موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
الاراضي المقدسة
نشر الجمعة، ١٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٤
الأحد الخامس من لوقا

الأب بطرس جنحو - الأردن :

فصل شريف من بشارة القديس لوقا
(لوقا 16 : 19-31)

قال الربُّ كان انسانٌ غنيٌّ يلبَس الأُرجوان والبَزَّ ويتنعَّم كلَّ يومٍ تنعُّماً فاخِراً * وكان مسكينٌ اسمَهُ لعازر مطروحاً عند بابهِ مصاباً بالقروح * وكان يشتهي ان يَشبع من الفتاتِ الذي يسقط من مائدة الغني . بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحهُ * ثمَّ ماتَ المسكين فنـَقَلتهُ الملائكِةَ الى حِضنِ ابراهيم . ومات الغني ايضًا فدُفن * فرفع عينَيهِ في الجحيم وهو في العذاب فرأى ابراهيمَ من بعيدٍ ولعازر في حِضنهِ * فنادى قائلاً يا أبتِ ابراهيمُ ارحمني وأرسِلْ لعازرَ ليغَمِسَ طَرَفَ اصبَعِهِ في الماء ويـبرِّدَ لساني لانـّي مَعَذَّبٌ في هذا اللهيب * فقال ابراهيمَ تذكَّر يا أبني انـَّك نلِـتَ خيراتـِك في حياتـِك ولعازرَ كذلك بلاياهُ .والآن فهو يتعزَّى وانت تتعذَّب * وعلاوةً على هذا كلّهِ فبينَنا وبينَكم هوَّةٌ عظيمةَ قد أثبـِتَت حتـَّى إِنَّ الذين يريدون أن يجتازوا من هنا اليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك ان يعبرُوا الينا * فقال أسألكَ اذَنْ يا أبَتِ ان تـُرسِلَهُ الى بيت ابي * فإنَّ لي خمسةَ إخوةٍ حتـَّى يشهدَ لهم لكي لا يأتوا هم ايضاً الى موضع العذاب هذا * فقال لهُ إِبراهيم إِنَّ عندهم موسى والانبياء فليسمعوا منهم * قال لا يا أبتِ ابراهيم بل اذا مضى اليهم واحِدٌ مِنَ الامواتِ يتوبون * فقال لهُ ان لم يسمعوا مِنَ موسى والانبياء فإنهم ولا إن قام واحدٌ من الاموات يصدّقونهُ .

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين

أيها الاحباء: في انجيل اليوم مَثَلِ الغنيِّ ولَعازر دروسٌ كثيرة. الغنيُّ في هذا المثَل هو رجلٌ فاقدُ الرَحمة قاسي القلب لا يلتفِتُ الى الفقراءِ ولا يهتَمُّ بهِم. متعجرفٌ متكبِّرٌ لا ينظرُ إِليهم بعينِ الرحمةِ إِنَّما غالباً بعَينِ الإِحتقار.

الربُّ يسوعَ علَّمَنا أَنَّهُ لا يستطيع أَحدٌ أَن يعبُدَ ربَّين: الله والمال، إِذاً، إِمَّا أَن نتعلَّقَ بالمالِ ونعشَقَهُ وإِمَّا أَن نضَعَ ثِقتَنا بالله ونعشَقَهُ ونتركَ كلَّ شيءٍ من أَجلهِ فيُصبح هوَ مَوضِعَ عِشقِنا الأَوحد. الربُّ يسوع يُسمِّي المالَ ربًّا، هو ربٌّ على الَّذينَ يعبدونَهُ. فإِذاً التعلُّق بالمال هو عِبادةٌ ولكنَّها عِبادةُ كُفْرٍ بالله.

فالغنى لن يكون بركة على صاحبه إلاَّ إذا ساعد به الفقير ليتخلَّص من فقره ويعيش عيشةً كريمة. أمَّا الفقر فليس لعنةً من الله, بل امتحانٌ يطَّلع به الله على طاعة الإنسان وثقته بتدبير حكمته الإلهيَّة.

في مثَل الغنيِّ ولَعازر نرى الغنيُّ قاسيَ القلب، قلبُهُ حجرٌ. لماذا؟ لأَنَّه عبد المال والشهوات وهو في اعلى درجات الانانية ، هو لم يتربى على العطاء وعلى المحبة والانفتاح على الاخر .لا ينظُر إلى الآخرين إِلَّا من بابِ المصلحة والفائدة. إِن مرَّ عليهِ فقير قال لهُ "الله يعطيك" وصَرَفوه. اللهُ أَرسله ُإليه ليعطيه، لم يرسَلَهُ إليه لِيصرِفَهُ خالي اليدَين.

هبط الغنيُّ إلى مقرِّ العذاب لا لأنَّه كان غنيَّاً, بل لأنَّه استأثر بخيرات الدنيا استئثاراً بعيد المدى بلغ حدود القساوة اللاّإنسانيَّة, فلم يعبأ بالفقير ولا بجوعه ولا بمرضه وحرمانه.

لا شكَّ في أنَّ الكتاب المقدَّس يقبل أن يمتلك الإنسان الفرد خيرات الأرض. ولكنَّه يفرض عليه أن يتصدَّق على الفقراء بقسمٍ من المال الذي أنعم الله به عليه. فلا يجوز, بموجب فضيلتَيْ العدل والمحبَّة, أن يتمتَّع وحدَه بخيراته الوافرة وأن يترك الفقراء قابعين في بؤرةِ فقرهم. قال إبراهيم ذلك للغنيّ: " تذكَّرْ أَنَّك نِلتَ خيراتِكَ في حياتِكَ " أيْ, لقد استأثرت بخيرات الأرض, ولم تُشرِك فيها الفقراء, فأنت تُعاقب على ذلك.

الغنيُّ كان قاسي القلب بلا شفقَة وبلا رحمة، بلا حِسٍّ اجتماعي وبلا ذَوق إِنِساني. لم يُشفِق على لَعازر الَّذي كان يعيشُ الى جانبِهِ مُلقاً على بابِه مجروحاً متألِّماً. ما كانَ يُحِسُّ بأَلمهِ، بقروحِه وبجراحِه، حتَّى ما كان ينظرُ إِليها برحمَةٍ وشفقَة وحنان. حبُّ المال قسَّى قلبَهُ فصارَ حجراً لا لحماً. أَشفقَتِ الكلابُ على لَعازر فكانت تلحس قروحَهُ لتُبَرِّدَ آلامَهُ. هل أَرادَ يسوعَ المسيح أَن يقولَ لنا إِنَّ الكلابَ أَكثرَ رحمةً من الأَغنياء؟

الموت لا يفرق بين المؤمنين. كانَ لِلَعازر تعزيَة في الجحيم بينما كانَ الغنيُّ يتعذَّب.

مع الموت ينتهي كلُّ شيء. مَن تابَ على الأَرضِ تابَ ونالَ، ومَن لم يَتُبْ خَسِرَ. الغنيُّ نال اجره في الارض لعبادته المال ولتمتُّعِه بالمال، هو يتألم الان،أَمَّا لَعازر فذاقَ الآلام. وهو الآنَ يتعزَّى.

كما أنَّ الفقر ليس لعنةً من الله. فإنَّ له أسباباً لا تُحصى، ومن أهمِّها المرضُ والشيخوخةُ وعبءُ الأسرة الكبيرة والركودُ الاقتصادي. فالله يرضى أن يتعذّب الفقراء بعذاب الفقر ليمتحن إيمانهم وصبرهم واتِّكالهم على العناية الإلهيَّة, ويفسح للأغنياء المجال لأن يقوموا بأعمال الرحمة والمحبَّة.

هذا وقد شَغَلَ موضوع المال والغنى، كما مسائل الفقر والغنى، فكر القديس باسيليوس طيلة حياته. ولطالما ارتبط بمسائل العدالة الاجتماعية أو الحياة الأخوية الإنسانية. فهو وقف موقف مسيحي حيال هذه المسألة ، أي أنه وقف موقفاً إيجابياً. ولكن ما يميزه هو أساسه الأنثروبولوجي المرتبط بعلاقة الإنسان بإلهه والقريب، أي فكرة المسيحية في هذا الموضوع. فالمال لا يدرسه من وجهة نظر اجتماعية.

الانتقال من الفقر إلى الغنى، لم يكن هناك بينهما إي فصل في حديث القديس باسيليوس عن الغنى والفقر، بل كان دائما يلازمهما مع بعضهما البعض حتى يضع الصورة الصحيحة والواضحة إلى الجميع عن بشاعة كل من الفقر والغنى إذا لم يكن هناك طريقة جيدة في العيش.

ونحن في الكنيسة نهمتم بالجميع وخاصة مساعدة العائلات غير الميسورة لتعيش حياة كريمة تليق بنا كأخوة في المسيح . وعلينا واجب كبير وهو العمل على بناءُ مدارس مِهَنيَّة تعلِّم أبناء الطبقة العاملة الفقيرة المِهَن المتنوِّعة الموافقة لحاجات بلدهم، وتُمكِّنهم من العمل وكسب معيشتهم بكرامة.

إنَّ عادة مساعدة المحتاجين لا تنشأ في قلوب الميسورين تلقائيَّاً. فإنَّنا نحن البشر مفطورون على الأنانيَّة والانطواء الذاتي. فلا بدَّ من زرع عادة مؤازرة الفقراء في قلوب الأطفال منذ صغرهم، فيعتادون الإحسان والتطلُّع إلى أوضاع المساكين، ويؤازرونهم على قَدْرِ إمكانيَّاتهم عندما يكبرون. إنَّ هذه العادة الحميدة جزءٌ هامّ من التربية المسيحيَّة، وتقع على عاتق الأهلِين والمربِّين في البيت والمدرسة والكنيسة.

كلمة أخيرة أيها الأحباء : في لحظة مغادرتنا من هذا العالم ، إِمَّا أَن نموتَ كالغنيِّ وإِمَّا أَن تَحمِلنا الملائكة الى حُضن لَعازر فنموتُ في تعزيةٍ كبيرة.

ماذا ينفَعُ الإِنسان في تلك الساعة لو ربِحَ العالم كلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ لا ينتفعُ بشيءٍ. نجِدُ نقيضانِ كبيران وهما: التعزيَة في الدنيا والتعزيَة في الآخرة. الَّذينَ يعيشونَ للدنيا يخسَرونَ الآخرة، والَّذينَ يحمِلونَ الصليبَ في الدنيا يربحونَ الآخرة. فالتَقوى إِذاً هي خيرُ تجارةٍ وهي تجارةٌ رابِحة.

المؤمنُ يحمل صليبَهُ للحياةِ الأَبديَّة، والغيرُ المؤمن يحمِل صليبَهُ للهلاك. لا حلَّ وسطاً بين الأَمرَين: إِمَّا أَن تحمِلَ صليبكَ للآخرة، وإِمَّا أَن تحمِلَ صليبَكَ للهلاك.