موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
الفاتيكان وإسرائيل.. الطريق لصناعة السلام

إميل أمين :

قبل بضعة أيام.. استقبل بابا الفاتيكان فرنسيس، الرئيس الإسرائيلي رؤوفيف ريفين، في زيارة دولة رسمية، فقد اجتمع الضيف الإسرائيلي كذلك مع أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان، وبحضور أمين سر الدولة للعلاقات مع الدول، أي مع رئيس وزراء الفاتيكان ووزير الخارجية في الكوريا الرومانية، والتي هي حكومة بابا روما.

أسئلة عديدة يطرحها الاهتمام الاسرائيلي بحاضرة الفاتيكان، سيما وأن التاريخ القديم يذكر لنا أن خليفة بطرس لم يكن صديقًا أبدًا لليهود، وذلك قبل أن يتغير المشهد بشكل كبير في أعقاب المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، وصدور الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم NOSTRA AETATE أي في حاضرات أيامنا.

والمعروف أن لغطًا كبيرًا أثير حول تلك الوثيقة، وفي عالمنا العربي روجت نظريات غير موضوعية في قراءتها لهذا التوجه الفاتيكاني الجديد في العقود الخمسة المنصرمة، ومهما يكن من أمر فإن الفاتيكاني لم يقم علاقات دولية مع إسرائيل، إلا بعد إتفاقية أوسلو، وبداية الطريق الذي خيل للكثيرين أنه سيقود إلى سلام عادل وشامل بين الفلسطينيين والاسرائيليين، الأمر الذي لم تثبت صحته حتى الساعة.

وفي سياق ما يشاع عن وجود صفقة للسلام بين الجانبين بحضور ورعاية الأمريكيين، ربما يعن لنا أن نتساءل: هل اسرائيل مهتمة بصورة جدية بوجود الفاتيكان ضمن أبجديات تلك الصفقة الجديدة، سيما وأن لحاضرة الفاتيكان مواقف ثابتة من الأزمة؟

الرجوع إلى القرن التاسع عشر وأواخره تحديدًا، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفاتيكان كان رافضًا لقيام دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية، كان ذلك في عهد سعيد الذكر البابا بيوس العاشر، كما أن البابا بولس السادس الذي عاصر حرب الستة أيام رفض بدوره فكرة إستيلاء اسرائيل على القدس الشرقية، وبالإجمال تهويد القدس، ولا تزال النظرة الفاتيكانية للقدس هي هي لم تتغير، مدينة دولية للسلام العالمي، بما فيها من مقدسات يهودية ومسيحية وإسلامية، ومن دون أن يستأثر طرف بعينه بالسيطرة عليها، وهو ما ينافي ويجافي الوضع الحالي.

والشاهد أنه إذا كانت العلاقات بين الفاتيكان والولايات المتحدة الأمريكية عميقة في مرحلة بعينها، وتحديدًا خلال ثمانينات القرن المنصرم حين تضافرت جهود البابا الكبير الراحل يوحنا بولس الثاني، والرئيس الأمريكي الجمهوري رونالد ريجان، من أجل مواجهة الإتحاد السوفيتي، ووقف إنتشار الشيوعية حول العالم، هذا التعاون الذي أثمر أول مسمار في نعش الشيوعية، عبر بولندا بلد البابا فوتيلا الأصلي.

إلا إن العلاقة بين البابا فرنسيس والرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، لم تكن على ما يرام بالمرة، فمنذ أن طرح نفسه كمرشح للرئاسة الأمريكية في 2015، وقف البابا في وجه دعواته الأحادية وبنوع خاص طريقة تعاطيه مع المهاجرين البؤساء والفقراء، وبناء جدران عالية على الحدود مع المكسيك. والثابت أن الدبلوماسية الأمريكية حاولت جاهدة القفز على هذا المأزق، وترتيب زيارات لترامب إلى الفاتيكان، كما زار البابا بدوره الولايات المتحدة الأمريكية، لكن شيئًا ما لا يزال عالقاً بين الجانبين.

هنا يتعين علينا أيضًا أن نشير إلى جزئية تكاد تكون خافية عن أعين كثير من المراقبين، وهي أن الدبلوماسية الأمريكية كثيرًا جدًا ما تجد ذاتها في حاجة ماسة إلى القنوات الخلفية للحضور الفاتيكاني الشعبوي والنخبوي حول العالم، والتاريخ القريب يؤكد ذلك، فحضور الكاثوليك الذين يبلغ عددهم نحو مليار وثلاثمائة مليون حول العالم، وانتشارهم في قارات الأرض الست، أمر يجعل المسالك مفتوحة بقوة أمام نفوذ الرجل صاحب الرداء الأبيض، من زمن بيوس الثاني عشر تحديدًا الذي عاصر الحرب العالمية الثانية، والذي لا يزال يهود العالم يكنون له الضغائن ويوجهون الإتهامات، إلى أوان فرنسيس الأول الفقير الذي دخل الفاتيكان في أوقات تكاد فيها الحرب الكونية الجديدة أن تندلع.

في هذا السياق لا نذيع سرًا إن قلنا إن الفاتيكان لم يتقبل القرار الأمريكي الخاص بالإعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، عطفًا على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وعند الحبر الأعظم أن القرار المتقدم لا يشجع الطرفين على المضي قدمًا في طريق بناء السلام بين الأمم والشعوب.

زيارة الرئيس الإسرائيلي هذه هي الثانية له، فقد قام بزيارة سابقة في أيلول من عام 2015، ويومها شدد البابا فرنسيس على "الضرورة الملحة" لإطلاق الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأشار إلى حتمية تعزيز مناخ الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإعادة إطلاق المفاوضات المباشرة بين الشعوب عبر "إتفاق يحترم تطلعاتهم الشرعية ويفيد المساهمة الأساسية للسلام والاستقرار في المنطقة".

لا يشعر الفاتيكان بارتياح تجاه عدة أمور تقوم به الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، فعلى الرغم من مطالبته بضرورة تحقيق الأمن للإسرائيليين، إلا أنه لا يتقبل عقلاً أو نقلاً العنف غير المبرر الذي الذي تواجه به سلطات الإحتلال الشعب الفلسطيني في الداخل، ناهيك عن السعي في إطار تهويد الدولة مرة وإلى الأبد، ومحاولة تفريغها من سكانها الأصليين مسيحيين ومسلمين دفعة واحدة.

أكثر من ذلك فإن الكنائس الواقعة في الدولة الإسرائيلية تعاني معاناة شديدة من القوانين الإسرائيلية المتعنتة ويعاني المسيحيون هناك من صلف وغرور قوات الإحتلال في التعامل معهم، ولهذا كان البابا فرنسيس يسلط في لقاء العام 2015 على "وضع المسيحيين في الأراضي المقدسة وكذا غيرهم من المجموعات الأقلية".

عما قريب سوف تحل الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والكرسي الرسولي، وخلال تلك الفترة لم تكن العلاقة بين الطرفين سخاءً رخاءً، صفاء زلالاً، لكن الكرسي الرسولي ينظر بعين الرعاية لجماعات كثيرة تعيش على الأراضي الفلسطينية، ومقدسات مسيحية تتعرض لحالة من العنف وفرض الضرائب من قبل الحكومات الإسرائيلية.

على أن الإشكالية الأكبر التي يرى الفاتيكان أنها تمثل العائق القريب والمانع الكبير من التوصل إلى إتفاق سلام، هي غياب الثقة بين أطراف القضية المختلفين نسبياً ودوجمائياً، وهنا المشكلة الكبرى، فاليمين الإسرائيلي يتعاظم وجوده في أيامنا، مشكلاً بذلك تهديدات عميقة على إسرائيل التي ترى أنها دولة ديمقراطية في محيط فوضوي حسب إدعاءاتها، والناظر إلى جماعة لهفاه المتطرفة في إسرائيل، ومطالبتها بإلغاء القوانين الوضعية، وعودة الحكم بالتوراة كشريعة إلهية، يوقن بأن المشهد هناك لا يختلف كثيراً عن بقية الجماعات الأصولية في العالمين العربي والإسلامي والتي ترفع صوتها الموازي بمطالبات شبيهة، وجميعها تقلص إمكانية الوصول إلى سلام يفتح أبواب العيش المشترك بين الجميع، وإن شئت الدقة قل العيش الواحد.

مرة جديدة في لقاء البابا فرنسيس والرئيس الإسرائيلي الأيام القليلة المنصرمة، نستمع لنداءات حبر روما الشهير المطالبة بضرورة استئناف المفاوضات والتوصل إلى إتفاق يحترم التطلعات المشروعة للشعبين، والتفسير هنا ورد سابقًا في تصريحات عديدة، بمعنى أمن وأمان لدولة إسرائيل من جهة، ودولة فلسطينية مستقلة على التراب الوطني الفلسطيني، من ناحية ثانية.

القدس ومن جديد كانت حاضرة وناظرة من خلال بعديها الديني والإنساني بالنسبة لليهود والمسيحيين والمسلمين، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على هويتها ودعوتها لأن تكون مدينة للسلام.

هل كل ما تم دار بين البابا والرئيس أفرج عنه أو تم إطلاع العالم عليه؟

بالقطع لا يمكن أن يكون ذلك كذلك، فساعة الفاتيكان وكما يقال عادة لها توقيت مغاير لساعات العالم، وما يدور وراء جدران القصر الرسولي لبابا روما، لا ينادي به من على السطوح، لكن يمكن أيضًا القطع بأن إسرائيل تدرك الأهمية القصوى لأن تكون حاضرة الفاتيكان ضامناً ولو أدبياً، وشريكاً ولو مراقباً في أي صفقة، لا بوصفها الثيؤلوجي أو الحاجة إلى مباركة الفعل لتحل البركة، بل إنطلاقاً من حقيقتين جغرافية وديمواغرافيا، مرتبطتين بنفوذ البابا الروماني، وهو الرجل الذي كان سبب إزعاج كبير لدافيد بن جوريون من قبل، فيما جولد مايئر أعتبرته العقبة التي تسببت لإسرائيل واليهود في معاناة حول العالم، طوال عشرين قرناً، كما صرحت بذلك غداة لقاءها الأول مع الحبر الروماني بولس السادس في نهاية ستينات القرن الماضي .

يؤمن البابا فرنسيس بأن الاستثمار في السلام لا الحرب هو الطريق الأكثر أمناً وأمانا لخلاص البشرية من الكراهية والتعصب، التطرف والإرهاب. في ذكرى مائة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى وفي لقاءه الإسبوعي بالجماهير قال البابا: "لنعمل من أجل السلام، لا الحرب، وكإشارة رمزية، أضاف البابا قائلاً: لنأخذ علامة القديس مارتن العظيم، لقد قسم عباءته إلى قسمين كي يتشارك بها مع رجل فقير، ومؤكداً على أن عمل التضامن الإنساني هذا يرشد الجميع إلى درب بناء السلام".

هل سينجح البابا في ترك إنطباع وبصمة على الصفقة الفلسطينية–الإسرائيلية التي يبدو أنها قادمة لا محالة؟ مهما يكن من أمر الجواب فإن الكثيرين جدًا في العالمَين الشرقي والغربي، المسيحي والإسلامي وحتى اليهودي، ينظرون نظرة تقدير واحترام لهذا الفقير الساكن في "نزل صغير"، في الفاتيكان، رافضًا حياة القصور، ومقدمًا مثالاً لإنسانية متواضعة، لا تعرف الطريق إلى غرور القوة، أو دروب الغواية السياسية، إنه كمعلمه، صانع سلام في الحال والاستقبال.

(الغد)