موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ١٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
الحضارة والواقع والمصير المجهول

نبيل جميل سليمان - فانكوفر :

تلوح لنا تارة هموم الحياة وتباشيرها مثقلة بالمجهول، وتارة أخرى حافلة بالوعود : مجهول ووعود . . . تستدعي منا طاقات الذهن والإبداع لقراءة "المستقبل"، الذي هو مودع لعناية الله. فليس من الهيّن لنا قراءة المستقبل، والفكرة التي نحملها عنه مرهونة بعيش اللحظة الحاضرة المبنية على الماضي، التاريخ، الذي هو مدرسة الحياة. وعندئذ نستلهم حاضرنا من خبرة ماضينا فنكوّن في أعماقنا نظرة نحو المستقبل.

ترى أيحق لنا نحن الشباب، أن نحمل في الأذهان نظرة مهزوزة للحياة وصورة قاتمة للمستقبل . . . وما زلنا في أول الدرب أو أواسطه لمن تخطى العقد الثالث أو الرابع .. !؟ هذا السؤال طرحته على نفسي، وتساءلت به عن غايتنا في الحياة ومكاننا في الوجود، وذلك في بعض ساعات الوحدة والإنفراد .. والأسترسال مع التفكير .. والإستغراق في التأملات، دون أن نتبين ملامح فجر ينفح جيل شبابنا أملاً، الذي بات يمتلك صورة محزنة يملأها العجز في تحقيق الأماني .. والفشل في الظفر بنجاح عن مكافحة الشر المستفيض وتقويض الفوضى الغالبة. لذا كانت مني هذه الوقفة التأملية والمحاولة الذاتية للخروج من هذا الواقع المرير والمأزق العصيب لـ "إشكالات إنساننا" المعاصر وما آلت إليه ظروف حياته من بطالة وضياع، تغرب وضجر، يأس وحيرة، تخلف وفشل، ...إنعكست على سلوكيته النفسية والأخلاقية والأجتماعية والثقافية والدينية.

* البعد الحضاري .. تأثيراته وإنعكاساته :

البعد الحضاري، قد يكون ثقلاً، إن غلبت عليه عقلية قديمة لا تصلح والحالة الجديدة التي برزت في مجتمعنا اليوم. الذي شهد القلق، والدهشة، والشك، والأعتراض الكثير على أكثر من صعيد ... من هنا فإن نظرتنا إلى "الحياة" و "المستقبل" قد تنطوي على شئ من التشاؤم ولو نسبياً ... لربما بحكم كوننا أبناء شعب متأثر طبيعياً وحضارياً بعقلية بلاد ما بين النهرين "المتشائمة" إجمالاً .. !!

حيث نرى بأن سكان هذه البلاد يعيشون في واد "فيضاناته" غير متوقعة وقد تؤدي أحياناً إلى "طوفانات". وإن "آلهة" هذه البلاد متقلبوا المزاج، وفي صراع دائم فيما بينهم. فيبدو الإنسان بشراً مرعوباً أمامهم، أورثوه الموت وجبلوه بالكذب، لذا يحاول أن يحتمي من ردود فعل غضبهم. تشهد عليها آثار ونصوص الملاحم والأساطير الكبرى : كلكامش، أتراحاسيس، أنوماأليش، ... التي تحدثنا عن عقلية بلاد ما بين النهرين، بعكس ما نراه مثلاً في العقلية المصرية "المتفائلة". لأن الإنسان المصري يعيش في منطقة نيّرة، وإن شعر بشئ من القلق عند رؤيته الشمس تغيب في المساء فقد علمه الأختبار إنها تعود فتطلع كل صباح، منتصرة على قوات الليل. لذا فأن المصري يؤمن بأن بعد الموت هناك حياة جديدة ساطعة تنتظره، وإن كانت هذه الحياة غير "شخصية". من هنا نستطيع أن نبين ونقارن إلى أي حد "يتأثر" تفكير وعقلية الإنسان، بجغرافية وطبيعة و ( ... ) بلاده. فيمكننا القول، والحالة هذه، بأن تأثير وإنعكاس هذه "العقلية" لا زال فينا بحكم ما نشاهده اليوم وما تعيشه منطقتنا ومنذ زمن طويل من إضطرابات ونزاعات، ويلات وحروب، ... دون أمل كبير في إستقرار قريب ... !

* الواقع .. بين حضارة الموت وحضارة الحياة :

نعيش الآن، في فترة زمنية سوف يذكرها التاريخ، ولكن لأي مدى ستكون هذه الذكرى إيجابية ام سلبية .. !؟ ليس هذا مجال تشاؤم إن قلنا بأنها ذكرى لـ "حضارة الموت" .. حضارة تتصدى للحياة ذاتها ولقيمتها، في مواجهة مستمرة لـ "حضارة الحياة" .. حضارة المحبة والتضامن وحق الإنسان في التطلع إلى حياة أرضى وأثرى وفي عيش إنساني كريم. إنها كرامة الإنسان، عليها ترتكز حقيقة الحياة البشرية كلها. بحيث ينبغي الأعتراف بهذه الكرامة الإنسانية الرفيعة والعمل على تعزيزها، وأحترام الحياة ومحبتها كأثمن عطية وعلة وجود. بأن يعمل الجميع على أرتقائها الدائم، أفراداً ومجتمعات، سواء على الصعيد الشخصي والعائلي أو على مستوى الدولة والبشرية ... وبذلك تسير البشرية هكذا نحو بنيان "حضارة الحياة"، وألا حصل خلل كبير لابد أن يعكر العيش وتوازن المجتمعات، وإلى أزمات شتى ... فالإنسان لم يخلق للموت بل للحياة، وما طلب الموت إلا رد فعل نفس قلقة تحت وطأة الأهوال، وهذا حقاً ما يؤسف له عندما نشهد اليوم كسوف قيمة الحياة وما يحمل معه حتماً كسوفاً في معنى الإنسان، وإنحرافاً في مفهوم كرامته وحريته، وإهتزازاً في الكثير من القيم المتعارف عليها أو غيابها تماماً عند البعض، كالأمانة والصدق والأخلاص والمحبة والخدمة، وحل محلها الأنانية والجشع والقتل والطائفية والحسد والأحتيال والإستغلال، ... وكثيراً ما نقف مشدوهين أمام هذا الدمار متسائلين : كم تدنت الأخلاق وذهبت القيم وسحقت المبادئ وفقد الكثير منا صدقه وحبه ومسامحته ونزاهته وأخلاصه، وحتى أخلاقه ...

* المستقبل .. والمصير المجهول :

ألسنا بحاجة اليوم أكثر من الأمس إلى كشف سر كلكامش ومفتاح صرح شخصيته، فنصرخ معه : "أين الطريق ..؟ دلّيني كيف أتجه إليه ..؟ فأذا أمكنني الوصول إليه فإنني حتى البحار سأعبرها، وإذا تعذر الوصول، فسأهيم على وجهي في الصحاري" ( ملحمة كلكامش ). ولكن اليوم : إلى أين نحن سائرون ؟ ماذا نريد، وما يجب أن نكون ..؟ هل لنا وضوح رؤية وأمل، بل هل لنا خطة عمل ..؟ ما هو المستقبل، وماذا نرجو منه .. !؟

المستقبل : كلمة غامضة، مضببة، تحتوي على معاني وإحتمالات لا حصر لها. فمن منا لم يتوقف حيال المستقبل حائراً، أو أقله مفكراً ..؟ من منا لايخشى المستقبل، أو يواجهه بلا خوف وإرتباك ..؟ إذن، الأمر ليس هيناً في مواجهة المستقبل، لأن – وهكذا يبدو – لا قرار لنا في غمار "معمعة الحياة" المربكة التي نعيشها اليوم. وسط تحديات عالم يريد بشتى الوسائل خنق الحياة، بل القضاء عليها، بعد إستعبادنا بألف وسيلة مغرية. فالواقع الصعب والوضع المتأزم والتحديات الكثيرة ... كانت وراء "إشكالات إنساننا" اليوم، وفي مقدمتها : إشكال فكري وحضاري، التخلي عن العلم وإحتقار الثقافة، تأزم في فهم الحريات والديمقراطية وممارستها، أزمة فقدان الهوية والضياع، الإنقياد المادي، بطالة وتغرب، ثم اللجوء إلى الهجرة كحل أسلم... والنتيجة : معاناة كبيرة ومصير مجهول ...!

وختاماً .. فهل نقوى على المواجهة ..؟ وهل "نصنع" حياتنا و "نحقق" مستقبلنا دون وجل وضياع، وبشكل يضعنا على عتبات حياة مستقبيلة فيها من الوضوح والإستقرار، أمان وسلام، حرية وعدالة، دعوة ورسالة ..!؟ فنحن نريد أن تكون لنا دعوة في الحياة، فمن لا دعوة له لا كرامة له، ومن لا كرامة له لا حياة له ... فالإنسان يجب أن يعي كرامته وحريته، وبالتالي أن يعرف بأن حياته أسمى قيمة، ونعمة، ومبتغى. فما قيمتنا إن لم تكن حياتنا رسالة وشهادة ؟ وما معنى أن نكون، إن لم نبحث عن ذاتنا، عن صيغة لوجودنا، عن موقع لنا في وطننا والعالم.. ؟ علينا أن نعمل من أجل إيجاد صيغة حضارية للعيش الكريم ... أن نعمل جماعياً بتضامن وإنسجام وإنفتاح، دون أنانيات وإنفراد وتعصب لتكريس أستراتيجية شاملة في خدمة البشرية ... بضمير مستنير ومجهود أخلاقي مشترك، من شأن ذلك أن يخدم إنساننا لئلا يتحول إلى إنسان مستهلَك ومستهلِك. إنها "دعوة" نحو صنع حياتنا وتحقيق مستقبلنا بمنظور جديد يهدف إلى بناء "حضارة المحبة" لخير المجتمع البشري كله.