موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٠ مارس / آذار ٢٠١٩
البطريرك الراعي يندد بـ’البرص‘ الناجم عن الخطايا الروحية والاجتماعية والسياسية

بيروت – أبونا :

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي. وبعد إعلان الإنجيل، ألقى غبطته غطة بعنوان: "تحنّن يسوع عليه ومدّ يده ولمسه وطهّره من برصه" (مر41:1).

وجاء فيها: عندما أقبل الأبرص إلى يسوع، وجثا وتوسّل إليه قائلاً: "إن شئت، أنت قادر أن تطهّرني!" تحنّن عليه يسوع ومدّ يده ولمسه وقال: "قد شئت فاطهر. وللحال زال برصه" (مر1: 41-42). هذه هي رحمة الله التي ترافقنا في زمن الصّوم المقدّس: تلمسنا وتشفينا من خطايانا ومعاناتنا الحسيّة والمعنويّة، ومن ضيقاتنا النفسيّة والعائليّة والاجتماعيّة. رحمة الله هذه تريدنا أن نكون نحن أيضًا رحومين تجاه إخوتنا وأخواتنا في ضيقاتهم ومعاناتهم المتنوّعة. إنّ أعمال الرّحمة تواكب صيامنا وصلاتنا في هذا الزّمن المقبول".

وقال البطريرك الراعي في عظة قداس الأحد: "كانت شريعة موسى تأمر بأن يعيش الأبرص في البراري، عندما يتّضح للكاهن برصه، لأنّ هذا المرض معدٍ. وبالتالي لا يحق له أن يخالط الناس كي لا يمسّه أحد. لكن المصاب بقروح البرص التي تتآكل وجهه ويديه وكل جسمه، يظل إنسانًا منفتحًا بإيمانه وقلبه على الله. ذاك الأبرص سمع بيسوع، فآمن به أنّه المسيح الآتي الذي يطهّر البرص. وتجرأ وأتى بإيمان إلى يسوع، متخطيًا الشّريعة، إدراكًا منه أن يسوع سيد الشريعة. وتوسل إليه بتواضع: "إن شئت فأنت قادر أن تطهّرني" (مر40:1)".

وأضاف: "إنه يعلمنا كيف نؤمن بقدرة النعمة الالهية التي تشفينا، وكيف نلتمس بتواضع وتسليم لمشيئة الله هذه النعمة. كلّنا على تنوّعنا نعاني من برص الخطيئة الروحية والأعمال الشريرة التي نخالف بها وصايا الله ورسومه؛ ومن برص الخطيئة الاجتماعية التي نسيء بها إلى الغير ظلمًا، أو سلبًا لحقوقه، أو إهمالاً لواجب تجاهه، أو اعتداء على كرامته وصيته؛ كما ومن برص الخطيئة السياسية التي يُمارس فيها التسلط سواء إفراطًا بالسلطة، أم تدخلاً في الإدارة العامة والقضاء بقوة النفوذ، أم سلبًا لأموال الدولة، أم إهمالاً للخير العام، أم سعيًا إلى المكاسب الشخصية أم تقاعصًا عن واجب الالتزام بالنهوض الاقتصادي بكلّ قطاعاته من اجل تحرير الشعب من حرمانه وفقره. كلّ هذه الخطايا، الروحية والاجتماعية والسياسية، هي خطايا شخصيّة سنُدان عليها، وتشكّل برصًا بالمعنى المجازيّ القياسيّ، وتحتاج إلى توبة وغفران إلهيّ عبر سر التوبة المؤتمنة عليه الخدمة الكهنوتية في الكنيسة".

وتابع: "ويسوع عندما لمس الأبرص، تجاوز الشريعة الناهية عن لمس المصاب لكي لا تنتقل إليه عدوى البرص. لقد كان بإمكان يسوع أن يطهّره بكلمة كما فعل مع غيره. لكنّه أراد أن يبيّن أنّ الشّريعة ليست حرفًا ميتًا، وأنّها وُضعت للإنسان، لا الانسان للشّريعة. وخالفه الفرّيسيّون بتفضيل حفظ شريعة السّبت على شفاء المرضى، وشكوه لدى السّلطات المدنيّة على أنّه لا يحفظ شريعة السّبت (راجع مر6:3). سيقول بولس الرّسول: "الحرف يقتل والرّوح يحيي" (2 كور6:3). ولأنّ يسوع تحنّن عليه، لمسه بيده. فحنانه لطّف الشّريعة، ووصل بها إلى مبتغاها. فلم تنتقل عدوى البرص إلى يسوع. بل على العكس، باللّمس الحنون انتقلت قوّة الشفاء من يسوع إلى الأبرص فأزالت برصه. نفهم من تصرّف يسوع هذا أنّ الشريعة والعدالة بحاجة إلى روح الإنصاف والرّحمة والمشاعر الانسانيّة".

وقال: "في القضاء ليس القاضي الجالس على القوس ديّانًا، بل خادمًا للعدالة، وليس أمام ملفّات من الورق فقط، بل أمام شخص بشريّ له مشاعره وينتظر حقوقه. وهو أيضًا إنسان مسؤول عن أن يطبّق القانون، تعليمًا واجتهادًا مجبولين بالإنصاف، على الحالة المطروحة أمامه. إنّ أسوأ ما يشوّه القضاء، فضلاً عن الرّشوة الماليّة الرّخيصة، التدخّل السّياسيّ في الأحكام، أو في الحيلولة دون تطبيقها نفوذًا، أو في البحث عن كبش محرقة حفاظًا على الكبار. هذا ما نشهده بكلّ أسف عندنا في لبنان. الأمر الذي يطعن المواطنين في الصميم، ويزعزع ثقتهم بالقضاء، ويُفقد الدولة هيبتها".

وأضاف: "حافظ الرّبّ يسوع على الشّريعة، عندما قال للأبرص: "إذهب إلى الكاهن وأره نفسك، ثمّ قدّم عن شفائك ما أمر به موسى، شهادة لهم" (مر44:1). فسِفرُ الأحبار كان يوجب أن يتأكّد الكاهن من زوال البرص عن المصاب، لكي يعلن إعادة دخوله إلى حياة الجماعة (راجع أحبار 14: 2-32)، تمامًا كما كان الكاهن يتأكّد من الإصابة بالمرض، فيأمر بفصل الأبرص عن الجماعة، والإقامة منفردًا خارج المحلّة، ما دامت الإصابة (راجع أحبار 13: 44-46). نحن بخطايانا نكسر الشّركة الرّوحيّة مع الجماعة، وبالتّوبة ومغفرة الخطايا والمصالحة مع الله نستعيدها. إنّ علامتها المشاركة في تناول جسد الرّبّ ودمه. ثمّ نقدّم ذبيحة القدّاس قربان شكر لله على غفرانه. إنّ تصرّف يسوع تجاه الشّريعة يفهمنا قوله في الإنجيل "لا تظنّوا إنّي جئت لأبطل الشّريعة وتعاليم الأنبياء. ما جئت لأبطل بل لأكمّل" (متى 17:5)".

وخلص البطريرك الراعي في عظته إلى القول: "لمَسَ الرّبّ بحنان يده الأبرص فأزال برصه. أمّا اليوم "فيلمُس" عقولنا وضمائرنا بكلام الإنجيل وتعليم الكنيسة لتنويرها، وإراداتنا وحريّاتنا بنعمة غفران خطايانا لتحريرها، وقلوبنا بجسده ودمه للحياة الجديدة. إنّه بهذا اللّمس الحنون يشفينا، ويريدنا أن نلمس بحنان كلّ إنسان وفق حاجته. فليكن زمن الصّوم المقدّس زمن رحمة، لمجد الثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".