موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٤
البطريرك ساكو يوجه رسالة إلى المسلمين: الصمت لا يليق بكم

البطريرك روفائيل الأول ساكو :

وجه البطريرك لويس ساكو، بطريرك بابل للكلدان، وذلك خلال مشاركته في أعمال المؤتمر الذي نظمه مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، في العاصمة النمساوية فيينا، تحت شعار: "معاً ضد العنف باسم الدين دعما للتنوع اللديني والاثقافي في العراق وسوريا".

وفيما يلي النص الكامل للرسالة:

الى الاخوة والاخوات المسلمين في كل مكان،
أحييكم بسلام الاخوة الانسانيّة وما نؤمن به من قيم مشتركة وبعد،

حرصًا مني بألا تكون مأساتنا مجرد تحصيل حاصل؛ وانسجامًا مع تطلعات الكثيرين بأن نعمل لئلا نرزح جميعا تحت مسؤولية جعلها طيّ النسيان؛ وبثقة وطيدة أن الشعوب تصنع الحياة وتوجه الرأي العام لاحترام تطلعاتها؛ أتوجه الى اعتدال شريحة كبيرة من المسلمين في سائر بقاع الارض؛ أخاطبكم بصراحة، حاملا بكفيّ خارطة دامية لشرقنا ولعراقنا الجريح، وهو اليوم، كما كان عبر عصور، محط انتباه العالم، ولكن في منعطف تاريخي غير مسبوق ولا يشرّف مسبّبيه.

أودّ بهذا أن أعبر لكم عن مدى ألمي وألم اخوتي المسيحيين امام محنتنا، ولأناشد ضمائركم ليعمل كل منكم، أي شيء لتحرير بلدات مسيحيينا التي قطنوا فيها منذ عصور ولاسترجاع املاكهم وحقوقهم. أتوجه إليكم من هذا المنطلق، ليقيني أن رسالة الحض على الاصلاح، هي رسالتكم انتم الغالبية المعتدلة. ولست بعيدًا عن الواقع، إذ اؤكد لحضراتكم أن للحلّ الجذري أن يأتي منكم، فهو من الداخل وليس من الخارج.

لعلّكم بحسكم الإنساني انصدمتم معي أمام العمل البربري الذي تسارع في الموصل وبلدات سهل نينوى بشأن المسيحيين والأيزيديين والاقليات الاخرى، وكيف أرعِبوا واقتلِعوا في ليلة ليلاء من بيوتهم واجتـثوا من ارضهم وأرض أجدادهم دون ان يتمكنوا من حمل شيء معهم مواجهين منذئذ وحتى الآن المجهول المظلم.

ولما كانت تجمعنا مثل إنسانية، لا بدّ من الاشارة الى أن ثمة شريعة عليا، محفورة في قلب كل انسان، تفرض نفسها مع كل أب يحمل بين ذراعيه طفله الرضيع، وكل إنسان يلقى إنسانًا آخر يتعذّب أو يحدق به خطر. هذه الشريعة تسمى محبة القريب او الجار، وخصوصا الأضعف والأصغر.

ومن ثم فإن الجرائم التي اقترفتها داعش (الدولة الاسلامية في العراق والشام) والتي اعتبرها قانونية وشرعية في الواقع انها تتنافى مع القواعد الاخلاقية والانسانية.

لقد دمرت بيوت عبادة من مختلف المذاهب والاديان وكانت جسامة الإثم وهي تطال انتهاك حرمة الكنائس والأديرة مخجلة خصوصاً باستهدافها مكونًا أعزل؛ من دور العبادة تلك ما يعود الى القرون الاولى، وبحقد مغولي أحرقت كتبها ومخطوطاتها وسائر محتوياتها، أو بيعت، وحوّل بعضها الى جوامع.

إن الجبين البشري يندى، أمام تشريع سبي النسوة، وبيعهن في سوق النخاسة بسعر بخيس وكأنهن "خردة". أليس هذا هو الشر في أبشع اوجهه وهو يذكرنا بالوحش الكاسر الذي يشير اليه سفر الرؤيا (فصل 13).

إن هذه الأفعال، جعلت الجهة التي ارتكبتها في عداد المنظمات والايديولوجيات التي ستبقى وصمة عار في التاريخ البشري الى جانب النازية وأيديولوجيات سياسية شمولية أخرى. وإن التاريخ لن يرحم الفاعلين، مخططين ومنفذين، لما ينذر باختفاء المسيحين من منطقة كانوا من اوائل سكانها الأصلاء.

ولكن خلافا للنازية وسواها من ايديولوجيات قاتلة في القرن العشرين، فإن داعش تدّعي الانتماء إلى ديانة. هذه هي الصعقة التي نشكّ في حسن نيات المقللين من شأنها، عندما تم استهداف مسيحيينا ويزيديينا وسائر المكونات المذهبية والطائفية باسم الدين الاسلامي، أجل باسمه، ولئن تحاشى الكثيرون أن يصدقوا.

ويمعن الخجل أمام اكتفاء المجتمع الرسمي الاسلامي، ببيانات استنكار خجولة تكشفت كتعبير عن العجز في التحرك الفاعل لتبصير الجماهير بالخطر القادم تجاه ما ستقترفه داعش باسم الاسلام.

وإلا كيف يمكن الوقوف المتفرج امام جرائم قتل وقمع وتهجير لأشخاص أبرياء، تمعن في إذلال الإنسانية جمعاء؟ أي عصر هذا يدير الظهر للقيم، تمتهن فيه كرامة الانسان والمرأة في المقدمة، وتكون قيمة الحياة في الحضيض؛ كل هذا باسم دين تحمله غالبية مسالمة. اننا والاقليات مستهدفون دونما حماية او رعاية ويتم تهديد ابنائنا وخطفهم والسطو على بيوتهم او نهبها وسلبها علانيّة وكأن ذلك حلال. فهل من ذروة في الاثم غير هذه: عائلاتنا كانت تعيش في بيوت خاصة بها بعز وكرامة، ها هيذي اليوم تعيش مشردة في عدة بلدات وقرى تحت الخيم او في كرافانات او في غرف أعارتها لها الكنيسة مجانا. الامراض اخذت تتفشى، والمهجرون يعيشون في قلق نفسي رهيب.

هذه مناشدة وجدانية في سبيل تعاملكم المسؤول مع واقع عدم وجود اهتمام يذكر من قبل الدولة، ناهيك عن عدم التحرّك الجدّي للمجتمع الدولي لتحرير الموصل وبلدات سهل نينوى وتمكين الناس من العودة الى بيوتهم، وبما يشير بالبنان إلى المهمة المطلوبة لتعرية ينابيع اقليمية ودولية، تتدخل بنحو محسوب يضمن بقاء الخلايا القاتلة. إننا نودعكم قلقنا بقدر حرصنا على اعتدالكم؛ فلسنا فقط قلقون أمام ضعف الامل بعودة قريبة الى بلداتنا، مما يدفع الناس، والحال هذا، الى الهجرة الى اي مكان يوفر لهم الامان؛ ولسنا فقط قلقون أننا قد نبقى قطعة في ذاكرة التاريخ تستدرّ عطف اليونيسكو للحفاظ على ذكراها للتاريخ وحسب؟

بل إننا في خضم هذا القلق، ندعوكم الى الاضطلاع بمسؤولية التفكير بمأساتنا والضغط كل من جهته لعمل شيء لتحصين الأمن والاستقرار لتتواصل الحياة الطبيعية للمواطنين وليتقدم البلد بنا جميعا.

وإن منطلق مسؤوليتكم المشتركة تجاهنا، هو الحذر كل الحذر، ان تنامي الغلو الديني والتكفيري الظلامي خطر علينا وعليكم! لا تنسوا ان المسيحيين اصيلون في هذه الارض وانهم ساهموا كثيرا في الثقافة العربية. فنهيب بالعرب اليوم ان يخرجوا بموقف مشترك ضد التطرّف، في تحالف نحو حلّ سلمي يعتمد اسم التحالف العربي، لينفض الغبار عن أي مسؤولية تجاه هذه النكبة بحق الإنسانية وتستهدف مبادئكم الدينية. فالتطرف في كل مكان، ولا مناص من اعتماد الاعتدال والوسطية ورفض الفكر التكفيري الظلامي والارهاب باسم الدين، ومقاومته.

نناديكم أن ترفدوا بالمزيد من المدد نخوة علماء الدين، ليهبّوا هبّة رجل واحد، فيتعملقوا بالردّ على مقولات داعش ودحض حججها الفقهية وشجب ممارساتها الشنيعة، والاعلان بصوت واحد أن فكرها آفة انسانية.

وننتخي، في هذا المقام، المؤسسات التعليمية في نشر ثقافة منفتحة ومعتدلة تحترم التنوع وتقدم صورة موضوعية عن الاخر المختلف تتميز بالاحترام وتؤمن بالمساواة للجميع والعيش بحرية وكرامة.

إن الصمت لا يليق بكم لان داعش واخرين سيوجهون مزيدا من الضربات التشويهية إلى الإسلام. حرام ان تفسحوا المجال امامهم فيتصور الناس ان الإسلام مصدر خطر على السلام العالمي. ثقتنا كبيرة بانكم ستتحركون قبل فوات الاوان لئلا يضرب تسونامي جديد المنطقة فلا يبقى ولا يذر.

إننا نتطلع الى اليوم الذي فيه يحرم المسلمون رسميا وعمليا، الاعتداء على كل انسان بريء مسلما كان او مسيحيا، مؤمنا او غير مؤمن، فالمجازاة والعقاب بيد الله وحده.