل عمدته بيديك، وبوجدان كل شابة وشاب أعلنت إكليلهم، وكل شيخ وإمراة صليت معهم. الرحمة لك، ولكل الشهداء الذين ساروا في طريقك هذا من فرسان سيدنا المسيح.

عشت عظيماً.. ومت عظيماً