موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
المحاكمة الجزائيّة الكنسيّة.. كتاب جديد للأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني

بيروت - أبونا :

أطلق الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني كتابه الجديد بعنوان: "المحاكمة الجزائيّة الكنسيّة في شرع الكنيسة الكاثوليكية"، من منشورات جامعة الحكمة. ويتناول الكتاب مختلف القضايا والمشاكل التي يطرحها موضوع المحاكمة الجزائيّة الكنسيّة.

وينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، بعد توضيح بعض المفاهيم العامّة، بما في ذلك المحاكمة الجزائيّة والعقوبة والجريمة (الفصل الأول)، لينتقل إلى دراسة مرحلة ما قبل المحاكمة التحقيق التمهيديّ (الفصل الثاني)، وتحليل طريقة المحاكمة الإداريّة الجزائيّة. وفي الفصل الثالث يتناول المحاكمة القضائية التي تحتوي على المسار ومختلف مراحل المحاكمة الحقوقيّة. ولتحليل القضايا الإجرائية المذكورة أعلاه، لم يقتصر الكتاب فقط على تحليل الشرع اللاتينيّ لعام 1983، إنما أيضًا شرع الكنائس الشرقيّة لعام 1990.

وفيما يلي النص الكامل لمقدّمة الكتاب:

طوّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني مفهوم الكنيسة وطبيعتها المؤسّساتية بما يتلاءم وتعليم الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة، ولم يرفض الحديث عن الكنيسة على أنّها "مجتمع" منظور، حقيقة أرضيّة غير منفصلة عن الحقيقة الروحيّة. والكنيسة، كما يؤكّد القديس البابا بولس السادس، هي:"حاضرة بشكل أساسيّ لسببين: أولا، بسبب مخطّط أو عمل المسيح نفسه في العالم وفي التاريخ: فلقد أعلن السيّد المسيح نفسه عن برنامجه الخاصّ للبشريّة، وأنه جاء إلى الأرض لخلاصْ ولينير والاتحاد مع حياة الله ذاته (راجع نور الأمم، 1 ، 2 بط 1، 4)، قائلا: "سأبني كنيستي" (متى 16، 18)، وجعل من هذه الكنيسة الأرضيّة والإنسانيّة الأداة والرباط ووساطة لهباته الإلهيّة. هذا سبب تأسيسيّ ودائم. والسبب الثاني ملموس، ولكن عاجل، وينجم عن السبب الأوّل، وهي الظروف الروحيَّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة، من الوقت الحاضر ... بناء الكنيسة، أي مجتمع من المؤمنين، متّحدين بفعل الإيمان نفسه، مكوّنين جسداً واحداً اجتماعيّاً وروحيّاً، بقوّة الروح القدس، وبرئاسة المسيح نفسه، رأس الكنيسة الإلهيّ، ومحكوم في هذا العالم من سلطة مفوّضة، مرئيّة، إنسانيّة، سلطويّة، تستقي سلطتها، من خلافة الرسل وليس من القاعدة، أي من المؤمنين وليس من السلطان الزمنيّ، أو عن طريق التعيين الذاتيّ التلقائيّ، ينجم عن المسيح، الذي قال لرسله أنفسهم: "لم تختاروني أنتم، ولكن أنا اخترتكم..." (يوحنَّا 15، 16، راجع 6، 70؛ 15، 19)، وهذه نيّة الرب لتنظيم أتباعه من خلال العمل، أي الخدمة، لبعض تلاميذه المختارين والمجهّزين بوكالة خاصّة، تظهر في الإنجيل كله، مع منح امتيازات خاصّة وواجبات، من السُّلطة الخاصّة المفوّضة إليها، وبمهمّة محدّدة بتعليم وتقديس وفي حكم شعب الله .. واضح وواضح جدّاً الطابع السلطوي للرسل مباشرة بعد العنصرة، ليس فقط في الممارسة النبويّة والكريزماتيّة، لكن أيضاً في المجال التربويّ والتوبيخ الشديد والعقاب. مَن منّا لا يتذكر الحدث المروع لحنانيا وسافيرا؟ (اعمال الرسل 5، 1 وما يليها)".

هذه النظرة الجديدة إلى الكنيسة فرضت أمام القانونيّين رؤية متجدّدة عميقة حول معنى القانون في الكنيسة ودوره. فإنَّ قوانين الكنيسة هي أداة الخلاص تقوم على تحقيق وصية المحبّة نحو الله ونحو القريب، من خلال عمل السلطة الكنسيّة المختصّة في مجال اختصاصها لكي تضمن تنظيم الحياة في الكنيسة. بالتالي، ليس هناك تعارض بين "كنيسة القانون" و"كنيسة المحبَّة" أو بين "كنيسة كمؤسّسة" و"كنيسة الموهبة"؛ و"لا وجود لحياة كنسيّة دون نظام قانونيّ"Vita ecclesialis sine ordinatione iuridica nequit exsistere". وهذا يحتوي على التمييز بين الطبيعة القانونيّة المتأصّلة في الكنيسة كجسد المسيح الذي يتجسّد في جسم اجتماعيّ، ومجموعة من أنظمة صدرت عن السلطة الكنسيّة. فالقانون "الكنسيّ" يمكن أن يكون له معنى آخر: العلم الذي يدرس الكنيسة في بُعدها القانونيّ والخبرة القانونيّة التي تنتجها، أي العلم الذي يحقّق مجموعة القواعد التي تحكم المجتمع الكنسيّ. أكّد البابا بنديكتوس السادس عشر: "إنَّ الشَّرع الكنسيّ ليس مجرد مجموعة أنظمة أصدرها المشرّع الكنسيّ لشعب خاصّ هي كنيسة المسيح. إنّه، في المقام الأوّل، إعلان ذو سلطة، يعلنه المشرّع الكنسيّ، حول الواجبات والحقوق، التي لها أساس في الأسرار التي أسّسها المسيح نفسه. هذه الحقائق القانونيّة، المشار إليها في الشَّرع، تشكّل فسيفساء رائعة تصوّر وجوه جميع المؤمنين، العلمانيّين والرعاة وجميع الكنائس، من الكنيسة الجامعة إلى الكنائس الخاصّة". فعلى الشَّرع الكنسيّ أن يكون في خدمة الأشخاص ليستجيبوا بشكل إيجابيّ إلى نعمة الله وأن يكون في مصلحة الإنسان والمجتمع.

نجد، هنا، أنَّ الجذور الإلهيّة لسلطان الكنيسة القضائيّ، والأساس اللاَّهوتيّ لحقوق المسيحيينِ، تُساعد على فهم هدف القانون الكنسيّ وهو حماية الشَّركة الكنسيّة وحماية حقوق المؤمنين المنتمين إٍليها. فإذا كُسرت روابطُ الشَّركة بين المؤمنين بسبب انتهاك حقوق، يجب إعادة ترميمها بأسرع ما يُمكن لمصلحة خير الجماعة الكنسيّة. وحماية حقّهم الأساسيّ الطبيعيّ، اي الإنسانيّ، في المطالبة والدِّفاع عن الحقوق التي يمتلكونها أمام محكمة قضائيَّة كنسيَّة، أكانوا من العلمانيّين أو من إكليروس. وهذه الحقوق تَرتكز بشكل لاهوتي على الاعتراف بكرامة الأشخاصِ الإنسانيّة. في الحقيقة، إنَّ الإعتراف بحقوقِ المؤمنين في الكنيسة لا ينجم عنْ فكر فلسفيِّ أو ايديولوجيّ؛ إٍنَّما يأتي خصوصاً منْ تأسيسهم اللاَّهوتيَّة.

المؤمن المعمّد هو عضوٌ في شعب الله ويشارك في الرسالة التي عهدها المسيح للكنيسة. وبالتالي، هو "شخص" موضوع واجبات وحقوق وفقاً لحالة لكل مؤمن في المجتمع الكنسيّ. وهذا يوضح انتماءه إلى جسد المسيح السريّ، وعضويته في الجسد الاجتماعيّ بواجبات وحقوق. ولأنّ العلاقات الإنسانيّة منظمة من خلال روابط قانونية، واجبات وحقوق، لا يستطيع الانسان إلا من خلالها إتمام علاقة مع ما هو "قانونيّ". من هذا المنظور، يمكننا أن نقول ان الواجبات والحقوق في الكنيسة لديها "الطابع فائق الطبيعة"، أي إنّ لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع هدف الكنيسة، كونها سرًّا وبنية إجتماعيّة.

قد يرتكب المؤمن بشكل طوعيّ وإراديّ خطيئة انتهاك القواعد المتعلّقة بالواجبات والحقوق الكنسيّة، فينتج من هذا تداعيات، سواء على الصعيد الشخصيّ (الابتعاد عن الله والانغلاق على نفسه) أو الاجتماعيّ (كسر شراكة المحبة مع الإخوة) أو الكنسيّ (خيانة الشهادة التي تنادي بها الكنيسة لإعطائها للعالم). المؤمن الجانح لا يستجيب بفعله لدعوته، كعضو في الكنيسة. فهو، بارتكابه جريمة، "يظلم" صورة المسيح الحاضرة في الكنيسة. ومن ناحية أخرى، تشكّل الجريمة انفصالاً لتوازن العدالة في الجسد الكنسيّ، وهو انعكاس واضح لانفصال العلاقة مع الله "العادل". وهنا تبرز الطبيعة المزدوجة للقانون، وبالتالي للجريمة. الجريمة هي واقعة (أكثر من مفهوم) ترتبط ارتباطًا لا ينفصم بالخطيئة. إنهما لا يتطابقان، لكنهما لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر.

لا تستطيع الكنيسة كجسد وموحّدة في المسيح الرأس أن تتجنّب التعامل مع مثل هذه المواقف، حيث عمل أحد الأعضاء يؤثّر في جميع الأعضاء الآخرين. وكما يريد السيد المسيح أن يتمّ إنقاذ الجميع، على الكنيسة أن تتصرف انطلاقاً من الرغبة في رؤية جميع أعضائها قد تمّ خلاصهم. فيجب أن ترفض الأفعال الشريرة وتعمل على خلاص الخاطىء، من خلال استخدام جميع الوسائل الوقائيّة الراعوية والوسيلة القسريّة، إن لزم الأمر، لهدف مواجهة أي خطر قد يمسّ جماعة المؤمنين جراء جريمة ارتكبها المؤمن المعمّد، وذلك بفرض عقوبة كنسيّة وفقاً للحالات والظروف ومسؤولية الفاعل. الكنيسة تريد حماية الرسالة التي أوكلها إليها مؤسّسها، ونظام القيم القانونية التي تستند إليها كي تحقّق هدفها الأسمى وهو خلاص النفوس. وتريد ايضاً ارتداد المذنب الخاطىء وإصلاحه عواقب الجريمة التي ارتكبها، الكنسيّة والاجتماعيّة والروحيّة. ولا تريد استبعاد الخاطىء من حضنها، لأنَّها، كما نصّ الدستور نور الأمم (رقم 8): "تضمّ في حضنها الخطأة". مع ذلك، فإنَّ الخاطئ بسلوكه السيّئ يبتعد عن المحبَّة الإلهيّة. في هذا الصدد، أعلن الدستور العقائديّ "نور الأمم" (رقم 14):"لا يخلص، إلى كونه منتمياً إلى الكنيسة، ذاك الذي يثبت في المحبَّة، فيقيم في حضن الكنيسة "بالجسم" لا "بالقلب". والخطيئة الخطيرة، التي ارتكبت طوعاً وبحريَّة، تُبعد الشَّخص عن النعمة، وتبقى آثارها على المستوى الشخصيّ والاجتماعيّ والكنسيّ.

العمل السلميّ والطريقة المسامحة هما دائما المحاولة الأولى، وهما أولى طرق قابلة للنجاة. ولكن، في الواقع، لا يمكن فرض، بشكل سلطويّ، الطريقة التصالحيّة كحلّ وحيد إلزاميّ: الطابع الراعويّ للنظام الكنسيّ القانونيّ لا يمكن أن يقلل من المبدأ الأساسيّ المتمثل في الحماية القضائيّة لحقوق الأشخاص. فالطريقة التصالحيّة تجد حدّاً في الحفاظ على الخير العامّ والعدالة. فعندما يكون النزاع حول مصالح أو انتهاك خطير للأنظمة ولا يمكن العثور على حلّ، المحاكمة تشكل العلّة القصوى " extrema ratio "وأداة لاستعادة النظام الاجتماعيّ، استقرار القانون بالمحافظة عليه. وفي هذه الحالة، المحاكمة لها وظيفة خاصة وهي تضميد الشرّ الاجتماعيّ. والحقيقة أنَّ المحاكمة الكنسيّة تهدف، بصورة مباشرة، إلى استقرار النظام الاجتماعيّ والنظام الأخلاقيّ. بل هي أداة تُستخدم لتحقيق العدالة في العلاقات القانونيّة بين الأشخاص في الكنيسة. وهذا شرط ضروريّ لحماية الحقوق الحقيقيّة في الكنيسة. ولا ينبغي أن يُنظر إلى "تدخّل العدالة مع المحبة والرحمة" كنوع من "تطبيق تجميلي للشرع"، الذي قد يجعله نوعاً من "عاطفة أو شفقة مضّللة". فالعدالة لا تنشأ من النيّات الطيّبة، إنَّما من احترام الجميع للأنظمة، حسب المبادئ العامَّة وروح النّظام الكنسيّ.

فمن الواضح أيضًا أنّ الكنيسة يجب ألا تكون متسرّعة مطلقًا في التذرّع بالمحاكمة الجزائية خشية أن تكون حقوق المؤمنين تضرّرت ظلماً. هذا لأنّه، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، متابعة محاكمة دون المساس بطريقة ما بحقوق المؤمنين.

وضّح البابا القدّيس يوحنَّا بولس الثاني، في خطابه الأوّل أمام أعضاء الروتا الرومانيَّة في عام 1979:"ضمن صورة الكنيسة التي تحمي حقوق كلّ مؤمن، بالإضافة إلى أنها تعزّز وحماية الخير العام كشرط لا غنى عنه للتنمية المتكاملة للشخص البشريّ والمسيحيّ، يندرج النظام الجزائيّ بشكل إيجابيّ: حتى العقوبة التي تفرضها السلطة الكنسيّة (...) يجب النظر إليها كأداة للشركة، وهذا يعني، كوسيلة لاسترداد نواقص خير الفرد وخير العام التي ظهرت في سلوك غير كنسيّ، إجراميّ ومشكك لأعضاء شعب الله ". وفي عام ،1986 أشار البابا يوحنا في خطابه أمام روتا رومانا على النحو التالي: "إضفاء الطابع المؤسساتيّ على أداة العدالة التي هي المحاكمة، يمثّل اكتساباً حضاريّاً تدريجيّاً واحتراماً لكرامة الإنسان، حيث ساهمت الكنيسة بشكل كبير في المحاكمة الكنسيّة".

يشير البروفسور Arroba حول هذا الموضوع: "إذا كان الغرض من القانون الكنسيّ هو "تنظيم الشركة بين المؤمنين"، هذا "العمل" التنظيميّ يتضمّن الاعتراف بحقوق وواجبات المؤمنين الأساسيّة، وأنَّ هذه الحقوق لا يمكن أن تُنتهك أو يتم تجاهلها، أو على الأقل، عدم تنفيذها، ويقرّ التنظيم نفسه حماتها، معترفاً للمؤمنين بالقدرة على المطالبة بها والدفاع عنها، في المحاكم الكنسيّة وفقا للقانون 221. وهذا ممكن لأنّ كلّ الحقّ المعترف به في الكنيسة هو محمي عموما "بدعوى" (ق.1491)، أي القدرة على الطلب من المحكمة ما يعتبر خيراً خاصّاً، عندما يكون المؤمن في الواقع محروماً. يتمتّع بهذه الحماية المؤمنون، سواء كأفراد (ق.96)، أم كأشخاص اعتباريين (ق. 113-123، وق. 1480)". .لذلك، من الضروريّ أن تمتلك الكنيسة سلطة تُسمّى "سلطة قسريّة" لضمان وحماية التنظيم الكنسيّ، وللخير الأعلى أي خلاص النّفوس. وهذا يعطيها حقّ التدخّل واستخدام قوّة القانون، أي القوّة ضدّ مخالفي القانون كحقّ طبيعيّ "nativum".لذلك، فإنَّ خلاص النّفوس هو المبدأ التوجيهيّ والقياديّ لجميع الأنظمة القانونيّة في الكنيسة، وعلى وجه الخصوص، ممارسة شؤون العدالة عن طريق المحاكم الكنسيّة. ومن الواضح، أنَّ نظام المحاكمات الكنسيّ، بالإضافة إلى حماية حقوق الأشخاص، يلبي احتياجات المجتمع الكنسيّة، وهدفه النهائيّ هو "جعل كلمة الله فاعلة وخلاصية". واللجوء إلى المحاكمات الكنسيّة هو ايضاً استجابة لمطالبة المؤمنين بحماية حقوقهم الشخصيّة وأوضاعهم القانونيَّة، وإدعاءاتهم الشرعيَّة التي تستحقّ الحماية. نعم، من وجهة النظر الكنسيّة، المحاكمة هي حقيقة تؤذي حياة الجماعة، لا تُعبّر عن الحلّ المثاليّ للاضطرابات، لكنَّها إداة للإصلاح وتجاوز العراقيل المتعلّق بالإرث العامّ من القِيَم التي تُشكلّ جوهر حياة الكنيسة ورسالتها.

أكّد البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه أمام عميد محكمة الروتا رومانا 18 كانون الثاني سنة 1990 "في حالات معيّنة، هذه المحاكمات مطالبة بها من الشرع كطريقة أكثر ملاءمةً لحلّ مسائل كنسية خطيرة، قيام الزواج مثلاً. فالمحاكمة العادلة هي موضوع حقّ المؤمنين (ق. لاتيني 221) وتشكّل، في ذات الوقت، مطلب الخير العامّ للكنيسة. والأنظمة القضائية الكنسيّة ينبغي أن يحفظها جميع العاملين في المحكمة بحسب ظهورات أداة العدالة التي تقود إِلى العدالة الجوهرية" (رقم 7) بهذا المعنى، المحاكمة الكنسيّة هيَ إلزاميَّة، لكونها الطريقة الشرعيَّة لحلّ النزاعات، ويجب أن تكون في خدمة الحقيقة الموضوعيَّة والعادلة، أي أن تصدر قرار الحكم وفقا للعدالة.

بكل تأكيد، النتائج العادلة تعتمد على الإجراءات القضائيّة العادلة، والتي يمكن اعتبارها أحد شروط عدالة القرار الحكم النهائيّ. ولكنّ هذا لا يمكن اعتباره الشرط الوحيد؛ فلا بدّ من استيفاء شروط اخرى كي نعتبر القرار عادلاً، وهذا يتعلّق بالحلّ في المسالة القانونية quaestio juris، أي صحة اختيار وتفسير القاعدة القانونية السارية، والتحقق من وقائع ذات الصلة بالقضية. بالتالي، يفترض الحكم مسبقاً التحقق من الوقائع للتأكد مما إذا اكتملَتْ أم لا. من وجهة النظر هذه، فإنَّ التأكّد من حقيقة الوقائع ليس في حد ذاته الهدف النهائيّ للمحاكمة، بل يشكل شرطاً أساسيّاً لإقرار ما هي القاعدة التي يجب تطبيقها على الحالة الملموسة بشكل ملائم.

نستطيع التحدّث عن "الحقيقة"المرتبطة بحقيقة المحاكمة والتي تظهر في القرار الحكم؛ والحقيقة في المحاكمة الجزائية بمعناها الواسع، وهي حقيقة تقوم على اساس الأعمال والبيّنات، وحقيقة الشهادات التي على أساسها ينطق القاضي بالحكم النهائيّ. فإذا العدالة لم تكن حاضرة، أو على الأقل لا تبدو متأصلة في حكم هيئة قضائيّة، فإنّ الشرع الكنسيّ يستخدم وسائل مختلفة تهدف إلى تكامل الحكم؛ أو حتى تعديل الوضع الذي أنشأه الحكم وهو في حد ذاته منتظم، ولكن في جوهره غير العادل. في الواقع، كتب لنا إنجيل يوحنا هذه الكلمات الواضحة من الربّ: "لا تحكموا وفقاً للمظاهر، بل احكموا بالعدل!" (يو 7، 24). وفي السياق نفسه، يخبرنا يوحنا عن اختيار نيقوديموس لطريقة إجراء يتابعها زملاؤه: "أتحكم شريعتنا على أحد قبل أن يستمع إليه ويعرف ما فعل؟ (يو7: 50-51). وعلينا ألا ننسى أنّ إدانة يسوع ستكون بسبب خير العام، دون أن تكون عادلة: "أنتم لا تدركون شيئاً، ولا تفطنون أنه خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة بأسرها"(يوحنا 11: 49-50).لذلك، لا يمكن فهم معنى العدالة إلا بعلاقتها بالحقيقة، وبالتالي بالشرع الإلهيّ. بين الحقيقة والعدالة، هناك علاقة خاصة جدا: العدالة هي المشاركة في الحقيقة. العدالة هي الحقيقة والحقيقة هي العدالة. وبعبارة أخرى، لا تطبَّق العدالة إلا عندما تطبَّق الحقيقة، وبالتالي تطبَّق الشرع الإلهيّ.

يؤكّد البابا يوحنا بولس الثاني في الرسالة العامّة "تألّق الحقيقة"، لا سيّما بالنسبة إلى إمكانية تطبيق لمحتويات السلطة التعليمية في المجال القانون الكنسيّ على أهمية العلاقة بين تألق الحقيقة والعدالة، مما يضع في المركز "موضوعيّة ما هو حقيقيّ وعدم فصله عن ما يتعلّق بما هو خير وما هو حرّ". تُفهم الحقيقة، المبدأ الأساسي لهذه الوثيقة، بشكل عامّ على أنّها الحقيقة العمليّة، الحقيقة الأنطولوجيّة، والتوافق الموضوعيّ مع الواقع. في إطار القانون المحاكمات الكنسيّ، الحقيقة القانونيّة وبشكل أعمّ الحقيقة الإجرائية يمكن اعتبارها متميّزة عن الحقيقة الموضوعيّة لأن العدالة عهدت إلى المخلوقات الذين يمكن أن يخطئوا كالقضاة. إلا أنّ المشاركة الواقعيّة للإنسان في البحث عن الحقيقة مما يؤدي إلى جعل هذا التناقض بين حقيقة الله وحقيقة الإنسان، كون الخير يدرك حدوده في صعوبة معرفة ما هو ملموس في الحياة البشرية، مدفوعة نحو البحث الدقيق عن الحقيقة في حدّ ذاتها، بمحاولة تحقيق اكتساب كامل للواقعية ومن ثم الوصول إلى النطق العادل.

يتناول هذا الكتاب مختلف القضايا والمشاكل التي يطرحها موضوع المحاكمة الجزائيّة الكنسيّة. ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، بعد توضيح بعض المفاهيم العامّة، بما في ذلك "المحاكمة الجزائيّة" و"العقوبة" و"الجريمة" (الفصل الأول)، ننتقل إلى دراسة مرحلة ما قبل المحاكمة التحقيق التمهيديّ (الفصل الثاني)، وتحليل طريقة المحاكمة الإداريّة الجزائيّة، وفي الفصل الثالث نتناول المحاكمة القضائية التي تحتوي على المسار ومختلف مراحل المحاكمة الحقوقيّة. لتحليل القضايا الإجرائية المذكورة أعلاه، لم نقتصر فقط على تحليل الشرع اللاتينيّ لعام 1983، لكن أيضًا شرع الكنائس الشرقيّة لعام 1990. ومن الملاحظ أنّ لدى كلا التشريعين بشأن مسألة المحاكمة الجزائيّة الكنسيّة قوانين مشتركة، وعناصرها الخاصّة، والتي تجعلها مستقلّة بشكل متبادل. ومع ذلك، هناك قوانين في الشرع اللاتينيّ لا تتطابق مع قوانين شرع الكنائس الشرقيّة، والعكس صحيح أيضاً.