موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
العنف والتطرف: الحل في الحفاظ على التعددية

أ‌. د. كامل صالح أبو جابر :

تعيرنا إنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل

ما جاد به هذا الشاعر الجاهلي يدل أن مسألة الأقليات ليست جديدة بل قديمة. أقول مسألة، لا مشكلة الأقليات لأنها ظاهرة عامة نجدها في معظم مجتمعات المعمورة وحضاراتها وثقافاتها.

والأقلية هي في القلة العددية، لا أبعاد ثقافية أو اجتماعية لها، بل مصطلح يدل على عدد معين من البشر يمثلون أقلية أقل من عدد الغالبية من البشر أو الأكثرية في ذلك المجتمع. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حضارتنا العربية الإسلامية لم تستعمل مصطلح الأقلية بل مصطلح نظام الملل والنحل، بحيث تشير كلمة الملة إلى مجموعة لها خصوصية دينية معينة بينما تشير كلمة النحله إلى عرق أو قوم. ويشير الأمر في كلتا الحالتين إلى مجموعة من البشر لها هوية مختلفة عن هوية المجتمع الواسع التي تجد نفسها فيه. كما ولا بد من الإشارة إلى أن مصطلح العرق بيولوجي في الأصل، ولكنه ومع تطور الزمن، أخذ أبعاداً ودلالات اثنية أو ثقافية أو اجتماعية.

أما من الناحية التاريخية فقد أصبحت مسألة الأقليات أو المكونات أو المجموعات البشرية مشكلة مع بدايات النهضة الأوروبية الغربية الحديثة على مدى القرون الخمسة الماضية، وقيام الدولة القوم (Nation State) في أعقاب الحروب الدينية الطاحنة التي انتهت مع صلح وستفاليا 1648. ففي اسبانيا وفي إيطاليا مثلاً قامت الدولة بالتأكيد على قوم أو عرق واحد يلغة قومية وتاريخ معين منفرد واحد والانتماء الديني إلى مذهب ديني واحد والقضاء الجسدي أحياناً على تابعي أي مذهب أو ديني آخر حيث قامت محاكم التفتيش في إسبانيا في طرد أو القضاء على الإسلام واليهودية أما في فرنسا فقد تم القضاء على الهوجينوت البروتستانت وهم مسيحيون لكن من مذهب يختلف عن الكاثوليكية في ما أصبح يعرف بمذبحة سان بارسولوميو سنة 1572. وفي بلجيكا مثلاً أخذت كل من الاثنية الوالونية والفلمنكية حيزاً جغرافياً مختلفاً في البلاد رغم أن معظم الاثنيتين تدين بالكاثوليكية، وحيث كان توازن أو شبه توازن ما بين الكاثوليك والبروتستانت كما الحال في ألمانيا فقد انفرد الكاثوليك بالجزء الجنوبي من البلاد بينما يقطن معظم الغالبية من البروتستانت في شمالها.

منذ نشأتها لم تعرف الحضارة الأوروبية التعددية الاثنية والدينية التي هي سمة من أرقى وأهم سمات الحضارة العربية الإسلامية، بل كانت، كما لا زالت اليوم، أحادية الهوية والبعد الإنساني ما يفسر إلى حد كبير حيرة بلدان هذه الحضارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ف يالتعامل الإنساني مع الوافدين إلى شواطئها في بلدان الشرق الأوسط وافريقيا وعلى الرغم من أن بعض بلدانهم كألمانيا وفرنسا كانت تشجع هجرة العمال إليها في هذه البلدان بعيد الحرب العالمية الثانية. صحيح أنهم طوروا نظاماً سياسياً ديمقراطياً ولكنها ديمقراطية ذات بعد لثقافة ومجموعة إنسانية معينة يصعب عليها حتى اليوم استيعاب أقوام وأديان وثقافات مختلفة.

دعيت مؤخراً للمشاركة في مؤتمر عقد في بيروت بعنوان «لبنان وطن الحوار والحضارات» قامت بالدعوة إليه مؤسسة «اللقاء المشرقي» وحضره ما يقارب المئة مشارك من مختلف قارات العالم ليسلط الضوء على مسألة العيش المشترك بين الثقافات عامة وكيفية الحفاظ على التعددية الدينية والاثنية في بلدان المشرق العربي وبالذات الوجود المسيحي فيه.

أشرت في محاضرتي إلى مؤتمر لبنان وطن الحوار والحضارات أنه بإمكان حضارتنا العربية الإسلامية أن تقدم الحل لمشكلة القوميات والأديان والمكونات الاجتماعية التي تقلق بال معظم مجتمعات الأرض، وتولد العنف والتطرف، والتي لا يكاد مجتمع يخلو منها لا في قارة آسيا ولا افريقيا ولا الأمريكيتين واستراليا. فكيف التوفيق ما بين رغبة المكونات الاجتماعية من ملل ونحل في الانماء إلى هوية فرعية تميزها وتفسح لها المجال إن تدير بنفسها شؤون أحوالها الشخصية، وتحافظ على لغتها وتراثها الروحي والاجتماعي ولباسها وحتى طعامها وشرابها، ولكنها بنفس الوقت يكون ولائها السياسي لدولتها؟

مثل هذه المساحة التي أفسحتها حضارة المشرق العربي عبر القرون مروراً بالإمبراطورية العثمانية التي ما انهارت عام 1917 إلا واحتوت 18 ملة معترف بها تمارس شؤونها الداخلية وتحافظ على تراثها كاملاً دون تدخل يذكر من الدولة. ليس من قبيل الصرف مثلاً أن لبنان اليوم بثماني عشرة ملة بينما نجد مثل هذه الملل والنحل في كل من العراق وسوريا وفلسطين والأردن.

أتابع ما يجري اللحظة في لبنان من مظاهرات ومسيرات وشغب، حيث يبدو وكأن الشارع قد صهر الملل والنحل هناك وقفز فوق نظام المحاصصة، أو كما نسميه في الأردن الكوتا إلى الدمج الكامل لمكونات الشعب. صحيح أن هناك اتفاقا ما بين جميع مكونات هذا المجتمع ضد الفساد والرشوة والمحسوبية والترهل، لا بل هلهلة الدولة ولكن هذا الاتفاق غير موجه ضد النظام السياسي الاجتماعي بكامله بمقدار ما هو موجه ضد النخبة السياسية التي تقود لبنان لا من لحظة اتفاق الطائف بل وحتى منذ عام 1943، نفس العائلات وأحياناً حتى نفس الأشخاص كنبيه برّى رئيس حركة أمل الشيعية ما زالوا في مقاعد الحكم.

هذه الثورة العارمة ليست ضد نظام الملل والنحل الذي سمح بالحفاظ على التعددية التي هي سنة الله في الطبيعة والكون، والثورة هي ضد قيادات لا تزال تقبع على صدور هذه المكونات الاجتماعية والروحية وفسادها وسيطرتها على ذهن وموارد الدولة. هي ثورة ضد الفساد الذي حوّل النظام من نظام إنساني إلى نظام طائفي منغلق على نفسه يجتر نفس الأفكار ويعمل على عزل الطائفة عن غيرها.

نظام الملل والنحل يفسح مكاناً معيناً لكل مكون اجتماعي تم إساءة استعماله في لبنان بسبب عدم ارتكازه إلى قواعد قانونية ودستورية تسرع ضرورة تحديد مدد زمنية لانتخاب قيادات داخل كل مكون. لا شك بأنه نظام معقد ولكنه مريح للدولة من جهة، وللمكون الاجتماعي من جهة أخرى إذ يحافظ على التعددية وحق الاختلاف ويريح الدولة من الإدارة الداخلية لكل مكون.

لا أدري كيف اكتسب نظام الاقتسام والمحاصصة الصفات التي ينعت بها اليوم. إذ في إعطاء كل إنسان حصته في المجتمع محاولة للعدل، المشكلة إذن ليست في المحاصصة وإنما في إساءة استعمال هذا المفهوم مما قاد إلى ما قاد إليه من أمور اليوم.

المشكلة الحقيقية التي يعاني منها لبنان كما كثير من دول المشرق العربي تكمن في التالي: أولاً غياب دولة القانون والمؤسسات، ثانياً الزيادة السكانية التي تعاني منها بلداننا والتي تأكل أخضر ويابس جميع جهود التنمية. ثالثاً غياب التخطيط مما يعني الارتجالية في تدبر شؤون البلاد وكذا استمرار الحيرة والتخبط الأمر الذي يعني لنا في الأردن ضرورة العودة بسرعة إلى الاعتماد على خطط تنموية مدروسة حيث من الواضح أن الوعظ والإرشاد غير مجدٍ.

لم نحكم أنفسنا لفترة طويلة، ربما منذ أن قام الخليفة العباسي المعتصم بالله بإدخال العنصر التركي إلى منظومة الحكم، وحتى قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي الذي كان أول عربي على مدى قرون يطالب بإنصاف العرب وإعطائهم الحق بأن يحكموا أنفسهم. على مر الزمن نسينا فن الحكم والإدارة الأمر الذي يفسر إلى حد كبير حال الحيرة والضياع والبحث عن الذات التي هي السمة الطاغية لجميع المجتمعات العربية اليوم.

دون دراسة أو تفكير معمق حاولنا تقليد الغرب، فقامت مصر سنة 1923 بترجمة الدستور البلجيكي وعدلت بعض مواده واعتمدته دستور المجتمع المصري، الأمر الذي نقلته فيما بعد العراق وسوريا والأردن مع بعض التعديلات.

لم يقم أحد بمحاولة لدراسة وهل يصلح مثل هذا الدستور لمجتمع معقد التركيبة كالمجتمع المصري أو المجتمعات الأعقد تركيبة في بلدان الهلال الخصيب بقبائلها ونحلها ومللها ولغاتها وتراثها الذي لا علاقة له أبداً بالمجتمع الغربي البلجيكي أو الألماني أو الفرنسي الأحادي البعد.

بالطبع نريد الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والمواطنة ودولة القانون ولكن لا بد لهذه المفاهيم جميعها أن تأخذ بعين الحسبان التعددية الاجتماعية والاثنية والدينية التي تعود جذورها إلى قرون سحيقة في التاريخ سبقت حتى قيام الأدييان في بلداننا، بالإضافة إلى الديمقراطية نرغب في الحفاظ على حق الاختلاف والتعددية. لا بد أن يكون الولاء السياسي والتابعية للدولة: إلى الأردن، لبنان، العراق، سوريا أو فلسطين أما ما يتعلق برغبة المكون الاجتماعي السني، الشيعي، الدرزي، البهائي أو اليزيدي أو الصابئي أو الكاكاني أو المسيحي أو الأرثوذكسي أو الكاثوليكي أو البروتستانتي الحفاظ على تراث اجتماعي فأمر لا بد من اتساع المجال له.

وهكذا علينا أن نتساءل إذا كان بالإمكان التخلي عن كل هذا النظام الاجتماعي الغائر في نفوسنا دفعة واحدة ونستبدله بالنظام الغربي وكأن الأمر مجرد خلع قميص وارتداء آخر.

جاء نور الإسلام بأسس روحية اجتماعية جديدة ولكنه وبحكمة إلهية اعترف بحق الاختلاف، ففي الحديث النبوي الشريف حكمة ما بعدها حكمة حينما يقول «اختلاف أمتي رحمة» فإذا ما كان هذا حال الأئمة فلم نمنعه عن الخلق. والاختلاف في الطبيعة واضح لا جدال فيه فالقانون الإلهي كما القانون الطبيعي يؤكدان على الاختلاف الذي لا بد للبشر في قوننته ودسترته لمنع إساءة استعماله كما حدث في لبنان والعراق.

جميع المجتمعات البشرية، بما في ذلك مجتمعاتنا العربية تعاني من نضال مكوناتها المجتمعية للحفاظ على حقها في الاختلاف ورفض الدمج الكلي لها. والحل موجود في حضارتنا العربية الإسلامية، وأتمنى على سمو الأمير غازي بن محمد، كبير مستشاري جلالة الملك عبدالله الثاني للشؤون الدينية والثقافية ورئيس مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي أن يتفضل بدعوة من يراه مناسباً من العلماء والفقهاء ورجال الدين والمشرعين، للعمل على بلورة مشروع قانون يجمع ما بين مفاهيم الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان ويفسح بنفس الوقت للاختلاف الاجتماعي والإثني والديني لجميع مكونات المجتمع من الحرية للتأكيد على هويتها الفرعية دون المساس بحقوق الآخرين، على أن تقوم الأردن بتبنيه لدى هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها لتعميمه على العالم فيما بعد. وتاريخ الأردن في عهد الملك عبدالله الثاني اعترف بهذا الموضوع، ورسالة عمان، وكلمة سواء، وأسبوع الوئام، خير دليل على مكانة الأردن المتقدمة والمرموقة في هذا المضمار.

(الدستور)