موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٨ مايو / أيار ٢٠١٣
التفكير الديني وفقه المعرفة

عبدالحسين شعبان - الخليج :

يمكن القول إن التفكير الإسلامي المعاصر إزاء علاقة الدين بالدولة مرّ بمراحل أربع أساسية، ضمّنها د . رضوان السيد في بحثه المقدّم إلى ندوة مركز دراسات الوحدة العربية المنعقدة في تونس في 10 - 14/10/2012 وقد وجدت نفسي أقف على الأرضية ذاتها متواصلاً ومتفاعلاً معها بقراءة تلك العلاقة من منظور نهضوي أقرب إلى الفقه الاجتهادي، مقارناً ذلك بواقع الحال الذي تفصله هوّة سحيقة بين الفكر والواقع وبين النظرية والممارسة، وهو ما تناولته في كتابي “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة” .

ولكنّ ركوداً وانكماشاً لدرجة السبات أعقبا حركة النهضة العربية وفكر التنوير الإسلامي، الأمر الذي جعل الفجوة تتسع بين فقه التفكير وفقه الواقع، بما فيه من تعارض وخصومة شديدة أحياناً، لا سيّما في التطبيق والممارسة، بفعل سيادة الأفكار التقليدية والمحافظة، التي شكّلت كابحاً كبيراً لتطوير نمط التفكير الإسلامي وتوجهاته وأساليبه .

وخلال القرن العشرين كلّه، وباستثناءات محدودة، كان التفكير الإسلامي ينطلق من علوم ومسلّمات فترة الجمود تلك التي عفا عليها الزمن، وقد صحّت تسميتها بالفترة المظلمة، بل إن مستوى التفكير عاد القهقرى إلى أبعد من ذلك لدرجة لا يمكن مقارنته بما وصل إليه الفقه الإسلامي من تطور في القرن الثالث الهجري، على الرغم من القرون الأحد عشر التي تفصلنا عنه، إلى أن جاءت الثورات العربية، فأحدثت نوعاً من الرجّة الجديدة في مستوى التفكير الإسلامي وفي الحركية الإسلامية في الوقت نفسه، حيث اندفع الجميع إلى اللعب على المكشوف، بمن فيهم بعض الجماعات التي حاولت الجلوس على كرسيين، فتارة مع المحافظين والمتشددين، وأخرى مع فكرة الدولة المدنية وقبول آليات الديمقراطية، لكن المناقشة بدأت تخترق الحواجز وتنتقل من الأوكار السرية والغرف المغلقة والجوامع، إلى الساحات والجامعات وقبب البرلمان والإعلام، لتناقش علاقة الدين بالدولة، في ظل العولمة .

المراحل الأربع للتفكير الإسلامي قبل الثورات العربية يمكن تلخيصها كما ورد ذكرها هي:

أ- المرحلة الأولى- مرحلة رفاعه الطهطاوي، وكتابه الشهير “تلخيص الأبريز في تلخيص باريز”، وخير الدين التونسي وكتابه الشهير “أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك” . وإذا كان الأول قد ركّز على المصالح العمومية، فإن الثاني ركّز على المؤسسات .

ب - أما المرحلة الثانية فهي تمتد من جمال الدين الأفغاني “وفكرة الجامعة الإسلامية” ومحمد عبده (مفتي مصر) الذي تحدّث عن الإصلاح وفكرة السّنن البانية أو الهادمة، ومجابهة التقليد بفتح باب الاجتهاد، استناداً إلى القرآن الكريم، وتصل هذه المرحلة في ذروتها إلى علي عبد الرازق وكتابه الذي ذاع صيته وجرت محاولات لتكفيره بسببه وهو “الإسلام وأصول الحكم” الصادر في فترة قريبة من تأسيس حركة الإخوان المسلمين في العام 1928 في مقاربة مع فكرة الدولة الحديثة ومؤسساتها .

ج- وكانت المرحلة الثالثة مرحلة محمد رشيد رضا صاحب “مجلة المنار”، ولعلّ من المفيد هنا التوقف عند الشيخ محمد حسين النائيني وكتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملّة”، وصدر في فترة لصيقة بما حصل من تأثّر بالفكر الغربي تحت باب الصراع بين “المشروطة” و”المستبدّة”، العام 1906 أي بين الحركة الدستورية، وبين الملكية المطلقة، وهي الحركة التي انقسم فيها رجال الدين في إيران والعراق بين مؤيد للفريق الأول ومندّد بالفريق الثاني والعكس صحيح . وكان الجدل قد ازداد احتداماً بعد الحركة الدستورية في الدولة العثمانية العام ،1908 وصدور الدستور العثماني المتأثر بعدد من القواعد الدستورية التي وجدت طريقها إلى الفضاء العام في الغرب، لا سيما بعض مبادئ الثرة الفرنسية .

د- والمرحلة الرابعة هي التي تبدأ من مطلع الخمسينات، وتستمر إلى قيام الثورات العربية ووصول الإسلام السياسي إلى مقاليد السلطة عبر صندوق الاقتراع .

اتّسمت هذه المرحلة بملامح أطلق عليها د . رضوان السيد “الصحوة الإسلامية”، حيث كان حسن البنا هو من قال: الإسلام دين ودنيا ومصحف وسيف، وعلى خطاه قال سيد قطب: “الدين في الدولة هو حكم في الأرض” وذلك في كتابه “معالم في الطريق” . وإذا صحّ هذا القول على مصر، فأظنّه لا ينطبق على بلدان أخرى، الاّ إذا اعتبرنا الثمانينات تأسيساً جديداً لانبعاث تيار إسلامي واسع بعد الثورة الإيرانية، العام ،1979 لا سيّما في العراق ولبنان وفلسطين والخليج، وكذلك في المغرب العربي، وهو انبعاث عالمي وليس محلياً، كما أنه لا يتعلق بالإسلام السياسي فحسب، بل بمجمل الأديان والحركات الدينية، المسيحية واليهودية وغيرها، حيث انتعش لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وكان للكنيسة دور بارز في ذلك، وكذلك تعاظم نفوذ حركات مسيحية في أوروبا، فضلاً عن حركات دينية ومذهبية في إفريقيا وآسيا، بعضها شهد حروباً ونزاعات وأعمال عنف .

يحاول التيار الإسلامي اليوم بعد أن وضع الشريعة محل الأمة، تكييف أفكاره لتقبّل الديمقراطية ويعتبرها آليات أو ميكانيزمات، وبعضه تكتيكات يمكن الوصول بواسطتها إلى السلطة، وذلك بحكم المستجدّات والمتغيّرات على المستوى العالمي، ولكن الديمقراطية تستوجب وجود قوانين ومؤسسات ومساءلات، وتقوم على الإيمان، بفكرة التداولية والانتقال السلمي للسلطة، إضافة إلى مبادئ المساواة واحترام حقوق الانسان .

إن الفقه الديني الإسلامي بشقيه السني والشيعي بمقاربته مع علم سسيولوجيا المعرفة سيكون حاضراً خارج موضوع الوصول إلى السلطة، أما بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، فالأمر شيء آخر، حيث سيكون خارج التنظير تحت عناوين الضرورات وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية، وهي التجربة ذاتها التي عرفتها الأحزاب الشمولية سواءً الماركسية أو القومية، مهما ادّعت أنها تريد التساوق مع الديمقراطية والدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم، لكنّها كلها جميعاً اتّجهت إلى الاستبدادية والديكتاتورية والفردية، سواء الأنظمة الاشتراكية السابقة أو طبعتها لما سمي “بلدان التحرر الوطني” .

وحتى لو حقّقت تلك التجارب بعض النجاحات وشيئاً من التنمية، لكنها بعد حين وصلت إلى طريق مسدود بغياب الديمقراطية، سواء بلدان الأصل أو بلدان الفرع (مثلها مثل التجربة الناصرية والبومدينية واليمن الجنوبية والقذافية والبعثية العراقية والسورية) وغيرها، وهو المآل الذي ستصل إليه أية تجارب شمولية كلية أو جزئية .

هناك فواصل كبيرة وحواجز عالية بين التطور في مستوى تفكير بعض المفكّرين الإسلاميين، مثل محمد مهدي شمس الدين الذي تحدث عن “ولاية الأمة” وسليم العوا وطارق البشري ومحمد حسين فضل الله وراشد الغنوشي، الذين أعلنوا بدرجات متفاوتة عن قبول حكم الشعب والامتثال إلى الديمقراطية، وبين الحزبية الحركية المؤثرة في السواد الأعظم من الإسلاميين التي لا تزال تنظر إلى بعض ما جرى مجرد جسر للوصول للسلطة ليس الاّ، حتى وإن اضطرّ إلى تقديم تنازلات وتعامل بشكل براغماتي مع الواقع، بل وخفّض بعض مطالبه .

وإذا كان القانون وضعياً ومصادره متنوّعة دينية وفلسفية وسياسية، فهذه كلّها مصادر قيمية، في حين أن له جانباً إجرائياً، أي قواعد ناظمة ومحددة للسلوك وضعها برلمان عبر انتخابات حرّة ونزيهة وبموجب قضاء مستقل كضمانات للقانون الوضعي . أما الدين فإنه يمرّ عبر فضاءات الإيمان وهي علاقة خاصة بين الإنسان والسماء، في حين أن الحياة العامة والدولة أو السلطة والسياسة، تختلف كثيراً عن ذلك، خصوصاً بالموقف من الحقوق والحريات، وهي المنظومة الدستورية التي تعرفها الدولة العصرية .

إن سسيولوجيا المعرفة للتفكير الديني تحتاج اليوم، وبعد الثورات العربية، إلى اختبار حقيقي جديد وتدقيق لمدى التزام الإسلاميين بها مثل غيرهم، وأظن أن المرحلة المقبلة ستشهد صراعاً ليس بين الإسلاميين والعلمانيين فحسب، بل بين إسلاميين معتدلين وإسلاميين متطرفين ومتعصبين، وقد يتطور فريق منهم ليقبل بالدولة المدنية حتى إن كان مكرهاً، مثلما هو في تركيا، وفريق آخر يواصل مشواره الماضوي، بل يرتّد على الحاضر، بحجة الأصول، وسيكون ثمن هذا الصدام باهظاً، وإذا كان الأمر يتفاعل على نحو سريع وفي ظل كيمياء خاصة في كل بلد، فإن انتظار ما ستؤول إليه تجربة مصر بحكم ثقلها ودورها التاريخي، سيكون عاملاً مؤثراً في عموم دول المنطقة، بل وفي آسيا وإفريقيا أيضاً .