موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الخميس، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٧
المسيحيّون العرب: مستقبل يحتاج إلى قراءات معاصرة

ربيع عيد :

تحتاج المقاربات العربيّة حول "المسيحيّين العرب"، كتابة وبحثًا، إلى تجديد ضروريّ في طرح القضايا المتناولة ضمن هذا الموضوع، الذي بات في السنوات الأخيرة مطروحًا على نحو أكبر في ضوء المتغيّرات السياسيّة المتسارعة وموجات العنف والحروب التي يمرّ بها المشرق العربيّ، وفي ظلّ شعور عامّ بالتهديد يعيشه المسيحيّون من هذه المتغيّرات بعد أن طالت بعضهم. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل تزايد هجرة المسيحيّين من المشرق خلال العقود الأخيرة تهديدًا حقيقيًّا لطبيعة هذه المنطقة المتنوّعة والمتعدّدة إثنيًّا وطائفيًّا، التي ميّزتها على مدار قرون، مع مخاوف حقيقيّة من فقدان هذا التنوّع.

من دون حساسية

وفي هذا الشأن، نظّم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات قبل أسبوع في الدوحة (21 و22 تشرين الأوّل)، ندوة خاصّة حول الموضوع، تحت عنوان "المسيحيّون العرب في المشرق العربيّ الكبير: عوامل البقاء والهجرة والتهجير"، بمشاركة عدد من الباحثين العرب.

تكمن أهميّة تنظيم مثل هذا المؤتمر في القيمة المعرفيّة التي طرحها الباحثون، على الرغم من التفاوت بينهم، من خلال قراءات علميّة وميدانيّة وانطباعيّة، تسهم في إنتاج تحليلات وفهم لـ"اللحظة المفصليّة" التي يمرّ بها المسيحيّون العرب في المشرق العربيّ الكبير، بحسب التوصيف الذي أطلقه المؤتمر، وكان دافعًا لعقده، في ظلّ تناقص كبير في أعدادهم بسبب الهجرة المستمرّة على مدار عقود.

ولعلّ السنوات الماضية بما تضمّنت من صراعات في عدّة أقطار عربيّة، وظهور جماعات إسلاميّة متطرّفة تستخدم العنف نهجًا، زاد من طرح قضيّة المسيحيّين العرب، في ظلّ شعور عامّ بالخوف تجاه المستقبل، والتفكير والبحث عن مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا خارج أوطانهم.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ طرح الموضوع ليس قضيّة إشكاليّة، بل ضرورة في ظلّ واقع يتوجّب التعامل معه من دون حساسية، لكن تكمن المشكلة أحيانًا في بعض الجهات التي تطرح الموضوع، بسبب أجنداتها، وخطاب 'حماية المسيحيّين' الذي يخبّئ في طيّاته ارتباطات مع قوى استعماريّة، أو مع قوى محلّيّة استبداديّة، لها أهداف من طرح الموضوع ضمن سياقات معيّنة، سعيًا نحو مصالحها، لذلك كانت مبادرة المركز العربيّ مهمّة في السياق العربيّ الراهن.

الدور الحضاريّ

لطالما اتّخذت المداخلات والمساهمات العربيّة في هذا الموضوع منحًى يؤكّد على الدور الرائد والمتميّز للمسيحيّين العرب في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وكذلك دورهم في العصر الحديث من خلال انخراطهم في حركات التحرّر الوطنيّ، والفعاليّات والأحزاب والحركات القوميّة اليساريّة، بالإضافة إلى دورهم في النهضة العربيّة مطلع القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كما أكّدت مداخلات عديدة على ارتباطهم التاريخيّ والثقافيّ القديم بالمنطقة، وتناول العديد منها دور الاستعمار والقوى الخارجيّة، وكُتب حول ذلك الكثير.

هذه السرديّات، على أهمّيّتها، وصحّة الكثير منها، وضرورة الاستناد إليها، لم تعد تفي الموضوع حقّه، وثمّة حاجة اليوم إلى مداخلات تقدّم مقاربات للتحدّيات المعاصرة.

خوف

ومن ضمن التحدّيات الراهنة ظاهرة الشعور العامّ في الوسط المسيحيّ الشعبيّ بالخوف من المستقبل، والتوجّه نحو الانعزال أو الانسلاخ الثقافيّ عن المحيط العامّ، ونشوء سرديّات ثقافيّة جديدة تسقِط الواقع على التاريخ بشكل يحرّفه، وينتقيه، ويعيد تشكيله في منحًى مختلف، مثل التنكّر للعروبة بصفتها هويّة ثقافيّة.

وإن كانت هذه الهويّات الانعزاليّة الجديدة ناتجة عن غياب الأمن والأمان، ومشاهد العنف من حولنا، وعدم تقبّل التعدّديّة، وخيبة الأمل من وطن يعيش فيه الجميع بسلام من دون استبداد، فهي ستنتج في المستقبل، بالتأكيد، إلى جانب المزيد من الهجرة، انعزالًا في الجغرافيا، وهو أمر مطروح اليوم في بعض المناطق، كالعراق على سبيل المثال.

منهجيّة

وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة اتّباع منهجيّة واضحة في البحث والكتابة، تستند إلى أنّ المسيحيّين العرب جزء أساسيّ وعضويّ من الشعوب العربيّة، وترفض التعامل معهم على أساس كونهم أقلّيّة لها حقوق جماعيّة منفصلة عن حقوق جماعات أخرى من المواطنين، ومفتاح التعامل هذا يجب أن يقوم على المواطنة المتساوية في نظام ديمقراطيّ، ضمن قراءة معمّقة ترتكز على السياق العربيّ الراهن، وتحديدًا بعد الثورات عام 2011، التي خرجت بمطالب المواطنة المتساوية، والديمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والابتعاد عن الوقوع في فخّ الانغلاق والتقوقع، وفق المنطق الأقلّياتيّ الذي قد يقع فيه البعض، فالمسيحيّون العرب ينتمون للأكثريّة العربيّة في المنطقة، وهي عربيّة بلغتها وثقافتها لا بأصولها الجينيّة.

ويجدر التحذير هنا من المبالغة في التعامل مع هذا الموضوع ضمن خصوصيّة تقتصر على المسيحيّين العرب وحدهم، فما يعايشه المسيحيّون تعايشه مجموعات دينيّة وثقافيّة أخرى في المنطقة العربيّة، وهو في جوانب معيّنة، ما يعايشه العرب جميعًا، بغضّ النظر عن الخصوصيّات الفرعيّة التي تميّز جماعاتهم الثقافيّة المتفاوتة؛ فداعش وأشباهها استهدفت من المسلمين أكثر بكثير من مجموعات دينيّة أخرى، والهجرة المسيحيّة في العقود الأخيرة كانت ضمن حركة هجرة عربيّة عامّة، بحثًا عن فرص ومستقبل أفضل في أماكن أخرى، أي ليس الدافع الدينيّ هو الأساس كما قد يتصوّر البعض.

هذا لا يعني عدم وجود حالة إشكاليّة لها أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة لهجرة المسيحيّين، لكن لا يمكن ادّعاء وجود مسألة مسيحيّة في المشرق العربيّ الكبير، تشمل الأقطار العربيّة كافّة بلا تمايز، فإن كان في مصر مثلًا مسألة قبطيّة حقًّا، إلّا أنّها تشكّلت ضمن خصوصيّة مصريّة، كما أنّ لفلسطين خصوصيّتها المتمثّلة، بالأساس، بالاحتلال الإسرائيليّ الذي هجّر غالبيّة المسيحيّين من فلسطين عام 1948، كما للعراق خصوصيّته المتمثّل بالعنف الطائفيّ المندلع بعد الاحتلال الأميركيّ للعراق، كما للبنان خصوصيّته المتمثّلة بالحرب الأهليّة وتوابعها.

قضايا عينيّة

بناءً على ذلك، تحتاج القراءات المستقبليّة في هذا الموضوع مقاربات جديدة تعالج قضايا عينيّة معاصرة، ولا سيّما ما يهدّد التنوّع والتعدّد، تبحث عن مستقبل مختلف؛ ومن هذه القضايا على سبيل المثال: الإعلام ودوره في بناء وترسيخ صور وبثّ خطاب مغالط أو كراهية؛ مناهج التعليم والمضامين الواردة فيها؛ رجال الدين والمؤسّسات الدينيّة ودورهم/ دورها في في التباعد والتفرقة؛ الثقافة الشعبيّة؛ الجرأة في طرح ونقد قضايا وأحداث تاريخيّة في الحضارة العربية الإسلاميّة لم تأخذ حقّها من التناول؛ كيفيّة تشكّل المعرفة بثقافة الجماعات الثقافيّة والدينيّة المختلفة؛ كيفيّة تشكّل المخاوف الجماعيّة؛ الهجرة في عصر العولمة؛ تجربة الثورات العربيّة عام 2011 في هذا السياق؛ العيش المشترك الممتدّ عبر التاريخ، والمتواصل إلى يومنا هذا.