موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٧ يونيو / حزيران ٢٠١٩
القدس في مؤتمر معرفي

مهند مبيضين :

اختُتم في الجامعة الأردنية في عمّان مؤخرًا مؤتمر "القدس: تحديات الواقع وإمكانات المواجهة"، والذي انتظم بمبادرة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، واستضافته الجامعة الأردنية بتعاونها المشترك في التحكيم العلمي واللجان والتنظيم.

وأكدّ رئيس الجامعة، عبد الكريم القضاة، في كلمة الافتتاح على "أن ما يبعث على التفاؤل والأمل هو التفاعل بين المؤسسات الأكاديمية العربية الشقيقة والصديقة؛ إذ يأتي هذا المؤتمر في هذا السياق المعرفي الخالص، وبمبادرة مشكورة من المركز العربي ومؤسسة الدراسات الفلسطينية لبحث موضوع يتصل بأبهى المدن وهي القدس"، وكانت لافتة في المؤتمر الذي افتتح في يوم عطلة وفصل صيفيّ في الجامعة، المتابعة الكبيرة له، والنقاش العلمي في الجلسات.

وليست ميزة المؤتمر كثافة الحضور فحسب، وهذه مسألة باتت تؤرق من يريد أن يرتب ندوة أو حتى يدعو فنانًا وحسب، بل هي في نوعية هذا الحضور، من باحثين وساسة ووزراء أردنيين متعلقين بالمعرفة والبحث، كما أنّ ما كشفه منسق مشروع الذاكرة الفلسطينية في المركز العربي، معين الطاهر، عن عدد الذين تقدموا للمشاركة، وتجاوز المائتي رغبة وفكرة لمشروع بحث أرسلت إلى اللجان العلمية، إلا أن الذي قُبِلَ وتجاوز التحكيم كان 35 ورقة بحثية شارك بها 37 باحثًا، فهذا معناه أن هناك نظام غربلة وتحكيم صارم، وهذا كُله لم يمنع عند عرض أبحاث المشاركين، حصول نقاش علمي في المحتوى، بشكل يتاح للباحثين لاحقاً تعديل أبحاثهم وتطويرها عند النشر. وكان التحدي أمام المؤتمر وتجاوزه في تخطّي الشكل الاحتفالي الذي يجري لأجل القدس، والذي يطغى على المؤتمرات والندوات، فتأتي احتفائية وخطابية، وتنتهي صلاحيتها قبل انتهائها، وكان هذا التخطي في الجدّية العلمية، وبالتالي جودة المخرج المعرفي.

ميزة أخرى تُضاف إلى هذا الجهد المعرفي الذي تبنّاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في أنه يعد دعوة إلى آخرين راغبين بالمنافسة أو التقليد أو المشاركة مستقبلاً في المؤتمر، بتجويد مساهماتهم للمنافسة في المشاركة، ولمواجهة الصرامة التحكيمية، وذلك من أضعف الإيمان الذي يجب أن تثيره المنافسة العلمية الشريفة. والميزة الأهم للمؤتمر في تقديم طاقم من الباحثين الشباب الذين ميّزوا الجلسات بدافعيتهم، وجاءوا من خيرة الجامعات والمراكز العلمية العربية وغير العربية.

وقد جاءت محاور المؤتمر والأوراق متنوعة، فناقشت السياسة الأميركية والسياسات الاستيطانية والأمن والهوية وتحديات المقدسيين الاجتماعية، والصورة التاريخية والتوثيق، والموقف الأردني من القدس والوصاية الهاشمية، ومن الأوراق ما بحث موضوع التعليم في القدس والأوقاف المقدسية. وأهمية هذا الجهد العلمي في أنه بحث الحال الراهن المقدسي، ولم يغرق في التاريخ، على الرغم من أهميته، فالمطلوب اليوم مناقشة صفة الحال اليومية للقدس، وما يتعرّض له الناس فيها، وكيفية مواجهة التحدّيات التي يتعرض لها الناس في المدينة المحتلة.

لم تكن الجامعة الأردنية غريبة يومًا عن القدس، فقد ذكّر رئيسها، في كلمته الافتتاحية، بأن أول فكرة لإنشاء جامعة أردنية كانت في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، واقترحت لجنة خاصة إقامتها في القدس. ولاحقاً صار للجامعة الأردنية دور تاريخي في تمكين طلاب القدس وطلاب عرب 1948 أيضا في قبولهم في تخصص الطب، أسوة بالأردنيين بكوتا خاصة لهم، لكونهم يواجهون الاحتلال، وهو دور راهنٌ ومستمر في دعم طلاب القدس. وجاء إنشاء وقفية القدس قبل عامين في الجامعة في هذا السياق، كما أن الجامعة الأردنية تُدرّس مادة إجبارية، متطلبا لجميع طلابها، عن القدس، الحاضرة قضية أولى في الحراك الطلابي بشكل دائم.

لم يكن مؤتمر القدس ابتداعا جديدا في المسار العلمي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فقد أجرى خلال عامين منصرمين مؤتمرات عديدة عن النكبة والنكسة والمسيحيين العرب، وهي مؤتمراتٌ متصلةٌ بالتاريخ والزمن الراهن، هذا بالإضافة إلى مسار المؤتمرات العلمية الأخرى، والجوائز العلمية والنشر العلمي النوعي، وبرامج البحوث، وبالتالي لدينا اليوم خبرة متراكمة في كيفية إنجاز الأعمال العلمية، وتحويل الأسئلة إلى فرضيات وبحوث، وفي النهاية كتب ومجلات وبحوث محترمة بعيدة عن الأيديولوجيات والخطابات والبروتوكولات التي تتكرر في كثير من المناسبات الجامعية.

حضر الجمهور المهتم مؤتمر القدس حتى آخر جلساته في أيامه الثلاثة، بالكثافة نفسها والحماس العلمي نفسه، ولم يكن المنظمون في حاجة لجلب جمهور طلابي، أو أشخاص من الخارج لملء المقاعد وحسب، بل كان هناك مؤتمر علمي اسمه "القدس" تم تنظيمه بشكل مؤسسي وعلمي، برحابة المؤسسات الخليقة بالعلم والمعرفة، وخصوصية الجمهور الأردني المسيس، فكان الجهد والمنجز في مستوى المدينة المقدسة، ويؤمل له أن يستمر، وأن يكون تقليدًا دائمًا كل عام.

ربما أثار بعضهم سؤالاً عما يحتم على الجامعة الأردنية والمركز العربي ومؤسسة الدراسات الفلسطينية إنجاز هذا المؤتمر؟ مدعاة السؤال ربما أن المشهد اليوم غاصٌّ بالاحتفاء بالقدس، ولكن المهم اليوم هو التشبيك المعرفي، وهذا المحتل الإسرائيلي لا يُواجه بأكبر طبق منسف أو طبق مسخن، بل بالمعرفة، لأنها القوة، في ظل تعطل مجمل القوى العربية الأخرى وضياعها في أتون الصراعات والتعبئة ضد العرب، وبينهم وفي ما بينهم.

(العربي الجديد)