موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٨ أغسطس / آب ٢٠١٦
الرهبان اللبنانيون الموارنة ينتخبون رئيساً.. فهل سيتعظ السياسيون؟

فادي الأحمر – المسيرة :

في الثاني عشر من الشهر الجاري يجتمعون. يدخلون الكنيسة. يصلّون. يتأملون. يستلهمون "الروح". ينشدون بصوت واحد، أمام مذبح واحد، مبتهلين الى "الرب الواحد". في هذا اليوم يجتمع ثلاثمائة وعشرون راهباً ينتمون الى رهبانية لبنانية مارونية عمرها ثلاثمائة وعشرون عاماً لانتخاب رئيس وأربعة مدبرين.

إنه اليوم الوحيد الذي تفرغ فيه الأديرة من الرهبان. الأديرة التي فتحت أبوابها منذ مئات السنين لكل طالب خدمة روحية او حاجة اجتماعية. في هذا اليوم تغلق الابواب. ويتحلّق الرهبان حول المذبح. يترأس اجتماعهم الأب العام الحالي. ويناديهم أمين عام المجمع العام بأسمائهم. يتقدّمون الى "الاختيار" بحسب تراتبية عمرها من عمر الرهبانية. ينحني الراهب أمام القربان المقدّس. يتوجّه الى المذبح. يأخذ قصاصة ورق ممهورة بخاتم أمانة السرّ العامّة. هنا لا وجود للوائح جاهزة. إذ لا ترشّح للمنصب. فكل راهب يختار "من يراه الأكفأ والأنسب للوظيفة – الخدمة المنتخَب لها" (بحسب ما أتى في قوانين الرهبانية). ولا نيّة لتعطيل الانتخاب. فخدمة الرهبانية تطغى على المصالح الفردية. والالتزام الرهباني يتقدّم على الميول الشخصية، الموجودة بحكم الطبيعة البشرية.

من يشارك في انتخابات السلطة العامّة في الرهبانية اللبنانية المارونية؟ وكيف تتم عملية الانتخاب؟

بحسب القوانين الرهبانية، التي صاغها المجمع العام في العام 2002 وصدّقها الفاتيكان في العام 2012، "تتألف الهيئة الانتخابية من جميع أبناء الرهبانية ذوي النذور المؤبّدة" (مادة 216، بند 2). في الماضي كان تشكيل الهيئة مختلفاً. بحسب قانون الرهبانية الأول، الذي يعود الى العام 1738، كانت الهيئة الانتخابية تتألف من أفراد السلطة العامة ورؤساء الأديار ومندوب واحد ينتخبه رهبان الدير لتمثيلهم في جلسة الانتخاب وفي المجمع العام الذي يسبقها. بعد مئتي عام، صاغ الرهبان قانوناً جديداً حدّد مندوباً واحداً لكل خمسة رهبان عضواً في الهيئة الانتخابية. قانون العام 1960 ثبّت هذه الصيغة. ولكن الرهبانية لم تبق على "قانون الستين" كما هو حاصل في الانتخابات النيابية اللبنانية. فقد وضعت قانون 1974 الذي بقي قيد التجربة وكان الانتخاب فيه بواسطة "المناديب" باستثناء الانتخابات التي جرت عام 1986 بـ"الاقتراع المباشر السرّي". فكانت تجربة ناجحة ثبّتها الرهبان في قانون العام 2002 وخطوة إلى الامام في الديموقراطية تؤكّد على الشفافية في الانتخاب.

وماذا عن العملية الانتخابية؟

تنعقد الجلسة الانتخابية مباشرة بعد المجمع العام الذي يُعقد في نهاية الولاية ويضم، إضافة الى أفراد السلطة العامّة، رؤساء الاديار القانونية والمندوبين المنتخبين. في هذا المجمع يناقش الرهبان إدارة السلطة التي انتهت ولايتها بهدف تطوير الحياة الرهبانية والخدمة الراعوية والمؤسسات التربوية والزراعية لما فيه مصلحة الكنيسة والمجتمع. ينعقد المجمع على مدى ثلاثة ايام. يجري النقاش بحرّية مسؤولة وطاعة روحية. وفي اليوم الرابع ينضم الى الرهبان المجمعيين باقي الرهبان الذين يشكّلون الهيئة الانتخابية. ينادي أمين عام المجمع كل راهب بمفرده ابتداء من الأب العام وصولاً الى أصغر راهب بحسب نذوره المؤبّدة في الرهبانية. القانون الرهباني واضح في شرعية الجلسة. "يُفترض، لصحّة الانتخاب، حضور ثلثي أعضاء الهيئة الانتخابية وإلا اعتبر الانتخاب باطلاً ولاغياً" (المادة 220، بند 5). ولكن هذا الشرط لا يستعمل لتعطيل الجلسة. إذ إن حضور الجلسة مؤمّن من خلال الالتزام بالنذور الرهبانية وروح المسؤولية لدى الرهبان. رغم ذلك يحدّد القانون إلزامية الحضور. "وإذا تغيّب أحد عن الانتخاب، …، يحقّ لمجمع الرئاسة العامة أن يعاقبه…" (المادة 220، بند 1). في المرحلة الأولى ينتخب الرهبان الأب العام. يليها انتخاب المدبّرين العامّين الأربعة الذين يعاونون الأب العام في إدارة الرهبانية. يحترم الرهبان حتى اليوم الانتماء المناطقي في اختيار السلطة العامّة الذي ورثوه عمّن سبقوهم، ليس من باب الانغلاق الجغرافي إنما من منطلق الحفاظ على الأعراف والتقاليد في مؤسسة تجاوز عمرها الثلاثة قرون. ففي الماضي كانت السلطة العامة تتألف من أب عام واربعة مدبّرين من خمسة مناطق جغرافية بحسب التقسيم الكنسي: الشمال وجبيل وكسروان والمتن والشوف، تسمى مقاطعة. وكان المدبّر العام اشبه بـ"وزير" للأب العام في المقاطعة الرهبانية لصعوبة المواصلات والتواصل.

ربما يتساءل البعض لماذا نكتب عن انتخابات رهبانية؟ وربما يقول البعض، لماذا الغوص في تفاصيل انتخابات من المفترض ان تبقى داخل "حصن الدير"؟ وعلى هذه الأسئلة اجابات أربع:

أولاً، نكتب عن هذه الانتخابات لأن للرهبانية اللبنانية المارونية بعدها الروحي والاجتماعي والوطني في الماضي والحاضر والمستقبل. فهي الرهبانية التي أعطت قديسين، أبرزهم "شربل". هؤلاء غيّروا وجه لبنان الروحي والثقافي والحضاري ووضعوه على الخارطة الدينية العالمية، وليس فقط المسيحية الكاثوليكية. كما غيّروا حياة العديد من المسيحيين وغير المسيحيين. وهي الرهبانية التي تقف الى جانب مجتمعها. وخلال مجاعة الحرب الكونية الاولى وضعت أملاكها رهنية لدى الحكومة الفرنسية لإطعام الجائعين. وهي الرهبانية التي قدّمت أراضيها لإيواء اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة في العام 1948. وفتحت اديرتها في بداية الحرب اللبنانية لاستقبال النازحين والهاربين من الموت الذي كان يعمّ الجغرافيا اللبنانية…

ثانياً، لأن للرهبانية مؤسّسات تربوية وزراعية واقتصادية… رائدة في المجتمع اللبناني. صحيح ان جامعتها في الكسليك هي الأبرز كونها واحدة من أهم الجامعات اللبنانية. ولكن النشاط التربوي للرهبانية لم يبدأ معها ولا ينحصر فيها. هذا النشاط يعود الى "مدرسة تحت السنديانة" حيث كان الراهب يعلّم الأولاد أصول الكتابة والقراءة. واستمر في مدرسة سيدة مشموشة في الجنوب، ومدرسة مار مارون المعوش في الشوف، ومدرسة المتين في أعالي المتن… حتى المدرسة المركزية في جونيه. لم ينحصر نشاط الراهب التعليمي في القراءة والكتابة، إنما تعداه الى الزراعة والحِرف… لذلك أطلق عليه الناس تسمية "معَلمي".

ثالثاً، نكتب عن الانتخابات الرهبانية لأن لهذه الرهبانية دوراً كبيراً في الانتشار اللبناني الذي يسعى السياسيون اليوم جاهدين للتواصل معه. فالرهبان اللبنانيون كانوا أوّل من شعر بأهمية الانتشار اللبناني وضرورة الحفاظ على العلاقة معه. لم يكتفوا بالخطابات والوعظ. إنما ذهبوا الى المغتربات ليعيشوا مع المغتربين صعوبات الغربة ويتقاسموا معهم لقمة العيش الفقيرة كما فعل الرهبان الذين أسّسوا أوّل رسالة للرهبانية في جزيرة قبرص مع الهاربين من المجازر في منتصف القرن التاسع عشر. على مدى قرن ونصف القرن اصبح للرهبانية حضور في بلدان القارات الخمس حيث الانتشار اللبناني الماروني. أديرتها ملتقى للبنانيين. كنائسها قاعات صلاة. احتفالاتها طريقة للحفاظ على العادات والتقاليد اللبنانية. مدارسها صروح لتعلّم اللغة العربية الأم…

رابعاً وأخيراً نكتب عن انتخابات الرهبانية اللبنانية المارونية لأنها شعاع نور يلمع في عتمة العُقم الانتخابي اللبناني الذي انتج فراغاً رئاسياً وتمديداً نيابياً وتعطيلاً سياسياً يتهدّد الكيان. فهل يتّعظ السياسيون من الرهبان، الذي سينتخبون بعد أيام سلطة عامّة جديدة تكمل مسيرة تجاوز عمرها الثلاثمائة عام، وينتخبون رئيساً للدولة يترأس احتفالات الجمهورية بمئويتها الأولى؟!