موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٩ مارس / آذار ٢٠١٣
المسيحية المشرقية وعلاقتها بالإسلام

د.سميح مسعود - الرأي الأردنية :

يتجاوز محتوى هذا الكتاب عنوانَهُ، فهو لا يتوقف عند مهد السيد المسيح في بيت لحم وظهور المسيحية في فلسطين فحسب، وإنما يتخطى ذلك إلى البحث في تاريخ المسيحية المشرقية العربية ودورها على مدى ألفي عام، وفي العلاقة المتبادلة مع الإسلام: موقف الدين الإسلامي منها، واستمرار بقائها في ظل الخلافة الإسلامية.
صدر الكتاب في أربع طبعات خلال سنتين ونصف السنة، أصْدرت طبعته الرابعة دار نشر كل شيء في حيفا لتوزيعه في الدول العربية، وقد لقي الكتاب رواجاً خاصاً في معرض عمّان الدولي الرابع عشر للكتاب (أيلول 2012)، واستضاف المعرض مؤلفه واستقطب حضوره جمهرة من المثقفين، واهتمام الصحافة ووسائل الإعلام المرئية، وكُتبَ عن الكتاب عشرات المقالات النقدية والتعليقات الجادة من قِبل نقاد ومثقفين معروفين في داخل فلسطين وخارجها.

إنه كتاب نادر في عمق تناوله لموضوعٍ على جانب كبير من الأهمية، يمثل حصيلة ناضجة ومركزة لعامين من البحث والتمحيص والتأمل في المراحل شتى التي مرت بها المسيحية المشرقية العربية، وعلاقتها بالمسلمين التي اتسمت دوماً بمشاعر عالية من الألفة والاحترام والتجانس، والاعتزاز بالعروبة، والانتماء للشرق العربي بكينونته الوجودية وبنائه الجغرافي وما يبثه من دلالات وطنية وقومية.
لهذا قُدم الكتاب كهدية للعرب عموماً، لأبناء وبنات ديانتَيْ هذا الشعب من مسيحيين ومسلمين ساهموا معاً في بناء حضارة الشرق العربي وثقافته المشتركة، لكي يكون زاداً إضافياً لهم يعينهم على وعي تجربة تاريخهم العريق، وتوطيد وحدتهم القومية، وبناء مشروع المواطنة الحديثة في دولة قومية ديمقراطية جامعة ومنشودة.

المؤلف هو الكاتب الفلسطيني المعروف سميح غنادري، الذي يقيم في مدينة الناصرة، وتتجلى فيه عقلية الباحث الجاد الذي يتعامل مع موضوعات كتابه بمنطق العالِم، فيبُدع في توضيح حقائق كثيرة، تاريخية ولاهوتية وفقهية نحن بحاجة إليها في هذا الوقت لتثبيت رواسي المعايشة الوطنية الحقيقية بين المسيحيين والمسلمين بعيداً عن أصحاب الغلو والتطرف من الذين لا يكادون يتبادلون الحوار مع غير رعيتهم، ولا يتعاملون مع غير ذوي عقيدتهم، يُكفّرون الآخر ولا يعترفون به شريكاً في الأرض والتراب.

المؤلف مثقف معروف بمنهج تفكيره الجدلي والقومي الديمقراطي، وهو من الذين أقاموا فكرهم السياسي وصاغوه بمرجعية يسارية علمانية تؤمن بالمساواة والمشاركة الكاملة في الحقوق والواجبات العامة بين المواطنين وإن اختلفت أديانهم.

لهذا بينَ المؤلف بوضوح في مقدمة كتابه أنه اهتم بموضوعه لا من منطلق ديني أو طائفي، وإنما من منطلق سياسي ولأهداف وطنية. وبيّن أهدافه الوطنية باختصار في سياق حوار أجرته معه صحيفة الدستور الأردنية (5/10/2012) بهدفين مترابطين يكمل أحدهما الآخر، الأول دحض ومحاربة تغريب وغُربة العرب المسيحيين والمسيحية عموماً عن مهدها – الشرق العربي والعروبة، والثاني دحض فرية دمغ الإسلام بالعنف والعنصرية والإرهاب.

وللوصول إلى هذين الهدفين بحث بنظرة موضوعية وبتقييم منصفٍ عادلٍ وعقلاني، وتمكن من توضيح دور المسيحية المشرقية العربية في تاريخ المسيحية عموماً، وشعبها خصوصاً، ودورها علماً وأدباً وعمراناً وثقافة وفلسفة وترجمة مع أبناء شعبها من العرب المسلمين في بناء حضارة الشرق العربي وثقافته، أو ما اصطلح على تسميته التمدن العربي الإسلامي.

كما تمكن أيضاً من توضيح العلاقة الحقيقية بين المسيحية المشرقية العربية والإسلام، بما في ذلك عدم ظهور حروب طائفية دينية بين الديانتين، علما ًأن المسيحية المشرقية عاشت في ظل حكم الخلافة الإسلامية على مدى 13 قرناً وأكثر، والعرب من أتباعها كانوا من حماة الدعوة الإسلامية وأنصارها، ومن المرحبين بالفتوحات الإسلامية والداعين إليها.

أهداني مؤلف الكتاب نسخة من كتابه، وضع لي عليها كلمة إهداء جميلة مؤداها لتأكيد وتبيان تاريخ وأصالة المسيحية المشرقية العربية، ولترشيد العلاقة والعيش المشترك والوحدة الفلسطينية والعربية الوطنية مع الإسلام كان هذا الكتاب. سبرتُ دروس التاريخ على مدى ألفي عام، بهدف التصدي لقبلية الطوائف، وطائفية القبائل التي أخذت تنخرنا وتشوه ديانتينا المسيحية والإسلام، وذلك دفاعاً عن شرقٍ عروبي كان (مسليحياً)، ومعاً بنى حضارة شرقنا العربي وتمدّنه.

استفسرت من الصديق سميح غنادري عما يقصده بمصطلح المسليحية، وأجابني بأن الذي ابتدع هذا المصطلح هو الكاتب الفلسطيني الكبير (الراحل) إميل حبيبي، وذلك حين أصرّ صحافيٌّ أجرى معه مقابلة في سبعينيات القرن الماضي، على معرفة انتمائه الديني (وهو مسيحي) فأجابه: مسليحي.. وأضاف في توضيحه لي أنه استعار هذا المصطلح من حبيبي قاصداً أن انتماءنا وثقافتنا وهويتنا في الشرق العربي، بديانتينا المسيحية والإسلام، هي مسليحية: أي مسيحية-مسلمة، ومسلمة-مسيحية.

احتجت إلى فترة طويلة لقراءة كتاب المهد العربي بسبب ضخامته، وقد دهشت للكم الهائل من المعلومات القيمة بين دفتيه، رُتبت بأشكال مختلفة من الفعاليات النصية ذات القيمة البنائية المتميزة في تكوين وحدة متكاملة لعمل كبير على امتداد 608 صفحة، يتضمن مادة منسجمة ومتناغمة، بلغة جميلة سلسة، تمكّن المؤلف من بلوغها كما بيّن في مقدمة كتابه، نتيجة دراسته للتاريخ والفكر القديمين للشرق العربي، وقراءته للكتب الدينية: التوراة والأناجيل وكل ما جاء في العهد الجديد والقرآن، وقراءته أيضاً لمصادر وكتب حديثة وتراثية تاريخية قديمة عن المسيحية وتاريخ الكنيسة والعلاقة المتبادلة مع الإسلام.

تَعمق المؤلف في دراسة كتب التراث والأدب، وتاريخ الشرق العربي وقبائله وجغرافيته بما في ذلك تاريخ الأديان والخلافة الإسلامية واللاهوت والفقه الإسلامي، وتمكن من جمع مخزون وافر من المعلومات النهائية التي منحت عمله كمالا ًمتميزاً من حيث سياقاته النصية والفكرية، وشَرعَ بعمله أبواب المعرفة أمام القارئ العربي وهو يزوده بمعلومات وحقائق كثيرة غير معروفة -أو منسية أو غير متداولة- تؤكد استنتاجات حيوية كثيرة مهمة، منها أن المسيحية ليست نبتة غريبة في الشرق العربي، بل هي أصيلة أصالة أهل الوطن وأصالة أرض المسيحية: فلسطين وبلاد الشام، ووجودها ليس دخيلاً أو مؤقتاً أو طارئاً عابراً، بل هي من طين وتراب وهواء الشرق وثقافته وعروبته، وهي ليست استيراداً غربياً، بل الشرق هو الذي صدّرها للغرب. والشرق لم يعرف الحروب الدينية بين المسيحية والإسلام، بل عرفها على يد الصليبيين الأوروبيين، ورفضَ الأجداد العرب تسميتهم الصليبيين، بل سمّوهم الفرنجة واتحدوا معاً في مقاومتهم ودحر احتلالهم.

ومن الاستنتاجات الأخرى التي توصل إليها الكتاب: الحروب الصليبية (حملات الفرنجة) جريمة أوروبية بحق الشرق العربي بمسيحييه ومسلميه. والعرب المسيحيون ليسوا من مخلفات الفرنجة الصليبيين، وإنما هم من أهل البلاد الأصلانيين وأحفادٍ لنصارى عربٍ تصدوا إلى جانب المسلمين لغزاة أجانب اتخذوا الدين ستارا ً لجرائمهم.

إنهم من أحفاد الذين قاوموا الاحتلال الصليبي لأوطانهم، ومن الأجداد العرب الأصلانيين في الشرق العربي، بمن فيهم عرب الجزيرة وبلا الشام وبلاد الرافدين.. منهم قائمة طويلة من شعراء العرب المسيحيين، في مقدمتهم الأخطل التغلبي شاعر الخلافة الأموية، وأحد أبرز شعراء العرب.. ومنهم من تولى وظائف الدولة العليا على امتداد الخلافات الإسلامية الثلاث (الراشدية والأموية والعباسية). وقد أحصى الأب لويس شيخو في كتابه وزراء النصرانية في الإسلام 406 من كبار الموظفين، منهم 75 وزيراً، و31 موظفاً تنفيذياً كبيراً، و300 كاتب، من مشاهيرهم يوحنا الدمشقي، وهو منصور بن سرجيوس، زميل الأخطل ويزيد بن معاوية ونديمهما في شبابهما المبكر، الذي خلف والده سرجيوس بن منصور في العمل بديوان المالية عند الأمويين.

توصل الكتاب أيضاً إلى استنتاجات مهمة تبين الحقائق التاريخية والدروس لتلك العلاقة الغنية المتشعبة بين العرب المسلمين والمسيحيين، وعدّ أتباع الديانتين عبارة عن توأمين سياميين في بناء الشرق العربي وثقافته منذ أواسط الألفية الأولى للميلاد.

لهذا يتفقُ المرء مع نتيجة مهمة توصل لها غنادري، هي أنه لا يحق تاريخياً ولا علمياً ولا ثقافياً أن يُصور بعضهم المسيحية كأنها دين غريب عن البيئة الشرقية والعربية، فأحفاد المسيح الفلسطيني الشرقي هنا باقون، والكنيسة كنيستهم، والوطن وطنهم أسوة بشعبهم العربي على اختلاف دياناته وطوائفه، وعبق التاريخ شاهدهم.

كتاب المهد العربي جزءٌ أول من مشروع لمؤلفه سيكتمل بإصدار جزءٍ ثانٍ قريباً، يعنى بشؤون البطريركية والرعية العربية الأرثوذكسية، والسيطرة اليونانية عليها، وهي قضية عربية وطنية مسيحية وإسلامية.. إنها قضية حفاظ على الأوقاف المسيحية في فلسطين للعرب، قضية رعايتهم والصرف على خدماتهم وتعزيز وحدتهم لتسهيل بقائهم وصمودهم في وطنهم، وقضية إدارتهم لمؤسساتهم الوطنية بما فيها الدينية والأهلية، وقضية توطيد الوحدة الوطنية لشعب عربي واحد متعدد الأديان والطوائف.

يبين سميح غنادري في هذا الشأن أن هذه القضية، بحاجة إلى تضافر الجهود الوطنية الفلسطينية، بما فيها جهود الحركات السياسية والمؤسسات والأطر المدنية والأهلية العربية وكذلك الكنسية، دعما ًلها وسعياً لانتصارها. إنها قضية وطن وبقاء وتطور. وقضية مواجهة ليس فقط مع القيادة الكهنوتية اليونانية للبطريركية، وإنما أيضاً مع المشروع الصهيوني في إحدى دوائره.

لهذا يمكن القول إن الكتاب المقبل لسميح غنادري يُضارع الأعمال الوطنية الكبيرة والمهمة، وإنني على يقين أنه حين صدوره سوف يُعَدّ مثل المهد العربي؛ الكتاب الأجدر بالقراءة.