موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٨ مارس / آذار ٢٠١٣
البابا فرنسيس وبطرس الفلسطيني

نصري الصايغ - السفير اللبنانية :

أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي (كنيستي). بطرس الفلسطيني، كان الأول. على دمه وشهادته، بنيت الكنيسة في روما، ثم اغتربت. صارت كنيسة الشهادة دولة. أخذت على عاتقها «ما لقيصر وما لله» معاً. أقامت ديناً ودولة، وأحيانا دولة بـ«لا دين» المسيح. أو بعيداً عن «صخرة» بطرس.

زمن البدايات، كان مضمماً بالشهادة والدم. ارتفعت هامتها على صليب العذابات وجرأة الإيمان وجسارة المواجهة وحب التضحية. وقيل، يومها كانت الكنيسة قريبة جداً من الله.

الزمن الوسيط، كان معبأً بالسطوة والسلطة. كانت الكنيسة ملكا عضوداً. حاربت بلا هوادة، توسعت بلا شفاعة، سيطرت بلا رحمة، باعت السماء بصكوك الغفران، كما تباع اليوم «حَوارٍ وحُورُ عين»، وما لذ وطاب من متاع الدنيا في معارك التكفير السود...

في الزمن الوسيط، صارت الكنيسة إمارة يحكمها أمير ويتحكّم بشعوبها أمراء، برتب بابوية أو أسقفية أو عائلات مالكة أو أصهار سياسيون أو قادة مغامرون. يومها، تحوّلت الكنيسة إلى تاجر حروب موضعية، وداعية «حروب صليبية»، وإرهاب محاكم تفتيش، لا يصل إلى قامتها عتاة الطغاة. قيل عن ذلك الزمن إن كنيسة المسيح طلّقت الله، وعقدت قرانها على الدنيا. وقيل، أغمض الله عينيه كي لا يراها، وصمّ أذنيه كي لا يسمع صلواتها.

وكم من الشبه بين ذاك الزمن، والزمن الديني العربي اليوم!

إرث روحي كبير ينافسه إرث كنسي سياسي شائك، تتدنى فيه الروح وتتصابى فيه السلطة، إلى أن أعادها «ربيع الأنوار» إلى حجمها. هُزِمَت في السياسة وكسبت في عودتها إلى الروح. والعودة لم تصل بعد إلى الينابيع، حيث يحل الإنسان بعد الله مباشرة. الإنسانية لا تتأجل أبداً في الأبعاد الروحانية للديانات. فالله أولاً، والإنسان ثانياً، والكنيسة والمؤسسات الدينية أخيراً. هكذا قيل عن الكنيسة في دورتها الجديدة، بعدما منعت عنها السياسة، وامتنعت هي عنها.

لم تكن قد استكملت دورتها في القرن العشرين. راهنت على فاشيّات، فانكسرت. راهنت على أميركا، حتى أسقطت «السوفيات» في وارسو، معقل ليش فاليسا البولوني. وحاربت «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية، التي منها جاء خليفة بطرس الراهن، البابا فرنسيس. الكنيسة لم تغتسل بعد من ماضيها السياسي. هي بحاجة إلى معمودية الروح، إلى اغتسال بالأردن.

قبل استكمال الكلام، عن هذا المقام، تجوز المقارنة بين ما في مسار الكنيسة ومسارات الإسلام السياسي الراهنة. أوجه الشبه كثيرة. ليت من يستخلص العبر منها، فيستفيد ويفيد!

أما بعد... البابا فرنسيس، جاء من آخر الدنيا. اختاروه من الأصقاع البعيدة. جاؤوا به من خلف البحار، وخلف دائرة «القرار»، الممسكة بمقاليد الكرسي الرسولي في روما... كانت «مزحته» جميلة، في أول إطلالة وفي مطلع كلامه في أول لقاء على الشرفة، وقيل: بدأت الكنيسة تبتسم.. هذا فأل خير، فالعبوس جلجلة الروح.

البابا فرنسيس الأرجنتيني «غريب الأطوار» بابوياً. لم يسبقه أحد في ما اجترأ عليه. بلا تكلف ولا تصنُّع. كأن فخامة البابا يوحنا بولس الثاني لا تعنيه، ورصانة بنديكتوس السادس عشر لا تقنعه. بروتوكول الكنيسة وتقاليدها وأعرافها، لا تستهويه... يومان كانا كافيين لوضع اللمسات الأولى للوحته. خرج من الإطار الجليل. لا ذهب على صدره. صليبه من حديد. لا صولجان ولا رداء أحمر. الأبيض لغة تعكس ما في الداخل... فاجأ زملاءه وأتباعه بسرعة تنفيذه. لم يشاور أحداً. اتخذ قراراً ومشى. كأنه يقول: «يا كنيسة اتبعيني»، فلتخرج الكنيسة من كنيستها، ولتُقِم هيكلها في قلوب الفقراء... ستخسر الكنيسة كثيراً من فخامتها وعظمتها الدنيوية، إذا سارت على خطى سيدها الأول في قوله: «هذا هو جسدي فكلوه»، بعدما كسر الخبز بين رسله صيادي السمك في بحيرة طبريا.

هل يكون بابا الفقراء، هذا القادم من مدن الصفيح وضواحي التنك وبؤس الناس؟ هل يجرؤ على مواجهة طواغيت الاحتكارات والعولمة؟ قد يفعل ذلك، وقد لا. غير أن أميركا تتخوف من بابا يشغله الفقراء، بدل أن يكون مندوباً لدافوس في روما. لذلك، شنت وسائل الإعلام الأميركية حرباً على «الظلال» التي رافقت أسقفية فرنسوا في الأرجنتين، وفتحت ملفات ضحايا العسكريتاريا الأميركية، بأيد لاتينية وبنادق أرجنتينية ومرتزقة السي.آي.إي، واتهمته بارتكاب التعاون مع الاستبداد.

لا تستطيع أميركا أن تركن إلى بابا يتحسس الفقراء في العالم، ويشرعن: «كنيستي كنيسة فقيرة للفقراء». هؤلاء الفقراء، هم ضحايا الاستبداد الرأسمالي الكوني، هم ضحايا الشركات العملاقة العابرة القارات، هم ضحايا «الأممية اللصوصية» المنتشرة في «طورا بورا» البورصات العالمية و.. أميركا، والغرب معها، يريدون الفقر موضوعاً لتوظيف الأموال بهدف دراسته فقط، ولعقد المؤتمرات بحجة خفضه، فيما يتزايد ويزيد من بؤس البشرية الكبير.

قد يكون للبابا فرنسيس «ظلال»... قد يكون قد ساهم في موقف مضاد لكهنة ناضلوا ضد الاستبداد، تحت لواء «لاهوت التحرير» المسيحي، الذي كافحته الكنيسة طويلاً... إنما، فرنسيس الجديد، لا يشبه أسلافه، ولغته ليست من خشب، وإطلالته، ليست من شمع... فيها ضوء ما، فمن له عينان؟

الرجل القادم من آخر الدنيا، ليكون بابا على الكنيسة، سارع إلى طمأنة اليهود، حسنا! يريد أن يستمر التقارب معهم؟ فليكن! لن يطول الزمن الذي يبادر فيه إلى تقارب مع المسلمين. حسناً! فليكن ذلك أيضا. غير أن هذا لا يعني الكثير، إلا على مستوى الفهم المتبادل، والصفح المكتوم، والعلاقات الودية، ولن يرقى إلى أكثر من ذلك.
حوار الأديان وقف على النصوص والنفوس. دروبه لاهوتية وفقهية متشعبة، غير أن الحوار المرغوب، هو في أحوال الإنسان والشعوب ومصائرها... الله كفيل بحماية ملكوته الديني، والسياسة كفيلة بتدمير الناسوت الأممي.

حوار أديان! فليكن. إنما أين فلسطين؟ لقد بدت في تاريخ الكنيسة الحديث، وكأنها ليست من هذا الكوكب. ولا «سينودس» من أجلها... فلسطين هذه هي أم المسيح المصلوب بلا قيامة، هي مريم الساهرة على تراجيديا إنسانية غير مسبوقة، فلسطين هذه، بلا رجاء مسكوني، انها الضحية المختارة من غرب مجرم بحق اليهود، وكنيسة تواطأت ضدهم.

لم يشفع لفلسطين أن الصخرة كانت من فلسطين، لقد رُميت أمام الكواسر، كما رُمي المسيحيون للأسود الجائعة في حلبات أباطرة الرومان.
ليت البابا الجديد، القادم من آخر الدنيا، يعيد فلسطين إلى هذه الدنيا، ويتعامل معها، على الأقل، بالروح، تعاملا تقره أصول المسيحية انتماء ووجوداً... فليطمئن قداسته، بأن «اليهود» يلقون عطفا إضافيا وحضوراً طاغيا في قارات الأرض السياسية، لا يدانيه عطف على أي جماعة. هو تعاطف التعويض الذي صار التعاطف المفروض، بقوة الدعاية والتحريض، ضد كل من يتلفظ بكلمة نقد عادية ضد اسرائيل وحكوماتها...

لكن... أين فلسطين؟ ان البحث عنها غير مكلف. فهي قتيلة تقتل كل يوم، ويمثل بها، وورثة بطرس الفلسطيني يخشون الاقتراب من جلجلتها.
أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. قال السيد لبطرس. ونقول لسيد الفاتيكان الجديد.. فلسطين صخرتنا. فهل من الوفاء لإرثها ان تحتل مرتبة الأيقونة، لتحرس من لصوص الهيكل؟

نحلم بفلسطين، كدين إنساني، له حق الحضور، في مطارح الحوار والنقاش والاهتمام والانتماء.
قد يبقى الحلم حلماً... إنما، عليه أن يقض مضجع الكنيسة دائما، وهذا يحمّل أساقفة وكرادلة وكهنة المشرق مسؤولية قرع الجرس الفلسطيني في قباب الفاتيكان وفي ساحة القديس بطرس... الفلسطيني.