موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٧ أغسطس / آب ٢٠١٥
البطريرك ساكو يكتب: خارطة كنيسة الكلدان اليوم، متطلباتها وتداعياتها

البطريرك الكلداني لويس روفائيل ساكو :

في هذه المرحلة من التاريخ، سواء في حياة المسيحيين عموما، أو في حياة مسيحيي كنيسة الكلدان، فإني كأب وراعٍ لهذه الكنيسة المجيدة، وددت أن ألقي الضوء على ملامح من خارطتها اليوم، بما في ذلك متطلباتها وتداعياتها. لعل أسطر هذا المقال، تجيب عن بعض التساؤلات الحاضرة بشأن كنيستنا، من منظار شعب رجاء وشهداء، مع ابقاء الباب مفتوحا امام ما توحيه من نقاط تسترعي الانتباه الاهتمام.

مؤمنو الكنيسة كانوا، قبل نصف قرن، يتمركزون عمومًا في العراق وطنهم الام وفي جنوب تركيا وفي البلدات الإيرانية المتاخمة للحدود العراقية. كما يوجد أعداد بسيطة في كل من سوريا ولبنان ومصر.

اما اليوم ولأسباب عديدة ومتشابكة: اقتصادية وأمنية واجتماعية، انتشر الكلدان في العديد من بلدان العالم، حالهم حال اخوتهم الاشوريين والسريان والارمن...

حاليا، وعلى وجه التقريب، فإن نصف الكلدان هم في الخارج: في الولايات المتحدة الامريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا وفي القارة الأوروبية يتوزعون على بلدان كفرنسا، المانيا، هولندا، بلجيكا، السويد، الدانمارك، النرويج، إنكلترا واليونان.
ولا غرو انه في السابق، كانت هناك سلاسة أو سهولة في ادارتهم والاهتمام بهم راعويا؛ ولا نقلل هنا من التحديات التي واجهت البطريركية من قبل، بسبب ظروف الحروب المحلية والجيوسياسية المتكررة. ذلك أنهم كانوا متجمعين في قرى سهل نينوى: تلكيف وباطنايا وباقوفا، وتللسقف والقوش وكرمليس وقرى العقرة ودهوك والعمادية وزاخو ومدن الموصل واربيل وكركوك وبغداد والبصرة واعداد متواضعة في العمارة والحلة... لقد كانوا في المحصلة النهائية كتلةً ذات بأس على رقعة الكرسي البطريركي، مقارنة بحجم التمركز في بلدان الانتشار، وكان فيها مساع نسبية للرعاة المحليين للتواصل، بقدر الإمكان مع مقر الكرسي البطريركي.

جانب من التداعيات والمتطلبات

للكنيسة الكلدانية اليوم 175 كاهنا بأعمار متفاوتة مع تباين في التنشئة والثقافة. وهذا بحد ذاته يطرح على المحك، مسألة توزيعهم بحيث يكون الشخص المناسب للمكان المناسب... الى جانب هذا افتقدت الكنيسة الكلدانية وجود الرهبان الكلدان بالحجم المعتبر الذي كان بالأمس، مع ما يعمله مرض الهجرة وهو ينخر جسمهم الرهباني. أما الرهبانيّات العالميّة على مستوى الكنيسة الجامعة، والتي كانت تقدم خدماتها للكنيسة في العراق، فإن وجودها أيضًا بات محدودًا، بسبب عزلة البلد. والمتبقون منهم من أهل البلاد، بعد رحيل الأجانب، لم يسلم عدد منهم من التأثر بإفرازات الظروف المحلية المنغلقة، والملقية بظلالها على الطبيعة البشرية، مما لا يبتعد عن الصعوبات التي واجهتها بنحو او بآخر الرهبانية الكلدانية المحلية. كل هذا لا يقارن بذلك الرعيل السابق من الكهنة والرهبان ذوي الصوت النبوي والاشراقة الروحية، ممن غادروا باستشهاد او قضوا برائحة الفضيلة.

أما الكنائس الكلدانية في بلدان الاغتراب، وبعضها غدا أبرشية، فإنها تعتمد معظمها على الاكليروس العراقي. يستثنى من ذلك ابرشيتانا الكلدانيتان في ديترويت وساندييكو اللتان قدمتا انموذجا مثاليا مشرقا عندما أخذتا تعتمدان على اكليروس كلداني مولود في أمريكا.

مقابل هذا، فإن الدعوات الكهنوتية والرهبانية، تشهد تنازلا ملحوظا، بسبب الهجرة والثقافة الجديدة وحالة عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي وعدم استقطاب الشباب لنموذج الكاهن والراهب المتأثر بالوضع القائم وحالة الإحباط التي افرزتها الحروب والنزوح؛ إلى جانب ما تشهده من هذا التنازل، نظرا لاستشراء العلمنة على حساب الحس الانجيلي والايماني.

مشكلة الهجرة

إن ما شخصناه، مرارا، على المنابر المحلية والعالمية، قلما وجد، للأسف، آذانا مصغية، بشأن انتهاك الحريات وتهديد وتهجير وخطف الأقليات وبخاصة المسيحيين مما دفعهم الى نزيف الهجرة. ان استغلال الدين وتسيسه والطائفية القائمة على الكراهية والغاء الآخر وعدم اللجوء الى التنور في تفسير الكتب الدينية، والتنشئة المنفتحة عمق مأساة المسيحيين وبما يفضح الكثير من النوايا لكل من قبلوا بهذا الحال محليا وعالميا. وهكذا نجد المئات من عائلاتنا تنتظر في الأردن ولبنان وتركيا تنشد لم الشمل في بلدان الانتشار وتعيش أوضاعا قاسية يتفطر لها القلب.

مسألة الطقوس الكنسية

ولما كنا بصدد نظرة مجملة لواقع الكنيسة وتحدياتها لا بد لنا من الانتقال الى موضوع آخر يضع ايضا على المحك، خصوصيتنا الكنسية والطقسية.

إن طقوسنا كانت بالسريانية الشرقية وبعضها ترجم الى العربية والى السريانية المحكية ( سورث). أما اليوم فإن الغالبية لا تفهم هذه اللغة، ليس فقط من المؤمنين، لكن لا يملك ناصيتها العديد من الكهنة ممن يمارسون الصلوات الليتورجية باللغة الطقسية الأصلية. المؤمنون بحاجة لا فقط الى ترجمة الطقوس ترجمة حرفية، بل الى التأوين والتجديد لتتلاءم مع ثقافتهم الجديدة وحساسياتهم وواقعهم. فنحن بحاجة الى طقس مفهوم بالعربية والإنكليزية والكوردية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية والهولندية والفلامكنية.... الخ. وهذا ليس سهلا فمعظم طقوسنا تعود الى القرن السابع واعدت لمجتمع زراعي ولا تتماشى مع ثقافة المجتمع الجديد وعقليته وتنوعه. المهم ان نساعد مؤمنينا على الصلاة وليس على أداء طقوس غير مفهومة ولا تشدهم وتغني روحيتهم. الطقوس من اجل الانسان وليس العكس كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم.

مشكلة التنشئة

واذا أشرنا الى واقع حال اكليروسنا، يطفو على السطح ايضا التساؤل الاتي: كيف يا ترى ننشيء كهنة ورهبانا وراهبات في مواجهة هذا التنوع؟ بأي الإمكانيات وبأي الكادر... تساؤل يحمل في طياته المزيد من التحدي، أمام اختلاف الاسلوب نسبيا بين اعداد كاهن للعراق، فهذا شيء، أما اعداده لامريكا وأستراليا وأوروبا فذلك شيء آخر. من المؤسف ان بعض كهنتنا لم يتعبوا نفسهم بتعلم لغة البلد الذي يخدمون فيه ولم يثقفوا أنفسهم بما فيه الكفاية، بل يمارسون مع مؤمنيهم نفس الأسلوب القديم الذي كانوا يمارسونه أيام زمان في بلداتهم في العراق. وهذا غير ناجع! من المؤسف القول اننا بحاجة أكثر الى تنشئة روحية ولاهوتية وراعوية تختلف عما تنشئنا له. في معاهدنا الكهنوتية نفتقر الى رؤية وخط وخطة. حاولت أيام كنت مديرا للمعهد إيجاد مؤسسة رهبانية لأدارته، لكن رؤسائي لم يقتنعوا بذلك. نحن بحاجة الى مؤسسة وفي ظروفنا الحالية المتردية هذا غير ممكن تحقيقه.

أزمة الحدود البطريركية

في السابق، كان الكلدان كلهم مرتبطين مباشرة بسلطة البطريركية بسبب الحدود الجغرافية للكتلة الديموغرافية المتواجدة فيما يسمى بالرقعة البطريركية. أما اليوم، ولكون الكلدان في بلدان الانتشار قد تشكلوا في خورنات وابرشيات، انهم يخضعون في العديد من الأمور لسلطة روما مباشرة.

وهنا لا أخفي على القارئ الكريم، أن هذا المقال ليس المنبر الوحيد الذي أوكد من خلاله، ان هذا القانون قديم وغير مقبول وينبغي ان يتغير... كما ليس سابقة في التنبيه والإنذار، إذ لست، من بين الأحبار، أول من شخصه، آخرهم كان مطران بعلبك في بحر التسعينيات في صرخته بهذا الشأن خلال سينودس اساقفة آسيا. كما ان أحد أسلافي، البطريرك يوسف اودو قام بالتصدي الشجاع والرسولي لهذه الظاهرة، بدون الخلط بين التمسك بالعقيدة الايمانية وأولوية خليفة بطرس، وبين تجاوزات هذا الشخص أو ذاك من الدوائر الرومانية. وهنا لابد ان نميّز بين الكرسي الرسولي ودولة الفاتيكان!

وقد طلبنا نحن البطاركة الكاثوليك من قداسة البابا اعادة النظر في كل هذه القوانين التي عفا عليها الزمن. لكن التغير في الفاتيكان يأخذ وقتا طويلا بسبب البيروقراطية التي في مرات عديدة وُجد أنها تعرقل القرارات المهمة المتعلقة بترتيب أوضاعنا الداخلية.

المشكلة المالية

العديد من هذه الجماعات ليس لها كنيسة ولا بيت للكاهن والجماعة القادمة حديثا والكثير منها تعيش على مساعدات الدولة لا تتمكن من بناء او شراء كنيسة والبطريركية الكلدانية في ظروف العراق الحالية قد وضعت في أولوياتها مساعدة العائلات المهجرة ولا تتمكن من تقديم مساعدة لهذه الجماعات.

البطريركية، والحال هذا، لا تقدر ان تلبي طلبات هذه الجماعات واحتياجاتها. فما هو يا ترى مصيرها؟ لا بد من واقعية المواجهة، إذا استمر الحال بالنحو المعروف، فإن مصيرهم عاجلا ام اجلا هو الاندماج والانصهار في هذه المجتمعات والبلدان. وعليه فإن امام الكنيسة الكلدانية أولوية الحفاظ على وجودها في العراق لتواصل ذاكرتها ورسالتها وتحافظ على إرثها الكنسي المشرقي، بما يجعل من كنيسة العراق أن تصبح لأبنائها في بلاد الاغتراب، منهلا روحيا وانسانيا... كما هو الشأن في لبنان، ما لم يجرّ الى مخططات أخرى أقل ما يقال فيها أنها مخططات سيئة النية.

هذه المشاكل المتراكمة حاول المؤتمر الكلداني العام سنة 1995 في زمن مثلث الرحمات البطريرك مار روفائيل الأول بيداويذ معالجتها، الا انه أجهض وبقي على الورق. واليوم نظرا للظروف غير المستقرة والاحداث المتسارعة لا يمكن عقد كذا مؤتمر.

مع هذا وبروح الرجاء فيمن له تكرسنا انا واخوتي الأساقفة لن نترك الأمور على عواهنها، بل أننا نواجه التحديات بالقيم الانجيلية الراسخة في دعوتنا الكهنوتية، ومن ثم فإن التماسك مع الابرشيات الاخرى، للعمل على المسار عينه، هو مسألة بقاء، ومسألة ثبات الى المنتهى، تلك هي وصية ربنا له المجد، وبه الخلاص.