موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١ مارس / آذار ٢٠١٩
البطريرك ساكو يدعو في ختام مؤتمر كاريتاس الدولي لترسيخ قيم المواطنة

بيروت - أبونا :

في ختام أعمال مؤتمر كاريتاس الدولي المنعقد في دير سيدة الجبل بلبنان، ألقى البطريرك الكلداني الكاردينال لويس روفائيل ساكو الكلمة الرئيسة في الجلسة الختامية التي جاءت تحت عنوان: "رسالة ودور المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، أكد فيها ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على الوجود المسيحي، وعلى العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، من خلال ترسيخ قيم المواطنة الكاملة.

محنة المسيحيين الحالية

وحول أسباب محنة المسيحيين الحالية في المنطقة، قال البطريرك ساكو: "إن الوضع الحالي للمسيحيين في الشرق صعب، ويبدو أن وجودهم التاريخي مهدد، ان لم يتغير شيء إيجابي على أرض الواقع. فما يعيشه المسيحيون اليوم من مضايقات واضطهادات، ليس إلا نتيجة إفرازات الماضي بسبب تشظي المكون المسيحي من جهة، وظهور الفكر الإسلامي المتشدد والحروب المتكررة التي خلقتها سياسات الدول الكبرى من جهة ثانية".

وأضاف: "تاريخيًا، ومنذ بداية القرن الماضي، لم يأت الاستعمار بمشروع سياسي، يؤسس دولة المواطنة والقانون والعدالة والمساواة، ولم يأخذ بنظر الاعتبار عدم تجانس شعوب المنطقة، ثقافيًا ودينيًا وإثنيًا، فشكّل حكومات على مزاجه، قابلة أن تنفجر في أي وقت. على سبيل المثال لا الحصر، عشنا في العراق حروبًا متتالية: حرب الخليج الأولى (1980–1988) بين العراق وايران، ذات المليون شهيد، وحرب الخليج الثانية عام 1990، وما خلّفته من مآسٍ، و13 سنة من الحصار الاقتصادي، ثم سقوط النظام عام 2003 تحت شعار ما يسمى "بالفوضى الخلاقة" واعتماد الطائفية، والمحاصصة في إدارة الدولة، وتردّي الجانب الأمني والاقتصادي، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وتهجير المسيحيين من الموصل وبلدات سهل نينوى. كل هذه العوامل أدت إلى تناقص أعداد المسيحيين الذي كان نحو مليون ونصف، قبل عدة سنوات من سقوط النظام، أما اليوم فيكاد يصل الى نصف المليون".

وتابع: "السبب الآخر هو التطرف الديني الذي مورس ضد المسيحيين إبان سقوط الإمبراطورية العثمانية في "سفر برلك". وتَجدّدَ اليوم مع تنظيمي القاعدة وداعش (الإسلام السياسي). ونخشى ظهور "نسخة" جديدة لداعش بسبب تفشي البطالة والفقر والبؤس والأمية وتدهور الخدمات والفساد في مفاصل الدولة". ولفت إلى وجود سبب آخر "سبب آخر لتراجع وضعنا، ألا وهو تفككنا كمسيحيين، وانكفاؤنا على ذاتنا ككنائس وإثنيّات، وعيشنا في قلق وخوف، واللجوء إلى الهجرة، والظن أن الغرب يحمينا. لكن تبيّن من خلال الخبرة، أن الغرب لا يحمي إلا مصالحه. وبأن ما يروّجونه في الاعلام عن الحرية والديمقراطية، مجرد شعارات".

وقال البطريرك ساكو: "نحن الآن ’ضحية‘ السياسات الخارجية التي تبحث عن تجارة الأسلحة واستغلال مصادر بلادنا الطبيعية كالنفط مثلاً، وتخلق صراعات وحروبًا من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية، بعيدًا عن أية اعتبارات لقيم حقوق الانسان وكرامته. هذا ما اختبرناه في العراق ولربما أيضًا موجود في لبنان وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا وأماكن أخرى. وعليه، فإننا اليوم في منعطف دقيق وخطير، بسبب إستمرار بؤر التوتر في المنطقة؛ والفكر الديني المتشدد (إرهاب) الذي يؤثر سلبًا على ممارسة التسامح والعيش المشترك؛ الأزمات الاقتصادية؛ وضعف بناء مؤسسات الدولة تأسيسًا سليمًا. كل هذه الأسباب تؤثر على وجود المسيحيين وحضورهم".

وشدد على أهمية "التفكير بطرق جديدة، واتخاذ خطوات شجاعة وملموسة على أرض الواقع، تعمل على الحفاظ على الوجود المسيحي، وعلى عيشنا المشترك وتاريخنا معًا كمسيحيين ومسلمين، من خلال ترسيخ قيم المواطنة الكاملة والحاضنة للتنوع، والعدالة والمساواة والاحترام، وتعزيز منظومة التسامح والتضامن، وضمان شراكة حقيقية لجميع المكونات في العملية السياسية على قاعدة الكفاءة، وليس على أساس الانتماء القبلي والطائفي، وتفكيك التشدّد والشحن الطائفي والفرقة والخلاف والعنف. فهذا هو أملنا الوحيد لبناء مجتمع اكثر سلامًا"، معربًا عن أمله في أن يكون "لتوقيع البابا فرنسيس على وثيقة الأخوّة الانسانيّة مع شيخ الأزهر أحمد الطيب "تأثيرًا إيجابيًا على تجفيف التطرف، من أجل المضي قدمًا في الحوار حول الأخوّة الإنسانية والسلام والاستقرار".

آفاق المستقبل

وحول آفاق المستقبل، قال البطريرك ساكو:

المسيحيون اليوم، بحاجة إلى تجاوز حاجز الأقلية والخوف والاتكالية، وتوحيد الصف بإرادة واحدة، لبلورة رؤية واضحة لبقائهم في بلدانهم وتواصلهم فيما بينهم ككنائس، وتعميق الثقة وتعزيز حضورهم وشهادتهم في هذا الشرق الذي هو مهد المسيحية، فمن دون مسيحييّ الشرق، تفقد المسيحية جذورها. لذا بات بروز رؤية مسيحية مشرقية موحدة، ضرورة مصيرية، لها استراتيجية وآلية تفعيل على أرض الواقع. كما يجب أن نعرف ما هي نظرتنا لأنفسنا، وماذا نريد أن نحققه مع الآخرين. لربما مفيدٌ أن تتشكّل من كوادر علمانية مقتدرة مؤمنة بالحوار الشجاع والبناء ما يمكن أن يعدّ حالة طوارئ، ومن ثم "خلية أزمة" للنهوض بالمهام التالية:

1. القيام بحملة تعبوية لإحياء الحوار المسيحي المسيحي، على مبادئ الانجيل ومتطلبات الحاضر، وبالتالي تنشيط التنشئة والتربية المسكونية، وتنمية العلاقات والشراكة مع الكنائس الكاثوليكية (الفاتيكان) والأرثوذكسية والإنجيلية منها. ومن المفيد أن تشهد الساحة المسيحية تناميًا ملحوظًا في تطور العلاقات والتعاون لمواجهة كل هذه التحديات، وكذلك الشركة مع مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط، والمؤسسات المسيحية في العالم مثل منظمة كاريتاس الدولية، وعون الكنيسة المتألمة، الخ. لعل ثمة ضرورة أخرى، ألا وهي قيام الجهات ذات العلاقة على مستوى مسيحييّ الشرق الأوسط بالعمل بشكل جدّي على توحيد تاريخ الاحتفال بعيد الفصح كخطوة إيجابية في هذا الاتجاه.

2. تعزيز الحوار المسيحي الإسلامي الصادق والجريء، لمواجهة التطرف والإرهاب، حقنًا للدماء من خلال نشر ثقافة الحرية، والعقل، واحترام الاختلاف، وإشاعة قيَم التسامح، والاعتراف بالآخر وقبوله وإحترام حقوقه، بغض النظر عن انتمائه الديني والمذهبي الايديولوجي والإثني والجندر، وتوطيد ثقافة السلام والاستقرار. وهذا يتطلب أيضاً العمل على تقاسم السلطة والمطالبة بتغيير الدساتير والمناهج والقوانين القديمة والمستهلكة، كما في قانون الاحوال الشخصية. إننا نحتاج الى بناء دولة مدنية تحمي الكل وتحترم الديانات كافة في إطار قاسم مشترك من الحقوق والواجبات. وهنا اودّ أن انوّه بأن للآيات والاحاديث في كل الديانات أسبابها وظروفها، التي لا بد من أن تؤخذ بعين الاعتبار، فبعضها يبطل العمل به بعد أن تزول ظروفه ومبرراته، وبعضها كان علاجاً لحالات معينة، في ذلك الزمان.

3. تنشيط لاهوت الرجاء لدى المهجّرين والمهاجرين المسيحيين، فالظلم عابر، وخلق مساحة مشتركة للسلام، والطمأنينة والاستقرار وفرح البقاء والشهادة. المسيحيون حاملوا رسالة. وهنا أنوّه بدور الكنيسة الريادي في إحتضان أبنائها والدفاع عنهم، والقيام بالتعبئة من خلال عمل راعوي ملائم لوضعنا، واسهام أوقافنا الكنسية في خلق مشاريع للشباب الذين يعانون من البطالة والفقر، كتوفير السكن ودعم الدراسة. فثراء الأوقاف الكنسية جاء من سخاء الشعب المؤمن، وعليه فمن الخطيئة تزامنه مع جوع وحاجة شرائح كبيرة من هذا الشعب المؤمن. وبهذا الصدد أيضاً، لابدّ لمجتمعنا من نقلة نوعية سبقنا إليها الغرب المسيحي بأشواط، وهي أن نشجع استثمار العنصر النسوي ومواهبه في خدمة الكنيسة والمجتمع.

وأضاف: "أعتقد أننا بمجملنا بحاجة إلى مراجعة تفكيرنا ورؤيتنا ونمط عملنا. فالكنائس هي لخدمة الناس، لاسيما الفقراء كما يدعو الانجيل، ويؤكد البابا فرنسيس ذلك مرارًا وتكرارًا. ومن أجل هذا ينبغي العمل الجدي مع كافة الفرقاء المعنيين محليًا وعالميًا لإيجاد بدائل واقعية وممكنة، تعمل على معالجة كارثة الحاجة والفقر، و للحدّ من الهجرة ’المخيفةع للمسيحيين من الشرق".

وخلص البطريرك الكلداني إلى القول: "من المؤسف جدًا أن نرى كنائسنا الشرقية قد فقدت البُعد التبشيري، والحس الإرسالي بسبب وضعها الجيوسياسي، والضغوطات والاضطهادات، فغدت كنائس قومية (كلدانية واشورية وسريانية وأرمنية). اليوم، وأمام الاصوليات المتشددة، واستعمالنا الغالب للغة العربية، بات ضروريًا، لكي نقدم لإخوتنا المسلمين عرضًا لإيماننا المسيحي بلغة عربية مفهومة ومصطلحات جديدة معاصرة، غير الكلاسيكية المعهودة. وإعداد برامج خاصة بذلك لرفع مُلابسات (اتهامات) الكفر والشرك والتحريف، ويمكننا الاستفادة من الأدب المسيحي العربي. أذكر على سبيل المثال استعمال مصطلح ’الصفات الذاتية‘ بدل لفظة ’اقنوم‘".