موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٨ فبراير / شباط ٢٠١٣
المطران كوسا يوجه رسالة الصوم: سبيل للإيمان والفرح في المسيح

القاهرة - أبونا :

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،

وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،

وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،

"وإذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين... لكيلا يَظهر للناس أنك صائم، بل لأبيكَ الذي في الخُفية، وأبوك الذي يرى في الخُفية يُجازيكَ" (متى 16:6-18)

يقوم الصوم بالامتناع عن الطعام والشراب لفترة من النهار ولعدد من الأيام. تبدأ في حياتنا المسيحيّة وممارساتنا الروحيّة يوم اثنين الرماد وتنتهي يوم الجمعة العظيمة. في هذا تكمُن وصيّة الكنيسة لنا إذ تدعونا في الوقت عينه إلى التوبة بإيمان، والعودة والرجوع إلى الرّب بفرح.

تحثنا الكنيسة، الأم والمعلّمة، من خلال الدعوة إلى الصوم، على مراجعة حياتنا، وإعادة توجيهها نحو الرّب، فنتجدّد وندخل سرّ المسيح الفادي، نموت معه لنحيا معه في قيامتنا من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله.

هذا هو معنى الصوم الذي تريده لنا الكنيسة. خارج هذا الإطار الرّوحي يبقى صيامنا باطلاً. أقلّه يمكن أن يكون له مردود صحّي جسدي، إذ أن الصحة البدنية ليست في الإكثار من الطعام بل في التقليل منه.

فالامتناع عن الطعام إذا لم يرافقه الإكثار من الصلاة والتوبة وأعمال المحبّة، يبقى لا معنى له.

تأملوا في رسالة القدّيس يعقوب: "ماذا ينفع، يا إخوتي، أن يقول أحدٌ إنه يؤمن، إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان أن يخلّصه؟... وكذلك الإيمان، فإن لم يقترن بالأعمال كان ميّتاً في حدّ ذاته" (يعقوب 14:1-17). "وكما أن الجسد بلا روح ميّت فكذلك الإيمان بلا أعمال ميّت" (يعقوب 26:1).

دعوة الكنيسة لنا تكمن في التوبة والندامة وليس في الامتناع عن الطعام، لأن الامتناع هذا ليس عملاً روحياً في ذاته، بل هو إشارة ودليل على التسامي الذي تريده الكنيسة لنا في زمن الصوم.

· الصوم صلاة وإيمان:

في الإنجيل وقائع وأحداث متعدّدة تشير إلى الصوم بالتلازم مع الصلاة بإيمان:

فلما عجز التلاميذ عن طرد الشيطان عن الصبي المصاب بالصرع، تقدم والده من يسوع يشكو التلاميذ، "انتهره يسوع فخرج منه الشيطان، فشُفي الطفل في تلك الساعة". ولما استفهم التلاميذ من يسوع عن سبب عجزهم هذا، أجابهم: "لقلّة إيمانكم". الحقّ أقول لكم: "إن كان لكم الإيمان قدر حبّةِ خردل قلتم لهذا الجيل: إنتقل من هنا إلى هناك، فينتقل، وما أعجزكم شيء. وهذا الجنس من الشيطان لا يخرجُ إلاّ بالصلاة والصوم" (متى 18:17-21).

وفي أعمال الرّسل مشاهد متعدّدة يقترن فيها الصوم بالصلاة. ففي لقاءٍ تم في الكنيسة التي في أنطاكية بين بعض الأنبياء والمعلّمين، ومنهم برنابا وشاول (أي بولس)، أقاموا الصلاة وهم صيام سعياً لاستلهام الرّوح القدس: "فبينما يقضون فريضة العبادة للرّب ويصومون، قال لهم الرّوح القدس: "أفردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه". فصاموا وصلّوا ثم وضعوا عليهما أيديهم وصرفوهما" (أعمال 1:13-3).

وفي موقع آخر، بعد أن واجه بولس وبرنابا الاضطهاد في أيقونية، ولسترا، "عيّنا شيوخاً في كل كنيسة وصلّيا وصاما، ثم استودعهم الرّب الذي آمنوا به" (أعمال 23:14).

وهكذا نلاحظ أن الصوم والصلاة متلازمان، يرافقان أعمالاً، أكانت شفاء المرضى أم أفعال وضع اليد (أي السيامة الإنجيلية والكهنوتية والأسقفية). ولهذه الأفعال مرتبة عظيمة في الكنيسة تتم في فعلي الصوم والصلاة. وكأنهما فعلاً إرتقاء الجسد، في الصوم، والرّوح في الصلاة. ففي عملية الارتقاء هذه يتم أمران بالغا الأهمية في الكنيسة، وهما: طرد الشياطين، شفاء المرضى، إقامة الموتى وتهتدئة العواصف من ناحية. وحلول الرّوح القدس من ناحية أخرى. والصوم لا معنى له بدون مرافقة الصلاة بإيمانٍ له.

في الصوم يسمو الإنسان عن جسده وعن رغباته، وفي الصلاة يسمو الإنسان بروحه ليتّحد مع خالقه وربّه. وكأن الصوم والصلاة معاً يحققان وحدة الإنسان في سموه وتعاليه عن العالم، ليتّحد مع ربّه ويجد عنده مصدر تجدّده في جسده وفي روحه.

· الصوم والفرح:

إذا كان موضوع الصوم يكمن في تلازمه مع الصلاة من أجل التجدّد في المسيح يسوع، فالالتزام بالصوم شكلاً دون الدخول إلى جوهر الصلاة، وممارستها اتحاداً مع الرّب، يبقى شريعة تقيّد الإنسان ولا تحرره.

الصوم الذي يصومه الإنسان لأنه واجب ديني، عليه تتميمه يبقى خاضعاً لشريعة. أما الصائم الذي يصوم لأنه يعتبر الصوم سبيلاً لعودته إلى الرّب والجلوس إليه بالتأمل والصلاة ومن ثم تجديد علاقته مع الرّب ومع القريب، هذا الإنسان الصائم لم يعد خاضعاً للشريعة بل أصبح متعاطياً بعلاقة حرة وحميمة مع الله.

الصائم الذي يبقى مرتبطاً بالشريعة لا يعرف الفرح. بينما الصائم الذي يرتبط بعلاقة شخصية مع الرّب ينال منه الفرح والسلام. يقول القدّيس بولس: "إننا نعلم أن كل ما تقوله الشريعة إنما تقوله للذين هم في حكم الشريعة، لكي يُخرس كل لسان ولكي يعرف العالم كله مذنباَ عند الله. فلذلك لن يُبرّر عنده أحد من البشر إذا عمل بحسب الشريعة، فما الشريعة إلاّ سبيلٌ إلى معرفة الخطيئة" (رومة 19:3-20).

يشرح لنا القدّيس بولس الفرق يبن من يجعل ذاته تحت حكم الشريعة والذي أصبح حراً من الشريعة، يقول: "إن الوارث، ما دام قاصراً، فلا فرق بينه وبين العبد، مع أنه صاحب المال كله، لكنه في حكم الأوصياء والوكلاء إلى الأجل الذي حدده أبوه. وهكذا كان شأننا: فحين كنّا قاصرين، كنا في حكم أركان العالم عبيداً لها. فلمّا تمَّ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لإمراة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني. والدليل على كونكم أبناء أن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الرّوح الذي ينادي: "يا أبتِ". فلست بعد عبداً بل ابنٌ، وإذا كنت ابناً فأنت وارثٌ بفضل الله" (غلاطية 1:4-7).

الإنسان الذي يصوم خضوعاً لوصيّة الكنيسة فقط، لم يصبح حراً في إيمانه، والذي يصوم لشعوره وإيمانه بأنه ابن، لأب يحبّه ويعبده ويدعوه إليه هو الذي أصبح وارثاً حقيقياً، حراً، متعاطياً مع الرّب الحيّ وليس مع شريعةٍ مكتوبة أو معلنة.

مسألة الصوم تكمن في المعادلة البسيطة، وهي: هل نصوم لأننا في الجسد خاضعون لشريعة كنسية؟

أم نصوم لأننا في الرّوح ننزع إلى روح الرّب مع كنيسته ومع جسدنا. "الذين يحيون بحسب الرّوح ينزعون إلى ما هو للروح" (رومة 5:8).

فالصوم عامةً، لا معنى له خارج إطار الرّوح، ذلك لأن "الذين ينقادون لروح الله، يكونون أبناء الله حقاً" (رومة 14:8). فالمؤمن الذي يحيا حياة الرّوح في علاقته مع الرّب يسوع يكتفي بهذه الحياة وهذه العلاقة، ذلك لأنه يكون قد أصبح ابناً حراً، يحيا فرح البنّوة في المسيح. فالذي مع المسيح يحيا الفرح الحقيقيّ والذي تحت الشريعة والناموس يحيا الخوف.

يمكننا أن نفهم ذلك في مشهد من الإنجيل المقدّس، يوم دنا تلاميذ يوحنا إلى يسوع وقالوا له: "لماذا نصوم نحن والفرّيسيون، وتلاميذك لا يصومون؟ فقال لهم يسوع: أيستطيع أهل العُرس أن يحزنوا ما دام العريس بينهم؟ ولكن ستأتي أيام فيها يُرفع العريس من بينهم فحينئذ يصومون" (متى 14:9-15).

فالذي يبقى مع العريس لا يمكنه أن يصوم لأنه في فرحٍ دائم، وفي علاقة مستمرة مع "عريسه" أي مع مصدر فرحه وسعادته.

يسوع هو عريسنا، ومصدر فرحنا، هو موضوع حبّنا، ومن يبقى معه ليلاً نهاراً في اليقظة والنوم، في العمل والراحة، في الشقاء والتعب، في الحرب والسلم، لم يعد بحاجة إلى أن يصوم كما يصوم الفرّيسيون والكتبة.

الفرح في المسيح هو محور إيماننا، وعملنا، وصومنا، وفي هذا الصدد يقول القديس بولس: "نحن نعلم أن الإنسان لا يُبرّر بالعمل بأحكام الشريعة، بل بالإيمان بيسوع المسيح... لأنّي بالشريعة مُتُّ عن الشريعة لأحيا لله، وقد صُلبتُ مع المسيح. فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 16:2-20).

فموضوع الصيام عندنا – نحن المسيحيين – هو الفرح في المسيح. ومن يحيا الفرح في المسيح لم تعد تعنيه أية أمور أخرى. فإن المبتغى في كل هذه الأمور هو دخولنا في مشروع البنوّة الذي أتانا به يسوع المسيح.

أيها الإخوة والأبناء الأعزاء:

في هذا العام ونحن نحتفل بسنة الإيمان ونتعمّق بصفاء عقيدة إيماننا وجمالها، وتعاليم الكتاب المقدّس والكنيسة والأباء القدّيسين، في سبيل حياة روحيّة فضلى لمعرفة الحقائق الإلهية وتطبيقها في حياتنا اليومية لنجني من ثمارها الرّوحية لتكون عاملاً في التجدّد الذي لا يزال الرّوح القدس يدعو إليه كنيسة الله، جسد المسيح، في مسيرة الحج إلى نور الملكوت.

ندعوكم جميعاً بمناسبة هذا الصوم الأربعيني الكبير إلى المصالحة مع الله ومع الذّات ومع القريب، وأقول لكم: تعالوا يا إخوتي لنتصالح ونتسامح ونتسالم كي يرضى علينا الله ويرحمنا ويغفر لنا خطايانا ويقبل صيامنا وتوبتنا.

أطلب من العذراء مريم الكلّية القداسة والكاملة الطهارة، والدة الكلمة المتجسّد وأم الكنيسة والرسل أن تساعدنا بشفاعتها القديرة ونحن في هذا الزمن الذي تدعونا إليه الكنيسة إلى التجدّد والتوبة، عسى نور الإيمان الحقيقي أن ينقذنا وينقذ البشرية من الجهل ومن عبودية الخطيئة لكي يقودها إلى الحرية، حرية الحياة (يوحنا 32:8)، في يسوع المسيح بقيادة الرّوح القدس على هذه الأرض وفي ملكوت السماوات، في ملء سعادة ورؤية الله وجهاً لوجه (1 قورنتس 12:13)، لنسير في الإيمان لنقيم في جوار الرّب (2 قورنتس 6:5-8).

نتمنّى لكم جميعاً، كباراً وصغاراً، مسيرة حياة روحيَّة مشتركة وتوبةً مقبولة وصوماً مباركاً بشفاعة العذراء مريم أُمنا، وبصلوات القدِّيس غريغوريوس المنوَّر والطوباوي أغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.