موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ١١ مارس / آذار ٢٠١٩
الاستقرار الأسري.. لتوافق العلاقات وسلامتها

د. أمينة منصور الحطاب، مستشارة نفسية وتربوية :

عاد الزوج من عمله فوجد أطفاله الثلاثة يلعبون في الرمل بملابس النوم التي لم تتبدل منذ الصباح، كما وجد أطباق الطعام قد تبعثرت هنا وهناك فطعام الأفطار ما يزال على المائدة وكذلك الملاعق والأكواب، لقد كان البيت يعج بالفوضى فالمصباح مكسور والنوافذ مفتوحة والسجاد ممرغ بالتراب والملابس متناثرة والألعاب مبعثرة وتكاد تسمع صوت التلفاز من عدة أميال، يا إلهي ما هذه الفوضى العارمة لابد أن مكروها قد أصاب زوجتي هكذا حدث الزوج نفسه وأسرع يبحث عنها في غرف المنزل حتى أنه كاد يتعثر ببقعة مياه ترنحت أمام باب الحمام فوجدها مستلقية على سريرها تقرأ رواية طويلة، نظرت إليه والابتسامة لا تفارق شفتيها وقالت: كيف كان يومك؟ نظر إليها في دهشة وسألها ماذا حدث اليوم؟ ابتسمت وقالت: كل يوم عندما تعود من عملك تسألني باستنكار ما الشيء المهم الذي كنت أفعله طوال النهار... أليس كذلك يا عزيزي؟ قال: بلى، فردت عليه حسنًا أنا اليوم لم أفعل ما أفعله كل يوم... !!

إن الاستقرار الأسري معنيٌّ بالعلاقة الأسرية الناجحة التي تقوم على التفاعُل الدائم بيْن أفراد الأسرة جميعًا، والتي تُهيء للأبناء الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية اللازمة لإشباع احتياجاتهم في مراحل النمو المختلفة، وتتسم هذه العلاقة بسيادة المحبة والديمقراطية والتعاون بين أفرادها في إدارة شؤونهم الأسرية مما يدعم العلاقات الإنسانية بينهم ويحقق أكبر قدرمن التماسُك والتقارُب داخل الأسرة، كما يُعرَف الاستقرار الأسري بأنه العلاقة الزوجية السليمة التي تحظى بقدرٍ عالٍ من التخطيط الواعي الذي فيه الفردية والتكامُل في أداء الأدوار؛ لتحديد كيفية تحمل المسؤوليات والواجبات ومدى القدرة على مواجهتها مع اعتبار ديمقراطية التعامُل في الأسرة حتى تستطيع الصمود أمام الأزمات وتحقيق المرونة والتكيف مع المتغيرات المختلفة.

ومن أسس الاستقرار النفسي: الملاءمة التي يقصد بها اكتساب الزوجيْن صفة التوافُق بعد زواجهما، والقدرة التي تعتمد على إمكانية الفرد في ترجمة مظاهر الملاءمة إلى أفعال ملموسة في علاقته مع الآخرين وخاصة المواقف التي تحتاج إلى حسم الصراع وحل المشاكل التي تعترض الأسرة في حياتها، وكذلك الجهد الذي يقصد به القدرة على تحمل الآخرين وقت الشدة وفي المرض وعند الصعاب التي تواجههم، ومن المؤكد أن الزواج يكون أكثر استقراراً إذا بذل كل من الزوجيْن جهداً لتحمل الطرف الآخر وتحمل المشكلات التي تعترض حياتهما الزوجية، والإعالة إذ أن الأسرة لا يمكنها العيش بمعزل عن المثيرات الخارجية لذا فإن الدعم والمساعدة الخارجية التي تقدم للأسرة تُسهِم بشكل كبير في استقرارها وتماسُكها فالأقارب والأهل والأصدقاء يلعبون دوراً في استقرار الحياة الأسرية للزوجيْن.

وهناك عدة خصائص ومظاهر للاستقرار الأسري منها: اتفاق الزوجيْن على الأدوار المختلفة التي يؤديها كل منهما بالإضافة إلى التوافق بيْن هذه الأدوار وتوقعات الآخرين، وكذلك اتفاق الزوجيْن على سياسة الأسرة وعلى تسيير أمورها بغض النظر عن الخلافات التي توجد بيْنهما، وديمقراطية العلاقة في الأسرة حتى يكون لجميع أفرادها الحق في التعبير عن رأيهم في كل ما يجري في الأسرة أما اتخاذ القرارات فتكون للرأي الجماعي ولرب الأسرة، وكذلك الصمود أمام الأزمات التي تتعرض لها الأسرة سواء كانت أزمات داخلية أو خارجية، والتضحية من أجل الأسرة بمعنى أن يتفانى الزوجان من أجل دوام واستقرار الحياة الأسرية وعدم تعرضها للتفكك والانهيار، وأخيرًا التكيف بيْن الزوجيْن فيما يتعلق بأمور عدة أهمها: العلاقات مع الأهل والأقارب، وقضاء وقت الفراغ، واختيار الأصدقاء، ولهذا يُعد التوافق الأسري أساس السعادة الأسرية التي تتمثل في الاستقرار والقدرة على تحقيق المطالب الأسرية وسلامة العلاقات بيْن الوالديْن وبيْن الأولاد بعضهم ببعضٍ حيث يسود الحب والثقة والاحترام المتبادَل بيْن الجميع.

وتُعتبَر الأسرة الإطار الذى يحدد تصرفات أفرادها فهي التي تشُكل حياتهم وتضفي عليهم خصائصها وطبيعتها، والأسرة هي بؤْرة الوعي الاجتماعي والتراث القومي والحضاري فهي التي تنقل هذا التراث من جيلٍ إلى جيل آخر وهى مصدر العادات والتقاليد والعرف والقواعد السلوكية والآداب العامة، وهى دعامة الدين والوصية على طقوسه ويرجع إليها الفضل في القيام بأهم وظيفة وهي عملية التنشئة الاجتماعية.

تؤثر الأسرة بوصفها نظاما اجتماعيا فيما عداها من النظم الاجتماعية وتتأثر فيها فإذا كان النظام الأسري في مجتمع ما فاسدًا فإن هذا الفساد يتردد صداه في وضعه السياسي وإنتاجه الاقتصادي ومعاييره الأخلاقية وبالمثل إذا كان النظام الاقتصادي أو السياسي فاسدًا فإن هذا الفساد يؤثر في مستوى معيشة الأسرة وفي وضعها القومي وفي تماسُكها.

ويُمكِن أن تُستخدم الأسرة كأداة لتحديد وضع الفرد في نظام طبقي معين، فوضع الفرد الاجتماعي يتحدد من خلال انتمائه الأسري، كما أن شخصيته الثقافية الاجتماعية تتكون وتأخُذ ملامحها وسط الجماعات التي ينتمى إليها وأهمها الأسرة، وفى هذا الصدد يجدُر الإشارة إلى تقسيم الأنثروبولوجي الأمريكي رالف لنتون للمكانة الموروثة والمكانة المكتَسبة. وخلاصة هذا التقسيم أن هناك مجتمعات يتحدد فيها وضع الفرد من خلال وضع أسرته في المجتمع » المكانة الموروثة » أو أن تتحدد مكانة الفرد من خلال إنجازاته الفردية التي تجعله بالمثل محل تقدير المجتمع » المكانة المكتسبه».

وللإسرة وظائف عدة أهمها: الإنجاب والتناسل وحفظ النوع من الانقراض؛ ولإنجاب أطفال مكتملي الصحة لا بد أنْ تكون الناحية الجسدية عند الأبويْن سليمة وكذلك العقلية، وتأمين الاحتياجات الاقتصادية حيث أنه من المعروف أن رب الأسرة هو الكفيل الاقتصادي لجميع مطالب الأسرة وهو العائل الأول المسؤول عن كل الموارد الاقتصادية لكن مع زيادة المتطلبات الأسرية تطلب الأمر خروج الزوجة للعمل وتعويد أفراد الأسرة على الاستقلالية وتحمل المسؤولية.

ومن الناحية النفسية نجد أن الأطفال يتأثرون بالمناخ النفسي السائد في الأسرة وبالعلاقات القائمة بيْن الأب والأم ويكتسبون اتجاهاتهم النفسية بتقليد الآباء والأهل وبتكرار الخبرات العائلية الأولى وتعميمها لاحقا، وتنشأ الشخصية السوية في الأسرة المستقرة والهادئة التي تشيع فيها الثقة والوفاء والحب والتآلُف واحترام فردية الشخص والمحافظة على كرامته بين الناس وهذا الاستقرار ينتج عن العلاقة الجيدة والتفاهُم بيْن الزوجيْن وخلو جو المنزل العام من أي اضطرابات في هذه العلاقة، وأخيرا الوظيفة الاجتماعية حيث كانت الأسرة ولا تزال أقوى وسيلة يستخدمها المجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي ونقل التراث من جيل لآخر، وبالتالي تعلّم الفرد لمتطلبات المجتمع واتباع تقاليده والتعرف على ثقافته وذلك كله يتم بشكل أفضل في السنوات الأولى من حياة الطفل حيث يكون سهل التأثر والتشكيل وشديد القابلية للتعلم وقليل الخبرة وفي حاجة دائمة لمن يرعاه.

إن التطور التكنولوجي في وسائل التواصل والاتصال أدى إلى ظهور تحديات مختلفة تواجه الأسر في أداء مهامها والمحافظة على استقرارها ومن هنا برزت أهمية الارشاد الأسري الذي يعرف بأنه مجموعة من الخدمات الإرشادية التي يقدمها مختصون في الإرشاد النفسي تهدف إلى مساعدة الأفراد والأسر على حل مشكلاتهم الأسرية وتقديم النماذج التربوية والنفسية المعينة على التكيف النفسي الجيد في سبيل بناء أسرة متماسكة بناءة وبالتالي تكوين أفراد صالحين يساهمون في بناء مجتمع متماسك.

(الرأي الأردنية)