موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٥ سبتمبر / أيلول ٢٠١٤
البطريرك ساكو يكتب: "إلى مسيحيي العراق الممتحنين"

البطريرك لويس روفائيل الأول ساكو :

وسط المحنة التي تعيشونها اليوم، أدعوكم أن تقرأوا الماضي والحاضر قراءة جديدة معمّقة تماماً كما فعل المسيحيون الأوائل الذين منهم تسلمتم وديعة الإيمان، كما تسلموها هم بمشاعر الفرح والشركة الأخويّة من الرسل (1 كورنثوس 11/23). انطلاقاً من هنا، الأحداث التي نعيشها تتخذ معنى جديداً، فلا نجعل يسوع يؤنبنا بنفس العبارات التي أنبّ بها رسله على قلّة إيمانهم إبان العاصفة: "ما لكم خائفين يا قليلي الإيمان" (متى 8/26). لنكنْ على يقين من أن الرب لن يتركنا نغرق كما لم يترك تلاميذه يغرقون. هذا ما نجده مؤكداً في قوله: "هاءانذا معكم طوال الايام" (28/20).

نقرأ في انجيل يوحنا: "ولكنّ المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلّمكم جميع الأشياء ويُذكركم جميع ما قلته لكم. قلت لكم هذه الأشياء لئلا تعثروا. سيفصلونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظنّ فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة" (15/26، 16/1-3).

أمام هذا التأمل اللاهوتي الذي يعكس "شهادة رسوليّة"، قد نصطدم بصعوبة عباراته ودقتها. قراءة سطحيّة لا تكفي حتى نفهم بعدها العميق فتحرّك قلوبنا، بل ينبغي أن نذهب الى أبعد، ونقرأ بالروح عينه الذي شهد له يوحنا لكي يتسنى لنا أن نكتشف فاعليّة بلاغات الإنجيل في حياتنا الراهنة، حتى نبلغ إلى سرّ القائم من بين الاموات، "الحيّ" العامل في الكنيسة وفي العالم، و"النور" الذي يقود خُطانا. هو مستقبلنا وهو أرض ميعادنا الحقيقية، علينا أن نتحد به. على المسيحيين العراقيين أن يبقوا أمناء مثل آبائهم لهذا الإيمان، فيلمع في عيونهم ويغمر قلوبهم ويغير أفكارهم، فيتمسكوا بأرضهم التي ليست مجرد تراب، بل هي مع من عليها، علاقة وهوّية ولغة وعادات وتقاليد وتاريخ وذاكرة وأصالة. الأرض مقدسة!.

لا ننسى أن يوحنا كتب هذه الكلمات ستين عاماً بعد موت يسوع وقيامته، بعدما كانت المسيحية قد انتشرت في أنحاء عديدة من العالم، وتكوّنت جماعات صغيرة تعيش إيمانها في أحداث الحياة اليومية. المشاكل كانت أيضاً قد ظهرت، وأخذت تهدد استقرار هذه الجماعات المسيحية الصغيرة وتسعى لتفكيكها. اليوم ما نعيشه في كنائسنا مشابه لما كان في الأمس، ولو بطرق مختلفة! لقد بقينا جماعات صغيرة في هذا البلد؟ لكننا صامدون وأقوياء! ورسالتنا هي البلد كلّه وأمامنا أفق واسع لنحمل إنجيل الفرح والرجاء إلى إخوتنا. لذا أتساءل كيف يمكن أن يُصرّح بعض رجال الدين أن لا مستقبل لنا في العراق؟.

يوحنا، مثل بولس بشَّر بنهاية العالم وعودة وشيكة للسيد المسيح. وكثير من المؤمنين سمعوا أقوالهما وباعوا ما لهم منتظرين هذه العودة" (راجع أعمال الرسل). يوحنا يشرح أهمية انتظار مجيء المسيح عن طريق الروح القدس. هذا الروح الحاضر في الجماعة يساعدها على سماع كلمة الله المتجددة وعيشها في تفاصيل الحياة اليومية. الله حاضر، لكنه غير منظور، والمؤمن المتأمل وحده يُمكنه رؤية "عمل المسيح" الناهض من بين الأموات بنعمة الروح القدس: ولهذا ينبغي أن يبقى نظره مسمراً على يسوع متذكراً دوماً "كلامه" ببعده الشخصي الخاصّ وبطابعه الإلزامي المطلق.

أسلوب يوحنا الأدبي يستند عموماً إلى هذا "الذهاب والإياب" بين الماضي والمستقبل. كلماته المتطلبة ضرورية لكي نصل واقعياً إلى أن يأتي إلينا، خصوصاً في ضيقنا الحالي. على المسيحيين أن يعيشوا مثل يسوع: علاقة وثيقة مع الله ومع أناس هذا العالم. فهم بالتالي يحتاجون إلى "الروح البارقليط المدافع والمعزي" لخلق هذا التوازن بوضوح وقوّة!.

منذ أيام يوحنا، حياة المؤمنين ليست سهلة، فهم يواجهون باستمرار تحدّيات وصعوبات تفرزها الظروف، يجب فهمها على ضوء الإيمان، ومواجهتها بشجاعة وثقة. على المسيحيين تحمل مسؤولياتهم تجاه الحياة وتجاه المستقبل على ضوء قراءتهم الكتاب المقدس بواقعية، فيملأ قلوبهم بهجة كما الخبز الساخن الخارج تواً من فرن الخبّاز!.

الإيمان يساعدنا وسط العنف والظلم الذي نعيشه على التأمل في قدرة الحبّ على فهم "السرّ" والأمور العميقة وتخطي المحنة، عندها ينمو إيماننا ونتغير وكالسراج يُضيء ظلام ليلنا الحزين ويفرحنا! الإيمان خلاّق ومتجدد ومفاجئ بالرغم من فقرنا وطردنا ظلماً من بلداتنا وبيوتنا. إنه يساعدنا على أن نتحرر من ماضينا ومخاوفنا ومنطقنا البشري ليُعيدنا إلى "منطق الله" الذي يُعدّنا لاستقبال "مستقبلنا" "قوّة الربّ التي أقامت الرب يسوع ستقيمنا نحن أيضاً" (1 كورنثوس 6/14).

بركة الرب تشملكم جميعاً