موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ يونيو / حزيران ٢٠١٣
البطريرك الراعي: تكريس لبنان لقلب مريم التزام بحمايته كأرض مقدسة

بيروت - وكالات :

اعتبر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر "التزام منا جميعا بحمايته كأرض مقدسة، وبالمصالحة الوطنية التي تبدأ بين السياسيين ولا سيما بين الفريقين المتنازعين المعروفين ب8 و14 آذار"، لافتا الى انه "بنارهما المتمادي شوها وجه لبنان وميثاق العيش معا ووجه لبنان التنوع والديمقراطية، لبنان القيمة الحضارية، لبنان الحريات العامة وحقوق الانسان".

كلام الراعي جاء خلال ترؤسه القداس الاحتفالي بمناسبة إعادة ترميم بازيليك سيدة لبنان في حريصا وتكريس لبنان لقلب مريم والدة الآله، بمشاركة بطاركة الشرق الكاثوليك في لبنان، في حضور رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وعقيلته وفاء، الرئيس امين الجميل، الرئيس المكلف تشكيل الحكومة تمام سلام، السفير البابوي غابرييل كاتشا والعديد من النواب والوزراء الحاليين والسابقين وفاعليات سياسية، حزبية، نقابية، دبلوماسية، اجتماعية واعلامية، ورؤساء الاجهزة والمكاتب الاقليمية الامنية، الرؤساء والرئيسات العامين للرهبانيات اللبنانية، إضافة الى الجمعيات والروابط والاخويات المسيحية في لبنان.

خدمت القداس الاحتفالي جوقة سيدة لبنان بإدارة منال نعمة صعيبي.

بدأ القداس الاحتفالي بمسح الابواب والجدران بالميرون المقدس من قبل الراعي الذي توجه من مدخل البازيليك يحوطه البطاركة والاساقفة الكاثوليك باتجاه المذبح، لتبدأ مراسم التدشين والتبريك، وحيث ألقى رئيس مزار سيدة لبنان في حريصا المرسل اللبناني الاب خليل علوان الكلمة التالية: "انه ليوم مريمي لبناني بامتياز، يوم يلتئم فيه عقدنا في بيت سيدة لبنان التي لطالما أحببناها وتشفعناها وقصدناها، ولشدة تعلقنا بها سميناها سيدة للبنان، فحنانيك يا أم لبنان حنانيك، فها نحن لديك عند قدميك فمدي يديك وخلي عينيك: عينا علينا، وعينا على لبنان يا سيدة لبنان.

انها لمفارقة ملفتة يا فخامة الرئيس ان يعقد في عهدكم السينودس من أجل الشرق الاوسط الذي أوصى بتكريس لبنان وبلدان المنطقة لمريم، وان يصبح الخامس والعشرون من شهر آذار ذكرى البشارة عيدا وطنيا، وتلك إشارة الى قدرة مريم على توحيدنا نحن اللبنانيين، وعلى تثبيت عيشنا المشترك، وعلى اجتماعنا واجماعنا على قيم روحية وأدبية لا تقبل خلافا ولئن فيها بعض اختلاف، وهذه المبادرات الوطنية المريمية تأتي في أكثر وجوهها تحقيقا لقسمكم الدستوري في جمع الشمل وحماية الوطن والدفاع عن القيم وصون الدستور. وكأن أمنا مريم تضع يدها بيدكم يا فخامة الرئيس لتشكلا معا درعا قوية وسياجا حصينا لبلد أحبته مريم وزارته، يوما مع ابنها، لبلد قيل فيه انه جنة الله وارض القداسة وتراب الخير، فلعلكم يا صاحب الفخامة مع الغيارى والمستقيمين تعيدون اليه هويته ودوره.

اما بعد، فان احتفالنا اليوم مثلث الابعاد والغايات: اولها الترحيب بعودة مريم ام النور الى مقامها، وثانيها تكريس هذه البازيليك بعد ترميمها، وثالثها تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر، وما أكثر الروابط والرموز في هذه الثلاثية الفريدة. واستهلالا نقول: هلا بك مريم، وقد عدت الى بيتك بعد اربعين يوما قضيتها في ربوع لبنان، في قراه وبلداته، حيث زرت شعبك في الشوارع والبيوت وأماكن عبادته حاملة اليه بشرى ابنك يسوع كما حملتها لنسيبتك اليصابات.

اربعون يوما من الفرح والصلاة، من الابتهاج والتقوى، محطات ايمانية بلغ عددها ثلاثمائة وثلاث وثلاثين محطة عقدت فيها الاقواس، نثرت فيها الورود وافرغت قوارير الطيب، وانطلقت الزغاريد والتهالل. اربعون يوما غصت بتأوهات الصدور، وتبللت بالدموع وعبقت بمشاعر التوبة والندامة، وكان ما كان: ايام مريمية لبنانية ولا اجمل تمنى الناس لو انها لا تنتهي، وكأنهم عرفوا ان مريم هي الزائرة الوحيدة التي تأتي اليهم مجردة الا من غاية الحب والعطاء وهل تبغي الام سوى سعادة اولادها. مرحبا بك يا ام في بيتك الذي أتيت اليه في المرة الاولى منذ تسع وخمسين سنة، سنوات بعدد حبات المسبحة سنوات قضيتها في الصلاة شاهدة على نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى استقلال لبنان، كما ويا للاسف، على تقاتل اللبنانيين في حرب عبثية اكتشفوا في ختامها ان في التباعد والكراهية تسقط القيم، وان بالمحبة وحدها تبنى الاوطان، وها انت اليوم تعودين الى ههنا بعد ان أنعشت الايمان في النفوس، والمحبة في القلوب لتقولي لنا: هلموا الى حياة جديدة والى اسلوب جديد، تماما كما فعلت في العام 1954 حيث رميت سحر المحبة والايمان من خلال زيارتك الاولى ربوع لبنان.

فهلا بك مريم ولك منا عهد جديد. واننا واذا نعاهد مريم بغبطتنا كثيرا ان نفتح قلوبنا، وقلب الدار وقلب البازيليك لنرحب بالبطريرك المريمي صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. وكلنا نعلم مدى عمق العلاقة بين غبطته وسيدتنا مريم. اهلا بكم يا سيد السادة في داركم، وانتم على خطى ام النور قد عدتم الينا. بعد ان طفتم في اماكن كثيرة على هذه الارض حاملين معكم قلبا ملؤه المحبة لرعيتكم في انتشارها. ونفسا ملؤها الرجاء وارادة صلبة في احتضان شعب الله وابناء الكنيسة اينما حلو في هذه الدنيا. سدد الله خطاكم يا ابانا فتبقوا الراعي الصالح والامين الحكيم الذي يعطي الطعام في حينه، ولتتمكنوا من تحقيق ما ينتظره الشرق الاوسط من كنيسة لبنان من قيادة رائدة وعون قوي. ونغتنمها فرصة لنرجع الصلاة الى مريم على تيتكم يا صاحب الغبطة لعل تكريس كنيسة البشر وتكريس اللبنانين لقلب مريم يشكلان بداية عهد جديد لكنيسة متجددة رسولية وفقيرة.

اما الغاية الثانية للقائنا اليوم فهي تكريس هذه البازيليك واعادة افتتاحها امام المؤمنين بحلة جديدة بعد الفراغ من اعمال الترميم التي شملت اعادة بناء السقف والخرسانة وتجديدا في الواجهة الزجاجية. وها هي الكنيسة الرمز تتألق مجددا. تماما كشجرة الارز التي تبدل اوراقها من دون التخلي عن خضرتها الدائمة. وها هي تخلع عنها سواد زمن الحرب الاهلية التي بنيت في خلالها لترتدي ثوبا ناصعا حيك بخيوط صلبة، قادرا على جبه التحديات. وها هي تشمخ عاليا، ممتنعة على ابواب الجحيم. فسلمت تلك الايادي التي اعطت، وتلك التي صممت وتلك التي عملت لاعادة افتتاح هذا الصرح المريمي ليليق بأم النور سيدة لبنان.

نحن واذ جئنا نشترك في هذا التكريس، فاننا ندرك ان ما يحدث يتخطى تكريس الحجر الى تكريسنا نحن البشر المؤمنين بالمسيح والذين نشكل هذه الكنيسة. وحري بنا ان نتذكر ان التكريس يتطلب منا مجددا في هيكلية الكنيسة وفي التزامها روح الانجيل في عهد فرنسيسي يرسم لها افقا جديدا.

وثالث اهداف اجتماعنا هو تكريس لبنان لمريم والدة الاله. في هذه السنة التي اعلنها قداسة الحبر الاعظم البابا بنديكتوس السادس عشر "سنة الايمان". وهذا ما اشار اليه في نهاية القداس الالهي. في بيروت في 16 ايلول الماضي، عندما قال: "اننا نوجه انظارنا الان الى مريم سيدة لبنان التي حولها يلتقي المسلمون والمسيحيون. مريم التي هي امنا. وتتفهم همومنا واحتياجاتنا. فمع البطاركة والاساقفة الحاضرين، اضع الشرق الاوسط في ظل حمايتها الوالدية، وذلك ليحل السلام بمعونة الله.

تكريس لبنان، هو ان نوكل الى شفاعة مريم وطننا وبلدان الشرق الاوسط، فهي بما لها من وساطة لدى ابنها تحفظ بلادنا، وتجمعنا مسلمين ومسيحيين تحت كنف حمايتها. وتكريم الامة لمريم، يلزم على المواطنين تكرس الذات لله بالبعد عن الفساد والتمسك بالقيم، وبالسعي الى السلام والمصالحة والحوار.

وفي الختام لا بد ان نذكر امام السيدة العذراء صاحبي فكرة انشاء هذا المزار سنة 1904 القاصد الرسولي، آنذاك المنسنيور دوفال وغبطة البطريرك الياس الحويك، اللذين كرسا لبنان للعذراء عام 1908 بعد الانتهاء من تشييده، ونطلب من الرب بشفاعة سيدة لبنان ان يظهر فضائل البطريرك الحويك الذي قبلت دعوى تقديسه. كما نذكر جميع آباء جمعية المرسلين اللبنانيين الذين كان لهم الدور الكبير في تشييد هذا الصرح وتطويره وخدمته وخدمة المؤمنين طيلة العقود الماضية بكل امانة وتفان، طالبين من الله بشفاعة العذراء ان يمن الرب على الكنيسة بدعوات مقدسة. فباسم الرئيس العام وآباء جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة نقول: شكرا لكم يا فخامة الرئيس، شكرا لكم يا صاحب النيافة ويا اصحاب الغبطة. شكرا لكل الحاضرين. ونذكر بصلواتنا كل الغائبين والغيارى واصحاب الايادي البيضاء. ونختم مصلين:" سلام لك يا مريم، سلام".

وبعد الانجيل المقدس، القى الراعي العظة التالية: "فخامة الرئيس، باسم إخواني أصحاب الغبطة البطاركة، وسيادة السفير البابوي، والسادة المطارنة، والرؤساء العامين، والآباء، وهذا الجمع الحاضر من الأخوة والأخوات، أهديكم أطيب تحية ودعاء. ما أجمل حضوركم على رأس هذه الجماعة المصلية التي توافدت من مختلف المناطق اللبنانية، ولاسيما حيث مرت سيدتنا مريم العذراء بتمثالها، تمثال أم النور، طيلة شهر أيار المنصرم والنصف الأول من الشهر الحالي، وكأنهم أتوا لرد الزيارة. لقد أتيتم فخامة الرئيس على رأس هذا الجمهور، الملتئم باسم الشعب اللبناني كله، للاحتفال بإعادة تدشين بازيليك سيدة لبنان بعد ترميمها، وبتكريس لبنان، كيانا وأرضا وشعبا ومؤسسات، لقلب مريم الطاهر. إن هذا التكريس حدث تاريخي حاسم، لأنه سيكون بداية مسيرة خلاصية للبنان، تقودها سيدته العذراء مريم، وقد أتينا لنضعه في عهدتها التي تنجز ما تشاء.

رفعت مريم، عذراء الناصرة، في بيت إليصابات، نشيد التعظيم لله القدير، لأنه صنع فيها العظائم، وكانت قد سمعت بشرى هذه العظائم العتيدة من فم الملاك جبرائيل. فعظمت الرب، وسمت نفسها "أمته الوضيعة"، وأعلنت تكريسها له، مقدمة كل كيانها، إذ أجابت الملاك: "أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك"(لو1: 38). فكانت كلها له باسم الجميع، لأنه هو كله لنا جميعا. هذا هو فعل العبادة الأعظم لله الذي حرر مريم، ويحرر كل إنسان، من الانطواء على الذات، ومن العبودية للخطيئة ولأصنام هذا العالم (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2097، 2617).

أتينا، وقلوبنا مملوءة فرحا ونفوسنا رجاء. نفرح بإعادة تدشين بازيليك سيدة لبنان ومذبحها بعد ترميمها الشامل، وهي تحمل في هيكليتها رمزين، الأول: رمز الأرزة المرتفعة نحو السماء، وقد تحققت في مريم كلمة الكتاب المقدس: "إرتفعت كالأرز في لبنان" (إبن سيراخ 24: 13)؛ والثاني: رمز السفينة أي الكنيسة والوطن اللذين تقودهما مريم سيدة لبنان، بنعمة ابنها الإلهي يسوع المسيح، لتعبر بهما وسط أمواج الشر ورياحه إلى الشاطئ الأمين. أما الرجاء الذي يملأ نفوسنا، فهو أننا أتينا لكي نكرس لبنان لقلب مريم الطاهر، وفينا يقين لا يتزعزع أن مريم وحدها تستطيع، بقدرة الله، وبقدرة استحقاقاتها لديه، أن تنقذ لبنان من أمواج الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية؛ وهي أمواج عاتية تتقاذفه وتنذر بغرقه. إن رجاءنا مرتكز على الاختبار، إذ لا أحد منا يشك في أن مريم، سيدة لبنان، هي التي كانت تنتشله بيدها الخفية في كل مرة أشرف على الغرق والتلاشي ولاسيما في الحرب الأخيرة. ومن لا يعرف أنه عندما كرس الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني في 25 آذار 1984 العالم لقلب مريم الطاهر، مع ذكر خاص لروسيا، وهي التي كانت قد طلبت هذا التكريس في ظهورها في بلدة فاتيما بالبرتغال، في 13 تموز 1917، كيف سقط جدار برلين بعد خمس سنوات (سنة 1989) وكيف، في 8 كانون الأول 1991، عيد سلطانة الحبل بلا دنس، حل البرلمان الروسي نفسه وانهار الاتحاد السوفياتي وتفككت جمهورياته.

أن نكرس لبنان لقلب مريم الطاهر، فهذا مطلب لبناني مسيحي إسلامي، كما يتبين من هذا الحضور اليوم، ومن إعلان عيد البشارة لمريم في 25 آذار يوما وطنيا. فبين لبنان ومريم تاريخ عمره ألفا عام. لقد ترددت مريم إلى نواحي صور وصيدا مع الرب يسوع ابنها. فبلدة قانا شاهدة لمعجزة تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، التي اجترحها يسوع في ذاك العرس بطلب منها. ومغارة المنطرة في مغدوشة، تشهد لانتظارها يسوع بعد تجواله في المنطقة، حسب التقليد. وصور بنت، عام 315، أي بعد سنتين من إعلان براءة ميلانو(313) للملك قسطنطين، كاتدرائيتها على اسم العذراء مريم، ويعتبرها المؤرخون الأثريون أنها الأقدم في تاريخ الكنيسة، وأجمل كنائس فينيقيا واعظمها، وسقفها من خشب الأرز (أنطوان خوري حرب، جذور المسيحية في لبنان، ص 72). وجبيل شيدت كنيسة سيدة البحر المطلة على الشاطئ، في عهد الشهيدة أكويلينا الجبيلية (+ 291). في البترون حيث دخلت المسيحية مع بطرس الرسول، شيدت كنيسة سيدة العذراء "سيدة نايا" (أي السيدة الجديدة) في كفرشليمان، في مغارة مدفنية محفورة في الصخر، قبل العهد المسيحي. في جبة بشري، بني في نهاية القرن الثالث عشر دير سيدة حوقا، بين بشري وإهدن، الذي حول عام 1625 إلى مدرسة إكليريكية للموارنة. في أنفه- الكورة، شيدت، في العهد البيزنطي، كنيسة "سيدة الريح"، وهي أقدم كنائس العذراء في الشرق. نجد في إحدى رسوماتها الجدارية أيقونة العذراء وهي تهدئ العاصفة. وتجاه بلدة كوسبا، بني في القرن الرابع دير سيدة حماطوره في قلب الشير، داخل تجويف صخري، التابع لكنيسة الروم الأرثوذكس. وفي الكورة أيضا، بني عام 1157 دير سيدة البلمند. هذا فضلا عن كنيسة سيدة الحصن في إهدن التي بنيت في النصف الثاني من القرن الثامن على أنقاض معبد وثني قديم؛ وكنيسة سيدة الغسالة العجائبية في القبيات بعكار، مبنية على أنقاض كنيسة قديمة جدا؛ وكنيسة سيدة القلعة في منجز التي يكرمها المسيحيون والمسلمون؛ وكنيسة سيدة البرج في دير الأحمر (القرن السابع)؛ وكنيسة السيدة في رأس بعلبك التي بنيت داخل دير بيزنطي في القرن الرابع، يقصدها الزوار من كل المناطق، مسيحيون ومسلمون، ويكرمون أيقونتها العجائبية ويقسمون أمام مذبحها على الوفاء بالوعود والأمانة للعهود.

ذكرنا هذه الكنائس القديمة العهد، لإظهار العلاقة التاريخية بين السيدة مريم العذراء ولبنان. ولكن يوجد في لبنان اليوم أكثر من 1500 كنيسة على اسم العذراء، وأكثر من 3500 مذبح على اسمها في كل المناطق اللبنانية، حتى قيل إن لبنان كله معبد للعذراء، مملكة العذراء. والسائح البلجيكيGeorges Dumont سمى العذراء "أميرة البلاد الكبرى". وقال الكاتب الفرنسيJoseph Poujoulat واضع كتاب "رسائل الشرق"، عند ذكره دير سيدة البلمند: "إن الكثيرين من الشعب اللبناني في لبنان يثقون بالعذراء أكثر من ثقتهم بالله نفسه".

إن اللبنانيين، المتنوعين في طوائفهم ومذاهبهم المسيحية والإسلامية، يتوحدون في معبد العذراء. وكم من كنائس بناها أو ساهم في بنائها مسلمون وموحدون دروز، مثل سيدة التلة بدير القمر، والسيدة في المنطرة، وكنيسة درب السيم في شرق صيدا. وبطريركياتنا الأربع في لبنان مكرسة للسيدة العذراء: سيدة البطريركية المارونية "سيدة الانتقال" في بكركي، بعد سيدة يانوح وإيليج وميفوق وقنوبين؛ وسيدة بطريركية الأرمن الكاثوليك "الأم الحزينة" في بزمار؛ وسيدة بطريركية السريان الكاثوليك "سيدة النجاة" في الشرفة؛ و"سيدة البشارة" التي شيدتها بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك.

فمن الواجب إذن، أن نكرس اليوم لبنان كله، كيانا وأرضا وشعبا ومؤسسات، لقلب مريم الطاهر، فهي الأم والمحامية والشفيعة. تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر، هو التزام منا جميعا بحمايته كأرض مقدسة، وبمحاربة الفساد الأخلاقي في داخل كل إنسان، والظاهر في الإعلانات على الطرق وفي وسائل الإعلام وتقنياته الحديثة، والمتفشي في الأداء السياسي والإدارات، وفي التخاطب والتعاطي، وفي عدم الحياء. وهو التزام بالمصالحة الوطنية، التي تبدأ بين السياسيين، ولاسيما بين الفريقين المتنازعين، المعروفين ب8 و14 آذار، اللذين، بنزاعهما المتمادي، شوها وجه لبنان وميثاق العيش معا، ووجه لبنان التنوع والديموقراطية، لبنان القيمة الحضارية الثمينة، لبنان الحريات العامة وحقوق الانسان، لبنان حوار الحياة والثقافة والمصير. وبنزاعهما المتمادي عطلا الانتخابات النيابية في موعدها، ويعطلان تأليف حكومة جديرة برفع تحدي الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، وتحدي الفلتان الأمني المنذر بأوخم النتائج، وتحدي وجود مليون ومائتي ألف نازح سوري، مع كل ما يحمل هذا الوجود القسري المقهور من ويلات اقتصادية وأمنية وإنسانية وسياسية. وبنزاعهما يفككان المؤسسات الدستورية والقضائية الواحدة تلو الأخرى. وبنزاعهما أطاحا بحياد لبنان وإعلان بعبدا، وتورطا في الحرب المؤلمة والمؤسفة في سوريا، ويورطان لبنان وشعبه في تداعياتها وفي نتائج هذا التورط.

لذا جئنا اليوم لنكرس لبنان لأمنا مريم العذراء في بازيليك سيدة لبنان، وتفعل كذلك معنا الرعايا والأديار والعائلات في كل بقعة من أرض لبنان، ويفعل أيضا كل الذين يشاركوننا عبر وسائل الإعلام. أتينا كدولة لبنانية ممثلة بكم، يا فخامة الرئيس، وأنتم، كما يدعوكم الدستور اللبناني "رمز وحدة الوطن، والذي يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه" (المادة 49). ونحن، في هذه الصفة، وكل شعب لبنان، ندعمكم الدعم الكامل، ونصلي من أجلكم في كل مبادرة إنقاذية يلهمكم الله والعذراء مريم على اتخاذها، من أجل المحافظة على كيان لبنان في وحدته وسيادته واستقلاله، بعقد إجتماعي متجدد على أساس الميثاق الوطني المعقود سنة 1943. وندعم ونصلي من أجل حماية الجيش اللبناني والقوات المسلحة التي أنتم قائدها الأعلى، فهي وحدها، دون سواها، تحمي الكيان اللبناني في مقوماته الثلاثة.

وأتينا ككنيسة في لبنان، متمثلة برعاتها وشعبها المؤمن، لكي نلتزم بمقتضيات هذا التكريس، ونعلن إيماننا بأن خلاص لبنان وبلدان الشرق الأوسط إنما يأتي على يد أمنا مريم العذراء، سيدة لبنان وسلطانة السلام، ونجمة صباح هذا الشرق. لهذا نعتبر، بإيمان وطيد وثقة لا تتزعزع، أن السادس عشر من حزيران 2013 هو يوم تاريخي حاسم للبنان؛ وأنه سيكون يوما وطنيا وكنسيا، يجمعنا في كل سنة لتجديد هذا التكريس. وإننا، إذ نعلن الايمان بكيان لبنان في وحدته وسيادته واستقلاله، وحياده الايجابي المتلزم بقضايا العدالة والأخوة والسلام، عن طريق الحوار والتفاهم في محيطنا العربي والاسلامي؛ والعمل على تخطي العصبيات والمذهبيات والهويات القاتلة؛ والسعي الدؤوب إلى قيام دولة عصرية ديموقراطية في المنطقة تعزز حق المواطنة للجميع، وحقوق الانسان، نتلو معا، في ختام هذه الذبيحة المقدسة وبنعمتها، فعل تكريس لبنان والشرق الأوسط للعذراء مريم، لأنهما أعطيانا وأعطيا البشرية الكثير الكثير، راجين، والسماء مفتوحة بليتورجيتها الإلهية على هذه الليتورجية الأرضية، أن يتقبل الله هذا التكريس الشخصي والجماعي والوطني لمجده تعالى وخلاص وطننا لبنان وبلداننا المشرقية، وخلاص نفوسنا، هاتفين مع مريم: "تعظم نفسي الرب... لأن القدير يصنع فينا العظائم" (لو1: 46 و 47)، آمين".

بعد العظة مسح الراعي المذبح الجديد بالميرون المقدس.

وفي ختام القداس، تلا كاتشيا رسالة البابا فرنسيس أرسلها أمين سره الكاردينال ترسيسيو برتوني، وتضمنت تحيات البابا فرنسيس الحارة الى اللبنانيين في هذه المناسبة، ودعوة الجميع الى ان يعملوا من اجل السلام والاستقرار. كما ارسل البابا بركته للبازيليك والمحتفلين والزوار ولأبناء لبنان.

وبعد ان تلا البطاركة المشاركون في القداس صلاة الجماعة لخلاص النفوس وحماية لبنان وتكريسه لمريم العذراء والدة الآله، جرى تبادل للهدايا التذكارية، ثم تقدم سليمان وعقيلته الى تمثال السيدة العذراء "ام النور" ووضعا عليه مسبحة، باسم اللبنانيين من الطوائف كافة. وتتشكل حبات المسبحة من الفيروز الآتي من الجبال ورمزه الصفاء والسمو، واللؤلؤ الآتي من البحار ورمزه الطهارة والنقاء، ويشكلان رمز وحدة لبنان. اما صليب المسبحة فهو قطعة اثرية نادرة تعود الى القرن التاسع عشر، فيما تم صنع السلسلة من الذهب الصافي.

ثم قدم الراعي الى سليمان تمثالا مصغرا عن العذراء ام النور مع ميدالية ذهبية في داخله رمزا للسيد المسيح الذي خرج من احشاء العذراء، فيما قدم علوان ايقونة العذراء الى السيدة وفاء.

وبعد تبادل الهدايا والتذكارات، سارت العذراء المقدسة في تطواف على أيادي المؤمنين والمشاركين في القداس قبل ان تعود الى حيث كانت في مزارها الدائم