موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٩
اللقاء المشرقي .. نحو قيامة لبنان الرسالة

بيروت - رافي سايغ :

احتضنت العاصمة بيروت أعمال المؤتمر الأول للقاء المشرقي، تحت عنوان "لبنان وطن الحوار والحضارات" في 14 و15 من الشهر الحالي، برعاية وحضور رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، ومشاركة عدد من النخب والقامات الفكرية والدينية العربية والأجنبية.

مواضيع متنوعة تم مناقشتها خلال يومي المؤتمر، ومداخلات كلها أكدت على أهمية الانسان كقيمة في هذا المشرق. فكان المؤتمر بحد ذاته نبع رجاء يستهل منه كل مشارك متعب من هموم الأحوال الراهنة.

المؤتمر الذي للأسف قبل انعقاده تعرض إلى انتقادات كثيرة، تارةً على انه يهدف إلى تحالف أقليات تخشى الاندثار، وتارةً أنه مؤتمر مسيحي ضيّق، وتحدث البعض على انه محاولة لإعادة دور ما إلى لبنان!

ولكن الحقيقة كانت عكس كل هذه الأقاويل، فكان المؤتمر مساحة حوار لأكثريات لها تاريخها العريق في المشرق، وكان طاولة اجتماع تجمع كل الطوائف والقوميات.

لقد كانت هذه الأيام ببساطة وليدة دور لبنان الريادي والرائد في الحوار، هذا الدور الذي لم يضعف أو تراجع أساسًا، بل على العكس مع كل فجر جديد ينبلج تتأصل الحرية في هذا البلد، وتكون هدفًا لشعوب تتوق للتقدم وتعاني من الانغلاق والتقوقع.

فحضر هم شعوب بلاد المشرق كلها، من سورية ولبنان والأردن والعراق وفلسطين في المؤتمر الأول.

وعلّ ما تميز به افتتاح المؤتمر هو فلسطين الحاضرة في كلمة فخامة الرئيس ميشال عون. نعم هي فلسطين قضيتنا وبوصلتنا في هذا المشرق، بالرغم من انشغالنا في أحوال بلادنا المتعبة من الحروب والخضات. فلا مشرق من دون فلسطين حرة آمنة كونها مكان لقاء الديانات السماوية.

بأسلوب راقي عكس روح اللجنة المنظمة كان هذا المؤتمر الأول للقاء المشرقي تحت عنوان "لبنان وطن الحوار والحضارات" والتسمية لوحدها تحتاج إلى مؤتمرات كثيرة لشرحها.

قد يسأل البعض ما أهمية التسمية وربما يراها البعض أكثر من عادية، حوار وحضارات!

لمن يريد جوابًا شافيًا على هذا الاستفسار عليه أن يقرأ كثيرًا وبعمق في تاريخ حروب لبنان الطويلة والكثيرة، والخروج بخلاصة أنه لا بدّ من يوم يأتي وتسقط فيه الأسلحة وضجيجها، ويرتفع صوت الحوار واللقاء والاتفاق.

أرضنا مشرقية بامتياز وعليها قامت حضارات ملأت الدنيا ثقافةً وعلم ورخاء لكل من آمن بها. فالحروب الطويلة لم تولد لنا سوى هجرات لشبابنا وخيبات تليها خيبات، وآن الأوان لنوقف هذه الخسارات التي تشلنا في كل يوم يغيب الحوار عنا وفي ما بيننا.

لقد كانت تجربة المؤتمر الفريدة نادرة بشيء تحتاجه اليوم كل الأنشطة التي تقام في مشرقنا، وهو أن الديانات والمعتقدات هي قيم تجمعنا وتلم شملنا ولا تبعدنا عن بعضنا البعض. فالإنسان هو الأهم، ولا دين يبقى أو معتقد إلا بالمحافظة على إنساننا المشرقي وضمان وجوده واستمراره.

فما قيمة كنائسنا ومساجدنا الفخمة، واحتفالات أحزابنا المكلفة وإنساننا المشرقي معذب؟ فالأديان وجدت لتقربنا أولا من الله وثم فيما بيننا.

فمن هذه المقاربة نتقبل الأخر ونعمل سويًا لصنع ونشر الخير ومفاهيم المحبة والوئام، فلا نأخذ من الدين وكأنه جدار يفصلنا ويعزلنا عن الآخر، وأكثر من هذا نتقوقع ونغوص في بحر الأنانية ونموت ونحن في قعر الأحقاد والنزاعات ، بحجة تفصيل المعتقدات على مقاسنا وما تطلبه منا.

فشعوبنا ونحن نتوق للسلام الحقيقي، والسلام لا يأتي برفض الآخر، بل بالتضحية من أجله ومعه في سبيل خلق مشرق يقوم على الحوار لحل كل المشكلات لا بالعنف والتسلط.

فتجاربنا السابقة كشعوب مشرقية بحلوها ومرها، هي محطة نتأمل فيها ونتعلم منها كيف نصون تنوعنا وتعددنا في عالم أصبحت فيه العنصرية شيء مقدس ونهج متبع.

فعندما نصغي لبعضنا، ونتقاسم خبراتنا ونقرأ تجاربنا معًا ندرك حينها كم كانت حروبنا عبثية لا رابح فيها سوى أعدائنا ولا خاسر إلا نحن.

قبول الآخر لي وقبولي له هو الضمان الوحيد لصد محاولات كل من يحلم بتدمير مشرقنا، وبهذا التعاون نشكل حالة من التضامن تجبر المجتمع على مساعدتنا في متابعة عيش شعوبنا بكرامة بدل تنكيد عيشها.

فتلاحمنا في هذا المشرق يدفعنا أيضًا إلى تثبيت الوئام فيما بيننا، ومحاربة التطرف سواء كان على أراضينا او في ابعد نقطة في العالم.

مواجهة التطرف وإلغاء الأخر هي أيضًا قواسم تحثنا على اللقاء كشعوب تنتمي إلى ثقافات متعددة، وتعمل بأخوة لعكس صورة واقع المشرق الحقيقية.

مهما اختلفنا في السياسة والمصالح، تبقى هذه المفاهيم تجمع شعوبنا وتنتصر للسلام وخلق عالم خالي من الكراهية انطلاقاً من واقع نشترك فيه، فمن أجل هذا المشرق نتلاقى ونكسر الحواجز، ومع هذه المساحة الفكرية الواسعة المشتركة نفهم أيضًا أن معاناة شعوبنا هي معاناة واحدة لنا كلنا.

فعندما تتألم سورية يتألم المشرق كله، ويفقد صورته كمثال يقتدى به. وعندما نبلسم جراح سورية نبلسم جراح العراق ولبنان والأردن وكل شعوبنا الراسخة تحت هموم اقتصادية كبيرة.

هذا هو المشرق الذي نطمح إليه، حلول تدفعنا إلى العمل معاً يداً بيد، لا تفرقنا قوميات او مذاهب او مصالح حزبية.

وكم جميلٌ أن ننشر ونعمل لهذا الوئام، ومن هنا كانت مشاركة المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام بمداخلة الأب د. رفعت بدر في المؤتمر وعرض العلاقات التي تجمع لبنان والأردن بدل الحديث عن أزمات تفرقنا وتحديات تعيق وحدتنا.

مع هذا الأمل الذي يولد دائمًا وأبدًا من لبنان، وطن الحوار والحضارات، بيت الحرية وسياجها، يأتي مؤتمر اللقاء المشرقي الأول، ليجمع لا ليفرّق، ليبني ويضع أسس جديدة متجاوزًا كل ما يعصف بمشرقنا من عواصف وويلات تلبسنا، ويحاول وقف الرياح التي تعصف بنا هنا وهناك.

هذا هو لبنان.. وطن قيامة ورسالة تتألق في كل أزمة. رجاء يتجدد وأمل ينبعث من اللقاء وقبول الآخر.