موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٦ يونيو / حزيران ٢٠١٩
الأب ريمون جرجس يكتب: الحياة الرهبانية والعمل الرسولي

دمشق - الأب د. ريمون جرجس :

الكنيسة واقعة مؤسساتيَّة إلهيَّة-إنسانيَّة، هي العلامة والأداة في الاتّحاد الصّميم بالله ووحدة الجنس البشريّ برمتّه"، كما هو معلن في الدستور العقائدي نور الأمم (رقم 1). وعندما نتحدث عن الكنيسة، فنحن نتحدث عن أنفسنا لأن الكنيسة هي نحن، وليس الإكليروس فقط، كلنا جميعًا، شعب الله. لذا يعلن الدستور العقائدي في المجمع الفاتيكاني الثاني "نور الأمم": "حالة الحياة –المكرَّسة- هذه نظرًا إلى تركيب الكنيسة الإلهي والتسلسلي، ليست في منزلةٍ وسط بين الحالة الإكليريكية والحالة العلمانية. لكن الله يدعو بعض المؤمنين بالمسيح من كِلتا الحالتين لينعموا في حياة الكنيسة بالهبة الخاصة ويخدموا، كلٌّ حسب طريقته، رسالة الكنيسة الخلاصية" (رقم 43). ورسالة الكنيسة الخلاصيّة هي رسالة المسيح نفسها، أي تأسيس الملكوت وإكماله وتواصل عمله بين النفوس، فأرسل لها الروح لكي يساعدها ويرشدها ويكون هوَ العامل الخفي في هذه المهمة.

والكنيسة تحتاج إلى رجال ونساء يجيبون بسخاء بفعل إبراز نذورهم المشورات الإنجيليَّة، على الدعوة لترك منازلهم وعائلاتهم وأوطانهم ولغاتهم، ويُرسلون إلى الأمم، ويعلنون كلمة الله، ويشهدون للإنجيل ويحتفلون بحياة الروح القدس، ويدعون إلى التوبة. هذه المهمّة في العالم يجب أن تكون لنا في الأساس. نحن جميعًا مرسلون بدعوة من السيد المسيح: "كما أرسلني الأب، أرسلكم أنا أيضًا" (يوحنا 20: 15). كل مكرَّس هو مرسل، بحكم تكريسه الأول في سرّ المعموديَّة وثمَّ لنذوره المشورات الإنجيليَّة، فقبل دعوة خاصّة للذهاب إلى مكان قريب أو بعيد لإعلان محبّة الله.

الحياة الرهبانيَّة، اتّسمت بالاضطلاع بأعمال الكرازة والتبشير والرسالة في الكنيسة. وكما يعلّمنا المجمع الفاتيكاني الثاني أن الحياة الرهبانيَّة هي هبة من الروح للكنيسة، لا يشير إلى طبيعة الهبة فقط، ولكن أيضًا إلى الواقع الذي قُدّمت له الهبة: ألا وهي الكنيسة، أي الجسد الكنسيّ. هذه الإشارة تعمل على تحديد الإطار الذي يجب أن تؤخذ فيه الحياة الرهبانيَّة بعين الاعتبار، كي لا تقف العائلات الرهبانيَّة على تمجيد امتلاكها "كاريزما تأسيسيَّة"، وتجهل الانتماء إلى الكنيسة. الإطار هو الكنيسة: الحياة المكرَّسة هي هبة للكنيسة، ولدت في الكنيسة، تنمو في الكنيسة، موجهة كلّها إلى الكنيسة". لذلك، تنتمي الحياة المكرَّسة إلى البنية الأساسية للكنيسة، كما أرادها المسيح نفسه في الجماعة التي أسسها. "من دون الحياة المكرَّسة، الكنيسة لن تكون كما أرادها المسيح". يقول البابا فرنسيس: "إنَّ دعوتكم هي كاريزما (موهبة) أساسيَّة لمسار الكنيسة، من غير الممكن لمكرَّس أو مكرَّسة أن "لا يصغيا" مع الكنيسة. "الاصغاء" مع الكنيسة التي ولدتنا في المعمودية؛ "الإصغاء" مع الكنيسة التي تجد تعبيرها البنويّ في الأمانة لسلطة التعليمية، والشركة مع الرعاة وخليفة بطرس، أسقف روما، علامة مرئية على الوحدة. هذا هو المهمّ، ألا يعمل كل شخص مكرَّس "بقوة الإلهام الشخصيّ، ولكن في اتحاد مع رسالة الكنيسة وباسمها" [...]. إنه الأنفصام المستحيل أن نفكر في العيش مع يسوع بدون الكنيسة، إتّباع يسوع خارج الكنيسة، ومحبة يسوع دون حب الكنيسة (راجع المرجع نفسه، 16)". فالحياة المكرَّسة، هي "هبة إلهية تلقتها الكنيسة من ربها والتي تحافظ عليها بأمانة". والكنيسة هي التي تتلقى فعل التكريس، من خلال تلقى النذور أو غيرها من الروابط المقدسة. والشَّخص الذي ينذر المشورات الإنجيليَّة (تكريس شخصيّ) يدخل في حالة من الحياة المكرَّسة (تكريس موضوعي) ويلتزم القيام في الكنيسة خدمات خاصّة بالشكل التكريس المتخذ أو وفقاً لروح وطابع المؤسّسة الذي هو جزء منها.

لذلك، يشمل فعل التكريس حياة الشَّخص المكرَّس في كيانه وعمله في الكنيسة؛ وهذا هو السبب في كونه يشكل عملاً ليس فقط في النطاق ثقافي، ولكن عمل محبة، الذي هو المحُرّك في ممارسة المشورات الإنجيليَّة. حبّ لله حُرّ وشخصيّ وفريد. يستثمر الشَّخص إلى درجة أنه لم يعد ينتمي لنفسه بل ينتمي إلى المسيح". فالتكريس، كإتحاد زوجي مع الله، يجعلنا نعانق الرَّبّ في وحدة كاملة وأبدية. مما يجعل التكريس يكتسب طابع "المحُرّقة" كعلامة لعمل المحبة الكاملة لله والناس. ومن يكرس نفسه تمامًا للآب من خلال المشورات الإنجيليَّة لا يمكن أن يكون إلا مرسل لإعلان هبة الله للناس . "إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه" (يوحنا 14؛ 9-10)". فلا يمكن للشاهد أن يعطي شهادة، إن لم يكن قد اختبر هو شخصيّاً كلام الله، حتى الوصول إلى درجة "التطبيق الذاتي"، عندئذ تصبح الشهادة التعبير الأكثر أصالة عن الهوية الشخصيّة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الشهادة ستكون فارغة من المضمون، كلام يطن ولا معنى له. يؤكّد البابا القديس يوحنا بولس الثاني في Redemptionis donum 25 آذار 1984 (عدد 15) على هوية الرهبان الخاصّة في الكنيسة: "... حتى لو كانت أعمال الرسوليّة العديدة التي تقومون بها هي مهمة للغاية، فإنَّ العمل الرسوليّ الأساسي هو ما أنتم عليه وفي الوقت نفسه من أنتم في الكنيسة". وبعبارة أخرى، يقول: "ما يهم أكثر ليس ما يفعله الرهبان، ولكن ما هم عليه كأشخاص مكرَّسين للرب".

في هذا الصدد نجد الشرع اللاتيني عندما يتحدث عن العمل الرسوليّ للمؤسسات الرهبانيَّة يؤكد في القانون 673 إن أهم عمل رسولي لجميع الرهبان يقوم أساسًا على شهادة حياتهم المكرّسة، التي يُغذونها بالصلاة والتوبة. لذلك، أهم وأول عمل رسوليّ هي شهادة حياة المكرَّس؛ وبعد ذلك، ليس فقط من الناحية الزمنية، ولكن أيضا من الناحية الأخلاقية، تأتي الأشكال الأخرى من العمل الرسوليّ، والتي لها قيمة أقل. وهذه الشهادة تصبح حاضرة في العالم قبل الأعمال من خلال التطابق والانسجام مع يسوع الفقير العاذب والمنواضع القلب. إنَّها ”الشَّهادة البيضاء“ أي شهادة بدون سفك دم.

يوضّح الإرشاد الرسوليّ "الحياة المكرَّسة" في العام 1996: أنَّ "النبوءة الحقيقية هي تلك التي تنشأ من الله، من خلال الصداقة معه، الاستماع بإنتباه إلى كلمته في ظروف مختلفة من التاريخ. يشعر النبي أنه يحترق في قلبه بشغف قداسة الله ، وبعد أن يقبل الكلمة في حوار الصلاة، يعلنها بحياته وبشفتيه وبتصرفاته، مما يجعل نفسه يتحدث بلسان الله ضد الشَّر والخطيئة"". إنها الكلمة التي تدعونا إلى العمل الرسوليّ؛ التي تنير، تنقي؛ "لسنا سوى عبيد". هذا ما قامت به أمنا مريم العذراء، أم الكلمة المتجسد "حفظت كل هذه الأشياء في قلبها" (لو 2، 19). لقد كانت تعرف كيف توحد الأحداث والأفعال والتفاصيل مع مخطط الله. لقاء مع الله لا ينفصل عن لقاء مع الناس الذين أرسلهم إلينا. بعد تدخّل الله في حياة مريم، تدخّلت هي في حياة الآخرين. إذن العمل الرسولي منشأه هو الله، يُنجز من خلال الكنيسة. فالمؤسسة الرهبانيّة كشخصية اعتبارية تعمل باسم الكنيسة، والكنيسة تمارس رسالتها من خلال المؤسسة الرهبانيَّة علانيةً. لذلك، نستطيع القول أن "كل شكل من أشكال الحياة المكرَّسة هو تبشيري ورسوليّ". أي أن مهمة الحياة المكرَّسة هي "مهمة الوجود" في الواقع الملموس؛ علامة حقيقية للمسيح في العالم". هنا نتذّكر كلمات البابا بندكتُس السّادس عشر في الإرشاد الرسوليّ"شركة وشهادة" (عدد 52): "ليجتهدِ الرُّهبان والرّاهبات أن يسعوا بالفعل في اِتباع المسيح بطريقة جذريّة أعمق، من خلال اعتناق المشورات الإنجيليَّة: الطَّاعة والعفة والفقر. فعطيّة ذاتهم بلا تَحفّظ للربِّ ومحبّتهم المتجرِّدة لكلِّ إنسان تشهدانِ لله، وهما علامتان حقيقيّتان لمحبِّته للعالم. تشكّل الحياةُ المكرَّسة، من خلال عيشِها كعطيِّةٍ ثمينة من الرّوح القدس، عضداً لا بديلَ عنه لحياةِ الكنيسة ولعملها الرَّعَويِّ". يقول البابا بندكتس السادس عشر أيضًا أمام أعضاء جمعيات الحياة المكرَّسة ومؤسسات الحياة الإرسالية (5 شباط 2007): "عندما يتم التخلي عن كل شيء من أجل اتباع المسيح، وعندما نهبه كل ما هو ثمين ونواجه جميع التضحيات، حينها، يصبح الشَّخص المكرَّس، كما كانت مع المسيح، “علامة تناقض”، لأن طريقته في التفكير والعيش هي غالبًا معاكسة لمنطق العالم، التي تعرضها لنا وسائل الإعلام غالبًا".

إذن منشأ العمل الرسوليّ هو الله: الله نفسه الذي يتقبل تقدمة ذات الشَّخص ويعطيه المهمّة الرسوليّة، من خلال الكنيسة. والراهب، بقيامه بنشاط رسوليّ، لا يمكن اعتباره شيئًا غريبًا أو مكملًا أو تابعًا لتكريسه أو ما هو أسوأ من ذلك. إنه جزء من دعوته. بل تكريس الذات لله والتفاني من أجل العمل الرسوليّ يجب أن تشكل الوحدة؛ الشخص لا يكرّس نفسه ظاهريًا فقط للعمل الرسوليّ، بحجة أن العمل الرسوليّ ينتمي إلى طبيعة الحياة الرهبانيَّة أو أنَّ الحياة الرهبانيَّة هي بالفعل عمل رسوليّ، ولكن العمل الرسوليّ نفسه ينبع من الروحانية الرهبانيَّة المكرَّسة لله في النذور المشورات الإنجيليَّة. ليس للعمل الرسوليّ معنى إذا لم يولد من المصدر الذي هو الله: هو الذي يرسل، وهي رسالتُه التي يعلنها الرسول. الله نفسه الذي يعطي القيمة والفعالية للعمل الرسوليّ. بقدر ما يولد العمل الرسوليّ من الاتحاد مع الله، فإنه يعمّق هذا الاتحاد ويدعمه. بهذا المعنى، يولد العمل الرسوليّ من الصلاة ويقود إلى الصلاة. ويترتب على ذلك أنَّ حياة كل راهب أو راهبة يجب أن تكون جديرة بالتكريس، وإلا فإنها لا تستطيع أن تتخذ قيمة الشهادة. الصلاة والتوبة هما روح لكلّ عمل رسوليّ. لذا، العمل الرسوليّ ليس ملحقًا للتكريس، إنه عنصر من عناصر التعبير عن حقيقة فعل التكريس؛ إنَّه ينتمي إلى طبيعة الحياة المكرَّسة. أعلن القرار في تجديد الحياة الرهبانيَّة "المحبَّة الكاملة" من المجمع الفاتيكاني الثاني: "إن من جوهر الحياة الرهبانيَّة، في تلك المؤسسات، العمل الرسوليّ والخيري، وذلك كخدمة مقدسة وكعمل يتميز بالمحبة، أوكلته الكنيسة الى هذه المؤسسات كي تقوم به باسمها. لذلك، فإنَّ الحياة الرهبانيَّة ليست غاية في حد ذاتها؛ ليست بتصميم أنانيّ وذاتيّ، سواء كان ذلك من الجانب العاطفيّ أو الفكريّ. الحياة الرهبانيَّة هي هبة كنسية وخدمة؛ إنّها من أجل الآخرين. في هذا السياق، يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاي على ضرورة التكامل بين الحياة الرهبانيَّة والعمل الرسوليّ. هناك حقيقتان، بعيدتان عن التناقض، يجب أن تندمجا في نفس الالتزام. كما هو مبين في نفس النص، الراهب بعمله الرسوليّ يجب أن يعتبر نفسه مبعوثًا لتنفيذ المهمة باسم الكنيسة. لهذا يجب أن تكون حياة الأعضاء الرهبانيَّة كلها مشبعة من الروح الرسوليّ وأن يكون عملها الرسوليّ كله منتعشاً بالروح الرهباني. ولكي يلبي الرهبان قبل كل شيء الدعوة في إتباع المسيح وخدمته شخصيّاً في أعضائه؛ يجب أن ينبثق نشاطهم الرسوليّ من إتحادهم به بالذات".

الدستور العقائدي "نور الأمم في المجمع الفاتيكاني الثاني، يؤكّد أنَّ العمل الرسوليّ يقع ضمن طبيعة الحياة الرهبانيَّة، وأنَّ المشورات الإنجيليَّة: "توحِّد، بشكلٍ خاص، مَن يمارسها مع الكنيسة وسرّها، وذلك بفضل المحبة التي تقودهم إليها، وَجَب أن يكرّسوا أيضاً حياتهم الروحية لخير الكنيسة جمعاء. وبالتالي ينبع للجميع واجب العمل، كلٌّ حسب قواه، وحسب شكل دعوته الذاتية إمّا بالصلاة، إمّا بالنشاط الفعّال على ترسيخ دعائم ملكوت الله في النفوس وتقويته ونشره في الكون كلّه .(LG, 44) إذن، الحياة المكرَّسة لها قيمة الشهادة تعطي بالتأكيد ثمارها في حياة الكنيسة كنشاط رسوليّ خاصّ بها. وفي هذه الحالة، الموضوع لا يتعلّق بعمل رسوليّ ولكن يوضّح روح العمل الرسوليّ: الوحدة الحميمة مع الله في المحبَّة. فالعمل الرسوليّ في حد ذاته، بحكم طبيعته، يتجه نحو رسالة الإنجيل، نشاط التبشير، الوعظ، التعليم؛ إنه النشاط الذي أنشأه الرَّبّ يسوع وأرسل الرسل إلى أنحاء العالم كي يبشروا ويعلّموا: هذه هي الخدمة التي بنيت عليها الكنيسة بشكل مباشر. لم يعد الأمر يتعلق بالمعنى الرسوليّ للأعمال، بل عن طبيعة الأعمال ذاتها. جميع الأعمال يجب أن يكون لها معنى رسوليّ، إذا تمت بمحبّة. الحياة كلّها لها بعد رسوليّ. لكنَّ الأنشطة الرسوليّة هي فقط تلك التي تهدف بطبيعتها إلى تحقيق غرضها. نادرا ما نضيف صفة "مقدس" إلى العمل الرسوليّ، لتمييزه عن الأنشطة الرسوليّة الأخرى بالمعنى الواسع، لتوضيح علاقتها مع الدرجات المقدّسة التي هي أساسها. ثم هناك الأعمال الرسوليّة. التي بحكم طبيعتها تهدف إلى أنشطة رسوليّة: تخدم العمل الرسوليّ. على سبيا المثال الرعايا. كما يمكن أن نميّز بين أعمال الرحمة الروحية أو الجسدية. هذه لا يمكن أن نسمىها أعمال رسوليّة بشكل صحيح. هي "تشترك في الوظيفة الكنيسة الرعوية". المشاركة في الوظيفة الكنيسة الرعوية تعني أنها لا تشكل الوظيفة الرعوية والرسوليّة للكنيسة بشكل صحيح؛ لكن تتخذ منها معناها، لأنها تستمد جذورها من الإيمان ويتم تنفيذها في نطاق الإيمان. الأعمال التي تساعد بها الكنيسة الفقراء والمرضى وكل معاناة إنسانية، روحية وجسدية على حد سواء، هي بالتأكيد جزء من مهمة الكنيسة، لأنها جزء أساسي من رسالة يسوع، لكنها في حدّ ذاتها ليست بأعمال رسوليّة: إنها في خدمة العمل الرسوليّ. كما انحنى الرَّبّ على المعاناة الإنسانية وتحمّلها كعلامة خلاص نهائي.

لذلك، كلّ مؤسّسة رهبانية التي تقبل بأعمال رسوليّة لا يمكنها أن تعتبرها أعمال خارجية أو غريبة عن طبيعتها أو طابعها الخاصّ. العمل الرسوليّ في هذه المؤسسات هي عنصر تأسيسيّ في التراث. علاوة على ذلك، لا ينظر إلى العمل الرسوليّ على أنَّه يتناقض مع التكريس الرهبانيّ. مع ذلك، رفضت الكنيسة دائمًا مفهوم استخدام التكريس كأداة للنشاط الرسوليّ. إذا اعترفنا بأننا كرسنا أنفسنا لله من أجل تكريس أنفسنا للنشاط الرسوليّ، فلن نفهم بعد ذلك الدعوة الرهبانيَّة كدعوة خاصة من الله للانتماء كليّاً إليه في شكل حياة الرَّبّ يسوع؛ والتكريس نفسه سوف يفقد كل معانيه لأنه لا يمكن تصور هبة الذات لله كوسيلة وأداة لتحقيق أهداف أخرى، حتى الأهداف النبيلة، مثل النشاط الرسوليّ.

هناك جانب آخر يتعلق بالأعمال الإرسالية في الحياة الرهبانيَّة. التطلع بانتظار ملكوت السموات لا يعنى إطلاقًا الانتقال والابتعاد عن الحياة العملية والمسؤولية تجاه المشاكل اليومية وتقديم يد المساعدة للمحتاجين كي يستطيعوا تجاوز صعوباتهم والتغلب عليها. التكريس يتطلب البدء الآن في تأسيس ملكوت السموات وجميع أعمال المحبة والخير المقدمة من المكرَّسين هي بمثابة مساهمتهم في بناء ملكوت السموات. ويجب التنويه بأن الانفتاح على الاحتياجات اليومية لا تعنى في ذات الوقت الإنغماس فيها للدرجة التي ينسى معها المكرَّس إنه ليس من هذا العالم، بل ينتظر أرض جديدة وسموات جديدة.

يعالج الإرشاد الرسوليّ "الحياة المكرَّسة"، هذا الموضوع في بند ٨٢ عندما يشير إلى الأعمال الخيرية المقدمة لخدمة الفقراء والتي تدفع بعض المكرَّسين لمحاربة الظلم الاجتماعي المتسبب الأول في مشكلة الفقر. لم تكتفي الرسالة بهذا الشكل من مظاهر الفقر، بل تناولت كافة الذين يتواجدون في حالة ضعف أو احتياج، مثل المهاجرين والمسنين والمرضى والأطفال. هؤلاء ليسوا فقراء بالمعنى المادي، ولكنه فقر من نوع آخر. تدعو الرسالة إلى التضامن مع هؤلاء، خاصة المهمشين منهم. ويعنى التضامن هنا مشاركتهم الظروف التي يعيشون فيها، العيش مثلهم محُرّومين من أشياء عدة. اختيار العيش كفقراء هو في حد ذاته، اعلان إنجيل الخلاص للفقراء. وتعرض الرسالة في البنود التالية (٩٠-٩٨) للأعمال الخيرية لمساعدة الفقراء وفقا للكاريزما الخاصة بكل مؤسّسة رهبانية. ويؤكد القديس البابا يوحنا بولس الثاني أن "خدمة الفقراء هي عمل تبشيري، وفي الوقت نفسه، ختم التبشير الإنجيلي وحافز للتوبة الدائمة للحياة المكرَّسة" (بند 82).

كنيسة فقيرة للفقراء

هذا التعبير المشهور الذي استخدمه البابا فرانسيس، كان بالفعل خياره الأساسي، والذي ظهر باستمرار في كتاباته والنصائح لأنه مقتنع أنَّ "للفقراء المكانُ الأفضل في قلب الله، إلى حدّ أنَّه هو نفسه افتقر"(فرح الإنجيل رقم 197). إنه يريد "كنيسة في حركة خروج ذاتي، مركَّزة على يسوع المسيح، وإلتزام نحو الفقراء. ليحُرّرنا الله من كنيسة دنيوية تتجلبب روحانيات وراعويّات! تلك الدنيوية الخانقة تعالج بتنشق هواء الروح النقي الذي يحُرّرنا من المكوث متقوقعين على ذواتنا، مخبئين وراء ظاهر دينيّ خال من الله. لا ندعنَّ أنفسنا نُسلبُ الإنجيل" ("فرح الإنجيل رقم 97). الإيمان بالمعنى الفكري اليوم لم يعد كافياً. يتطلب الأمر شغفًا بالمسيح، الحماس لإعلان الإنجيل. يجب أن يكون لدينا، نحن الكهنة (والأشخاص المكرَّسين) الوعي بعظمتنا لأننا مدعوون إلى مغامرات الإيمان الرائعة: "روحي تعظم الرَّبّ!".

يقول البابا فرانسيس ذلك بوضوح شديد للرؤساء العاميّن: «الكنيسة يجب أن تكون جذابة. ايقظوا العالم! كونوا شهودًا بطريقة مختلفة في الفعل والعمل والحياة! من الممكن أن نعيش بشكل مختلف في هذا العالم. نحن نتحدث عن نظرة اسكاتولوجيكا، عن قيم الملكوت المتجسدة هنا، على هذه الأرض. وهو أن نترك كل شيء ونتبع الرَّبّ. لا أريد القول "الراديكالية". الراديكالية الإنجيليَّة ليس فقط للرهبان: فهي لكل مسيحي. لكن الرهبان يتبعون الرَّبّ بطريقة خاصة، بطريقة نبوية. أنا انتظر هذه الشهادة منكم. على الرهبان أن يكونوا رجالًا ونساءً قادرين على إيقاظ العالم".

لكن يجب أن نفهم ما تعنيه الطبيعة النبوية: غالبًا ما تكون هناك حالات سوء تفاهم كثيرة، وتحديد الوظيفة النبوية بالنقد المتعصب، والاحتجاج. وفقًا للنص سفر التثنية ١٨:١٥-٢٤ : سأُقيمُ لَهم نَبِيُّا مِن وَسْطِ إخوَتِهم مِثلَكَ، وأَجعَلُ كلامي في فَمِه، فيُخاطِبُهم بِكُلِّ ما آمُرُه به وأَيُّ رَجُلٍ لم بَسمَعْ كَلاميَ الذي يَتَكلَمُ بِه بِاسمْي، فإِنِّي أُحاسِبُه علَيه ولكن أَيُّ نَبِيٍّ اعتَدَّ بنَفْسِه فقالَ بِاَسْمي قَولاً لم آمُرْه أَن يَقولَه، أَو تكَلَّمَ بِاَسمِ آِلهَةٍ أُخْرى، فليَقتَلْ ذلك النَّبِيّ فإِن قُلتَ في قَلبكَ: كَيفَ نَعرِفُ القَولَ الَّذي لم يَقُلْه الرَّبّ؟ فإِن تَكَلَّمَ النَّبِيُّ بِاَسمِ الرَّبِّ ولم يَتمَّ كَلامُه ولم يَحدُثْ، فذلك الكَلامُ لم يَتَكلَمْ بِه الرَّبّ، بل لِلاَعتِدادِ بِنَفْسِه نَكلَمَ بِه النَّبِيّ، فلا تَهَبْه". فالنبؤة تنشأ من تجربة داخلية، رؤية، لقاء مع الرب. هي ليست بختراع شخصي أو رغبة مجنونة من التحدي، بل هو دافع يأتي من الله، من خلال الاستماع إلى كلمته. ولا يمكن أبدًا أن تولد الوظيفة النبوية إلاّ من خلال الطاعة للكلمة، وفي شركة مع الكنيسة التي ولدت وتخصَّب بالكلمة. وبالتالي إذا لم يكن هناك نبوءة، فهذا يعني أنه لا يوجد الاستماع إلى الكلمة، لأن الكلمة كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين: "إِنَّ كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجع، أَمْضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين، يَنفُذُ إِلى ما بَينَ النَّفْسِ والرُّوحِ، وما بَينَ الأَوصالِ والمِخاخ، وبِوُسْعِه أَن يَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه" (4، 12)، أو كما كتب بولس الرسول في الرسالة الثاني إلى طيموتاوس: أَن أَعلِنْ كَلِمَةَ الله وأَلِحَّ فيها بِوَقْتها وبِغَيرِ وَقتِها، ووَبِّخْ وأَنذِرْ والزَمِ الصَّبرَ والتَّعْليم" (4: 3).

هذه هي أولوية الحياة المكرَّسة: "أن نكون أنبياء". أي كما صرّح البابا فرانسيس في مقابلته مع Civiltà Cattolica، «أي أن نشهد أن يسوع عاش على هذه الأرض، ونعلن كيف سيكون ملكوت الله في كماله [...]. أن نكون أنبياء يعني أن نكون خميرة". و"النبيّ -يتابع البابا-يحصل من الله القدرة على كشف التاريخ الذي يعيش فيه وتفسير الأحداث: إنه يشبه الحارس الذي يراقب أثناء الليل ويعرف متى يصل الفجر"يا حارِس، ما الوَقتُ مِنَ اللَّيل؟ يا حارِس، ما الوَقتُ مِنَ اللَّيل؟ فقالَ الحارس: الصَّباحُ آتٍ واللَّيلُ أَيضاً إِن سأَلتُم فآسأَلوا. إِرجِعوا تَعالَوا" (أشعيا 21: 11-12). من الممكن أن نشعر في هذه الحالة "الليلية" بالخراب والضعف ونختبر تجربة الاعتقاد بأنه لا يوجد حلّ. نسأل: "أيها الحارس، ما الوَقتُ مِنَ اللَّيل؟". الحارس يدرك أنَّه الليل، مع ذلك لا يندم عن اليوم الذي مضى؛ يتخذ موقف اليقظة الدائمة، ودون أن يخدع نفسه من الانتقال الفوري من الظلام إلى النور، يستطيع التقاط النور الأول من الفجر.

هذه الصورة الكتابية هي تحذير لأيامنا الحاضرة، لمعرفة كيفية التمييز بين "الليالي" التي تمر بها الكنيسة، واليقظة كي نهرب في هذه اللحظات المظلمة من تجربة حلول سهلة وتوقعات تكتيكية، لا لكي نترك قدرتنا تتلاشى، ونعود إلى الماضي بحنين، لكن للحفاظ على الوضوح اللازم للتعرف على علامات الفجر. يقول البابا فرنسيس: "لا تستسلموا لتجربة العدد والفعّاليّة، وخصوصًا تجربة الاعتماد على القوّة الذاتيّة. اسبروا آفاق حياتكم واللحظة الحاضرة ساهرين. وأكرّر لكم مع بندكتس السادس عشر: «لا تتّحدوا بأنبياء الشؤم الذين يعلنون نهاية، أو لا معنى، الحياة المكرَّسة في كنيستنا اليوم؛ بل البسوا بالأحُرّى يسوع المسيح، والبسوا أسلحة النور كما يدعو القدّيس بولس (روم 13: 11-14) وظلّوا يقظين ساهرين فلنتابع ولنسلك دومًا طريقنا واثقين بالرَّبّ".

وهنا يكمن التحديّ: كيف نكون أنبياء من خلال عيش الكاريزما الخاص؟ بالنسبة للبابا فرانسيس، من الضروري "تقوية الجانب المؤسساتي –الكاريزما- في الحياة المكرَّسة وعدم الخلط بين المؤسّسة والعمل الرسوليّ. فالمؤسّسة تبقى، بينما العمل عابر. وفي الكثير من الأحيان نخلط بين المؤسّسة والعمل. في الواقع، يبقى المبدأ ثابتًا: الكنيسة تريد من كل مؤسّسة أن تحافظ على تراثها الخاص وتبقى مخلصًة لها. فالاندراج في الكنيسة الخاصّة يجب أن لا يعني انصهار الكاريزماتي، بل وضعه في خدمة الكنيسة المحليّة. في الواقع، لا ينبغي مزج بين كاريزما المؤسّسة وأعمالها، مع التفضل داخل الجماعة الكنسيّة إلى النظرة الوظيفية للحياة المكرَّسة، التي ينجم عنها كنتيجة طبيعية، خطر وضع إدارة الأعمال كأولوية عن أسلوب الكاريزما التأسيسيَّة للمؤسّسة الرهبانيَّة، أو ترك النظرة النبوية للحياة المكرَّسة.

أخيرًا أضع أمامكم أيقونتين من الإنجيل المقدّس يمكنهما أن تصفا العلاقة بين العمل الرسوليّ والحياة المكرَّسة. أيقونة المرأة السامرية في البئر والسامري الصالح الذي انحنى على الرجل المصاب عند طريق أريحا. نرى في المرأة السامرية، مثال هؤلاء الذين يبحثون في البداية عن الحياة في تقاليد الأجداد ساعين إلى إعطاء أجوبة لعطشهم والحصول على الماء من آبارهم. أي يجب أن لا نكتفي أن نكونوا تلاميذ كوننا ندرك أنَّ المكان المقدس للقاء مع الله هو في داخلنا ونتحدث عن يسوع لأن الآخرين قد تحدثوا معنا عنه، بل لأننا قابلناه شخصيّا، وقعنا في حبه، وإعلاننا عنه ليس لاقناع الآخرين، ولكن كي يتقاسموا الخبرة الروحية بعميق.

أمَّا في أيقونة السامري، يمكننا التعمّق بدعوة يسوع لعدم التركيز على أنفسنا أو الكمال الخاص بنا، ولكن التركيز على العلاقة مع الآخرين. فالكاهن واللاوي الذين اجتازون طريق أريحا وتجاهلوا المصاب، هم مصابون بمرض العقم؛ يتحدثون بلغة لم تعد تنفع، هم ضحايا لعادات قديمة ميتة، هم تجار خطابات فارغة، هم مهنيون ملحدون في الخطاب عن الله. أمّا السامري هو يمثل المسافر الذي يعلم أنه يجب أن يتوقف وأن ينحني والقيام بأفعال تفوق أعمال إنسانية. هكذا نحن رهبان وراهبات علينا ان نتوقّف أمام ضوضاء الحياة، دموع الإنسان واوجاعه. واجبنا خلق "شبكة سامرية" للتواصل مع الجميع، حتى لو اضطر الأمر إيقاظ ضمائر الإنسانية.

يقول البابا فرنسيس، بمناسبة انعقاد مجمع العام لرهبانيّة "Oblati di San Giuseppe"في القصر الرسولي بالفاتيكان، 31 أب 2018: "أنتم مدعوون لتكونوا في العالم شهودًا لرسالة فريدة وبشرى معزّية: أي أنّ الله يستعين بالجميع ولاسيما بالصغار والفقراء لكي يزرع ملكوته وينمّيه. ليطبع حياتكم وفرحكم على الدوام موقف خدمة يسوع في الكنيسة والإخوة مع اهتمام خاص بالشباب والأكثر تواضعًا. أشجّعكم على الاستمرار في العيش والعمل في الكنيسة والعالم بفضائل الروح القدس والعذراء مريم البسيطة والجوهريّة: التواضع الذي يجذب محبّة الآب، العلاقة الحميمة مع الرب التي تقدّس كل العمل المسيحي؛ الصمت والخفاء، متّحدان بالحماس والاجتهاد في سبيل مشيئة الرب بالروح الذي تركه لكم القديس جوزيبيه ماريلو كشعار وبرنامج: "كونوا رهبانًا في البيت ورسلاً خارج البيت". ليلزمكم جميعًا هذا التعليم الحي في روحكم لكي تحافظوا في بيوتكم الرهبانيّة على جوِّ التأمُّل والصلاة، بالإضافة إلى الصمت واللقاءات الجماعيّة، لأنَّ روح العائلة يعزز وحدة الجماعات والرهبانيّة بأسرها.