موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٧ مارس / آذار ٢٠١٦
البطريرك الطوال يدعو في قداس أحد الفصح إلى "عدم الخوف"
القدس - أبونا ، تصوير: توماس شارييه :

دعا البطريرك فؤاد الطوال، بطريرك القدس للاتين، خلال ترؤسه قداس أحد الفصح، من داخل كنيسة القيامة بالقدس، إلى "عدم الخوف" أو "الهلع"، فالمسيح القائم يجب أن يدفع إنسان هذه المنطقة إلى "تغيير" في حياته، يحوّله من "تلميذ خائف" إلى "شاهد شجاع" يؤمن "بالخير والسلام وبالحياة"، رغم أحداث الأرض المقدسة والمنطقة العربية والعالم العصيبة.

وفيما يلي النص الكامل لعظة غبطته:

المسيح قام، حقاً قام! أيها السادة الأساقفة الأجلاء، الآباء الأفاضل، أيها الإخوة والأخوات الحجّاج القادمون من جميع أنحاء العالم، الإخوة والأخوات المشاركون في هذا الاحتفال عبر وسائل الاعلام، "إن الرب قد قام حقاً وتراءى لسمعان" (لوقا 24: 34). أرجو لكم جميعاً فصحاً مجيداً وعيد قيامة سعيد، وكل عام وأنتم بخير في غمرة الأفراح الفصحية!

نعود أدراجنا إلى يوم أحد، بعد جمعة حزينة أليمة وسبت صامت، صمت القبور. تتوجه ثلاث من النسوة اللواتي كنّ يرافقن يسوع إلى ضريحه وهنّ يحملن أزهاراً وأطياباً، وقد خيّم على قلوبهنّ الحزن مع تحلّيهنّ بالشّجاعة. ولا يجدن جثمان المسيح. القبر فارغ.

اليوم نُعَدّ بالملايين، نحن معشر الباحثين عن وجه السيّد المسيح وكلامه وبشارته وسلامه. ويساورنا القلق عندما لا نجده في المدينة والسياسة والأسرة، ويدركنا الهول والفزع كما حلّ بالنساء القديسات أمام قبر الفادي.

جسد المسيح من لحم ودم وعظم، لم يعد راقداً في الضريح. ولكنه عن طريق الإيمان ووصيّة المحبة، يريد أن يملك على الإنسانية ويطلب منّا أن ننشر ملكوته، كما سأل النسوة أن يعلنّ إلى الرسل قيامته. بهذه الافكار تتلخّص رسالة هذا الفصح المجيد. نقف اليوم أمام هذا الشّاهد الفارغ، شهوداً جدداً للقيامة السيّديّة: قام الجليليّ الجليل من بين الأموات فلا داعي للخوف ولا مجال للشكّ.

الضّريح أمامنا فارغ والمصلوب الذي مات حيّ! هذان إعلانان قاطعان، يأتيان من غير تفسير ولا دليل ولا برهان. تُقدّم لنا هذه الحقيقة كأمر واقع. ولكن أين يسوع؟ علينا إكتشافه في كون جديد إذ لا أحد يقدر أن يحتكره، لا مكان ولا بلد ولا شعب. ينقل إلينا القائم من بين الموتى رسالة جديدة ومهمّة جديدة، كما طلب من النسوة حثّ السير لاخبار الرسل بقيامته، وعلى رأسهم بطرس، لكي تصل البشرى إلى المعمور كلّه وساكنيه من يهود ومسلمين، من مؤمنين وملحدين: إذهبوا وأعلنوا البشارة وانشروا فرحكم الفصحيّ وأسمعوا دويّ نشيد القيامة "هللويا"!

ولكنّ النسوة يهربن، وهنّ يرتعدن من الفزع، فالرؤى والمكاشفات تسبب أحياناً هلعاً وفزعاً. ولكنّهن بلغن الرسالة. وفي أيامنا كما في الماضي، لا يكفي أن نعلن قيامة يسوع بالأقوال بل بالأعمال، ولاسيّما في وحدتنا وتقوانا ودوراتنا واحتفالاتنا الطقسية. علينا أن نشهد لإيماننا بالقيامة السيدية لدى الألوف من الحجّاج والسيّاح، الباحثين عن المسيح، والساعين إلى اكتشاف جذورهم. علينا أن نشهد للمسيح الحيّ أمام الكثيرين الذين لا يؤمنون بعد والشعوب التي ما استطاعت حتّى الآن أن تتحرّر من صراعاتها ونزاعاتها وخلافاتها.

وهكذا، بخلاف الشريعة اليهودية التي ما كانت تأذن للمرأة بإدلاء شهادة، تشهد نسوة جريئات لقيامة المسيح ويُطلقن تلاميذه من سجن الشكّ والخوف. وعبر التّاريخ عندما قام تلاميذ مثلكم ومثلي، ويقومون بسرد لقائهم مع القائم من بين الأموات واختبارهم لمحبته، لن يلقوا في الغالب قبولاً، وإن دفعوا حياتهم ثمناً لشهادتهم. ويشير هذا الواقع المحزن إلى أنّ الجحود أسهل من الايمان. وتاريخياً، بعد شهادة الرسل والتلاميذ الشفوية والكتابية، أتت جحافل أكاليل الشهداء في فلسطين وسوريا والأردن واليمن كي ترسّخ في الأذهان والقلوب الاعلان المؤثّر والنبأ السّار أي قيامة يسوع من بين الأموات.

دوماً يطالب إنسان اليوم ببراهين منظورة وملموسة. ولن يقنعه قبر فارغ ولا كفن مقدّس ولا تقرير شرطة. إنّ المعجزة الأولى التي حققتها قيامة يسوع هي التغيير الجذريّ في قلوب النسوة اللواتي تحوّلن من خائفات إلى مرسَلات، ومن تلاميذ خائفين جبناء إلى شهود جسورين وجريئين، مسرورين أن يتألموا ويموتوا لإيمانهم وبه مفتخرين.

حولنا نفضت شبيبة صاعدة غُبار أقدامها من تاريخ تاعس لها وانطلقت تبحث عن حياة جديدة ملؤها العدالة والكرامة. إنّه جيل جديد يروم قيامة معنوية للشعوب التي ينتمي إليها. يروم عدلاً وكرامة. ولا وسيلة لهذا التغيير ولا حيلة سوى عزم تلك الشّبيبة وثقتها بمستقبل أفضل. علينا أن نساعدها بصلواتنا وتشجيعنا ونصائحنا وقدوتنا الحسنة. علينا أن نضمّ إلى صوتها أصواتنا لننشد معها "هللويا" بنشيد الظّفر.

هذا ما ينتظره العالم منّا، نحن خلفاء الرسل وسليلي الجماعة المسيحية الأولى. علينا أن ندفن في قبر يسوع ميولنا الدنيوية المادية وانقساماتنا وعنفنا وقلّة إيماننا وخوفنا، لنحيا حياة جديدة، حياة قائمين من بين الأموات لنعيش سنة الرحمة. علينا أن نميت "إنساننا القديم" المستسلم للهلع وغير المطمئن ولا الواثق، وتصبح كائناً جديداً يؤمن بالخير والسلام وبالحياة الوافرة (عن يوحنا 10: 10). ونسأل الله، مع كل الصّعاب أن يتحقّق حُلمنا هذا في الأرض المقدّسة والعالم أجمع.

أيها الإخوة والأخوات، أيها الأعزّاء من المرضى والمسنّين وسائر الذين يعانون من الوحدة والوحشة، والذين فقدوا شخصاً غالياً، أي كل الذين يشعرون أن جمعتهم الحزينة لا تنتهي ولا تعبر، يا جميع الذين لا يقدرون أن يعبّروا عن فرحتهم بالفصح أو أن يعلنوها بسبب سياسات حكومية وتعصب أعمى، من أجلكم نرفع أدعيتنا وإليكم تتوجّه أفكارنا مع رجائنا أن تنعموا بعيد قيامة بهيج، تعمر فيه قلوب الناس بالمحبة والتضامن بقوّة المسيح الذي قام من القبر وأقامنا جميعنا معه (عن كولسّي 3: 1). لقد قام الرب كما قال (عن متّى 28: 6)، إذهبوا وأعلنوا هذه البشرى إلى العالم كلّه!