موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٠ مايو / أيار ٢٠١٩
المستقبليات والعيش في المستقبل

إبراهيم غرايبة :

برغم أن الحياة تجري حقيقة في المستقبل، فالماضي انقضى، والحاضر يتسرب على نحو متواصل ليتحول إلى ماضٍ، فإن المعرفة العملية للإنسان بالمستقبل ضئيلة وملتبسة وغامضة، هكذا فإن التحديات والفرص والوعود التي تشكل حياتنا الواقعية وما يكتنفها من توقعات ومخاطر يحيط بها عدم اليقين والخوف، والأخطر من ذلك أن التجارب الإنسانية وبخاصة في عالم العرب المعاصر يغلب عليها الانشغال بالماضي والغفلة عن المستقبل، ثم تزايدت المخاطر والصعوبات التي تحيط بحياتنا وتوقعاتنا بسبب التغيرات والتحولات الكبرى التي تجري في العالم في التكنولوجيا والموارد والأعمال، وتغير كل شيء تقريباً، فهل المستقبل بالفعل أمر غامض لا خيار لنا فيه، مثل إعصار أو منخفض جوي؟ أم يمكن التأثير فيه والتخطيط له أو حتى صياغته وتشكيله؟ وحتى في حالة عجزنا عن الإحاطة به، ألا نملك الفرص للاستعداد له ومواجهته؟

لقد تطورت في العالم المتقدم المعارف والمهارات والقيم المستقبلية، حتى صارت السمة الغالبة لعمل الحكومات والمؤسسات والشركات والأسواق بل والأفراد أيضاً، وصار ممكناً إلى حدّ كبير أو معقول الإحاطة بالمستقبل وإدارته، حتى في حالة عدم اليقين الذي يحيط به، والحال أن القيمة العظمى للعمل والتفكير المستقبلي ليست في صحة التوقعات. لكن في العمل والاستعدادات والقدرات والقيم التي تتشكل بفعل التفكير والتخطيط المستقبلي، وبرغم أن الدراسات والتقديرات التقليدية للمستقبل كانت قاصرة عن المعرفة به تمام المعرفة أو توقعه بدقة، لكن الاستعدادات والأفكار والبدائل التي تشكلت نتيجة هذه التقديرات كانت في أهميتها وفائدتها كما لو كانت التوقعات والاستنتاجات صحيحة، بل إن العجز عن التأكد من المستقبل أنشأ عالماً من الإبداع والبدائل والخيارات تفوق في أهميتها وجمالها اليقين والمعرفة الأكيدة.

وهذه بالطبع سنة الله في العالم والحياة، فلولا نقص المعرفة وعدم اليقين، ومن ثم السعي الدؤوب للمعرفة والمراجعة والشعور الدائم باحتمال الخطأ لما كان التقدم والاعتدال والتسامح، فالإنسانية تقدمت لأنها لا تعرف!

والأمم تعاقدت على الاعتدال والتسامح وتقبل الآراء والثقافات وتنوعها لأنها ليست متأكدة من الصواب، ولأن التنوع والتعددية في الأفكار والخيارات هو مصدر التجربة والتقبل المتبادل واحتمال الصواب والتقدم، وفي ذلك فإن الاعتدال والتسامح قيم وموارد مستقبلية، والتعصب عمليات ماضوية، ففي هذا الشعور باحتمال خطأ الذات وصواب الآخر، والالتزام بقبول الأفكار والاتجاهات والثقافات تنشأ الفرص والوعود نحو حقول جديدة للصواب والتقدم وما هو أفضل، في التمسك بالواقع ورفض التغيير يكون الجمود ومن ثم الكراهية للآخر، وعلى نحو ما فإن التعصب هو التشابه، أو رفض التغيير أو التفكير فيه، والاعتدال هو التنوع بما هو احتمالات مفتوحة. إذ أن الاعتدال والتسامح ثروة أساسية للتقدم والإحاطة بالمستقبل، وفي عبارة فإن المستقبل الأفضل هو الاعتدال، والفشل هو التعصب والاعتقاد بصواب الذات، يشمل ذلك الأفكار والثقافة والأعمال والموارد والتقنيات، فلو بقيت البشرية متمسكة بـ«تلغراف مورس» لما عرفنا الموبايل!

أمضت البشرية قروناً طويلة تنظر إلى المستقبل وتفكر فيه من خلال العرافين والكهنة والنجوم والكواكب والإشارات الخرافية والغامضة للعالم والحياة والكائنات المحيطة، ومازالت عمليات التنجيم وتقديرات الأبراج تحظى بإقبال واهتمام واسع في كل الأمم والحضارات والثقافات وفي جميع الطبقات، لكننا نملك اليوم قدراً جيداً من الدراسات المستقبلية التي أنضجت في عمليات بحثية طويلة ومتراكمة في الجامعات ومراكز الدراسات إضافة لما أنجزه المفكرون والرواد، وصار في مقدور جميع المؤسسات كما الأفراد امتلاك المستقبل ومهاراته وقيمه على نحو علمي أصيل.

وقدم الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي برتراند دي غوفنيل في الستينيات في كتابه «فن التخمين» الفكر المستقبلي، وذلك بعد عقود من التأسيس والتأصيل العلمي والمؤسسي بدأت بـ «هربرت جورج ويلز» عام 1902 وتجلت مؤسسياً وعملياً بمؤسسة رند عام 1948، كثقافة عامة تقوم على ثلاثة مبادئ عملية، التقدير الاستقرائي للتجارب التاريخية، والاستفادة من النماذج التحليلية، والاستنطاق التنبؤي للخبراء.
وقدم روائي الخيال العلمي آرثر سي كلارك ثلاثة قوانين طريفة وعملية للتوقع: حين يصرح عالم بارز ومسنّ بأن أمراً ما ممكن، فأغلب الظن أنه مصيب، وحين يصرح بأن أمراً ما مستحيل، فمن المرجح أنه مخطئ، والطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي المجازفة قليلاً خارج هذا الإطار نحو الاستحالة، ويتعذر التمييز بين التكنولوجيا المتقدمة وبين السحر.

إن البحث والتفكير في المستقبل يؤدي عملياً إلى تعريفه أو إعادة تعريفه، ففي عمليات الترجيح والتقدير والتوقعات التي نحوزها نؤثر في مساره وفي فرص تحقيقه أو استبعاده أيضاً، هكذا أيضاً فإن المستقبل ليس قدراً محتوماً، لكنه محصلة مؤثرات وتوقعات واستعدادات وتفضيلات وتأويلات، أو لنقل يمكن تحويله لصالحنا بقدر ما نملك من خيال ونية حسنة وإرادة للتقدم والخير.

(الاتحاد الإماراتية)