موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ مارس / آذار ٢٠١٩
المفكر إميل أمين يكتب: شيوخ الازهر ورهبان الفرنسيسكان

القاهرة - إميل أمين :

السبت الثاني من آذار الجاري لم يكن في واقع الحال يومًا اعتياديًا ضمن سياقات الأيام، ذلك انه كان علامة ودلالة على ان الكنانة محفوظة، وان المحروسة واعدة وموعودة بالخير والسلام الى منتهى الاجيال.

من الطبيعي ان ترى الى شيوخ الازهر الشريف يملاون حلقاته العلمية، ويتزاحمون في ساحاته الفكرية، لكن ان ترى الى جوارهم طغمات من آباء الفرنسيسكان بثيابهم ذات اللون البني الشهر، والحبل الابيض بعقده الثلاثة التي تشير الى نذور الفقر والعفة والطاعة، فهذا هو الجديد والمثير في ذات الوقت.. وتبقى علامة الاستفهام. لماذا كان هذا؟ وما معنى ومبنى ان يجتمع تحت سقف الازهر الشريف الشيوخ والقساوسة، وقد قال احد الشعراء ذات مرة : الشيخ والقسيس قسيسان.. وإن تشاء فقل هما شيخان. أما رجالات الازهر وشيوخه فشأنهم معروف وانتماءهم لهذا الصرح الديني واضح وجلي، غير ان الكثيرين ربما يستاءلون من هم الفرنسيسكان هولاء؟

باختصار غير مخل هم فرع من فروع الرهبانيات التي تنضوي تحت راية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تلك التي تعد من الاتباع ما يربو على المليار وثلاثمائة مليون من المريدين والتابعين.

تنتمي الرهبنة الفرنسيسكانية إلى الأب المؤسس فرنسيس الاسيزي، المتصوف الايطالي الأشهر والذي عاصر حروب العرب والأوربيين، تلك التي اسماها سكان شمال المتوسط الحروب الصليبية، في حين اطلق عليها جنوبه حروب الفرنجة. وقف الاسيزي في وجه دعوات الحروب، وفضل عليها الحوار والجوار، وما عرف بصليبية المحبة، لا صليبية الدماء والقتل، النار والدماء، العويل وصرير الاسنان.

جاء الاسيزي إلى مصر قبل ثمانمائة عام ليلتقي مع السلطان الكامل الايوبي، وليحتفي الاخير به، ويستضيفه ايامًا واسابيع في جواره، تحاورا وتناقشا، استمع كل منهما الى الاخر، ولم يسع احدهما الى إجبار الآخر على اعتناق ما يؤمن به.

أكرم السلطان وفادة الاسيزي، وقد اعتبر معسكر الفرنجة انه قد قضى نحبه عند حدود السلطان، وكم كانت دهشتهم بالغة حين شاهدوا حرس السلطان يحرسونه الى ان عاد الى معسكرهم ثانية، وقد كانت صيحته عالية محذرا ومنذرا من الموت والخسارة المحدقة بهم ان مضوا في خططهم الحربية، وهذا ما جرت به المقادير بالفعل لاحقًا.

ثمانمائة عام على هذا الحوار والجوار، وفي تلك المناسبة كانت مصر برهبانها وبضيوفها من الرهبنة الفرنسيسكانية من كافة ارجاء الارض، وبالشراكة مع شيوخها تعيش يوما للسلام والطمانية وتسترجع سويًا ذكريات العيش الجميل الذي كان، والذي يسعى الكل لان يكون من جديد.

لقاء القديس والسلطان الذي بات يعطر اوراق الذكريات، يمكن القطع بان روحه باقية خالدة، وهذا ما رأيناه في دولة الامارات العربية المتحدة الايام القليلة المنصرمة، عبر لقاء البابا فرنسيس والشيخ الطيب، والوثيقة التي خرجت عن اللقاء "وثيقة الاخوة الانسانية".

الثاني من آذار كان يوم اللقاء ويا لها من فرحة اللقاء، فالناس اعداء ما يجهلون، وحين تسقط جدران الخوف والقلق، تنشأ في موقعها وموضعها جسور المودات، وهذا ما نجحت المنظمة العالمية لخريجي الازهر الشرق والرهبان الفرنسيسكان في مصر في بلورته بشكل حضاري يليق بأم الدنيا.

نهار كامل من مطلع الشمس إلى مغيبها، والكلمات الطيبة تصدح في داخل هذا الصرح الجميل بشيوخه ورهبانه، وبشبابه وشيبه، والمودات بادية على وجوهههم ونابعة من القلب، وبدون اي زيف او تصنع… المحبة تفرز وتظهر الصالح من الطالح.

ما هو مفهوم التعايش المشترك في الاسلام؟ وما هي رسالة الرهبنة الفرنسيسكانية؟

ماذا عن المسلمون وعلاقتهم بالآخر؟ وما هي ابعاد التجربة المصرية في ترسيخ مفهوم المواطنة؟

أكثر من عشر كلمات ووقفات مع القضايا التي باتت تمثل اشكاليات في عالمنا المعاصر ألقيت، وجل همها أن تنفض التراب الذي لصق بالعقول والقلوب، فما بين شوفينيات وقوميات وشعبويات غربية صاعدة باتت تهدد امن وسلام العالم من جهة، وبين اصوليات وراديكاليات ضارة وقاتلة من جهة ثانية، بدأ العالم يفقد سلامه، وهاكم أجيال لا يعرف الحب الطريق الى افئدتها ولا للسلام دالة على منهاج حياتها في الحال او الاستقبال.

حين تصدح تحت قباب الازهر الشريف الحان التهليل والابتهاج، وفي حضور ضيوف من كافة عواصم العالم الغربي، ووسط اعلام اوربي وامريكي، فإن رسالة قوية صادقة تخرج للعالم تؤكد على ان مصر لا تزال تعلم الجميع بالفعل لا القول فقط منظومة قبول الاخر والعيش الواحد، تلك التي عرفتها المحروسة من زمن كهنة آمون ونظراءهم من جماعة آتون.

لم تعرف بلادي العزل ولا وجد الاقصاء طريقه الى دروبها، فكانت ارض وملاذ للانبياء والصديقين من الهاربين والباحثن عن ملجأ مهما كانت اعراقهم او جنسياتهم، اديانهم او مذاهبهم، واليوم وعلى ارضها يتعانق رهبان وشيوخ في صدق، فلا شيء يدعو لان يكون المشهد زائفًا، ويكرم احدهم الآخر، وربما الانفع والارفع للطرفين كان اللقاء والتعارف والتحابب في الله.

يومًا قال كاتب فرنسا الشهير اندريه موروا: "إن الوطن مودات"، وفي موقع وموضع آخر: "اكمل ان الوطن شراكة أحلام". شكرًا من القلب لشيوخ الازهر ولرهبان الاباء الفرنسيسكان، الذين اسعدونا من القلب بتجربة اللقاء النقي والتقي الاخيرة، وعلى أمل أن تمضي المسيرة على درب الحوار والجوار، في قادم الأيام.

(المراقب)