موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الخميس، ٢٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٦
الأب د. جمال خضر يكتب: "اللاعنف.. طريقنا نحو التحرر"

بيت لحم - الأب د. جمال خضر :

خاض الشعب الفلسطيني، كغيره من الشعوب التي خضعت لاحتلال أجنبي، طريق الكفاح المسلح. ثم انتقل الى مرحلة المفاوضات للوصول الى التحرر الوطني. وهذا تطور طبيعي نتعلمه من تجارب الشعوب. ولكن المشكلة تكمن في ان لا الكفاح المسلح ولا المفاوضات قادتنا الى التحرر الذي ننشده. فما السبيل الى الخروج من المأزق الذي وصلنا اليه؟ بين الاستسلام والاستمرار في طريق لا تقود لهدفنا الوطني، نختار الطريق الثالث: الصمود واللاعنف.

اختارت العديد من مكونات المجتمع المدني الفلسطيني طريق اللاعنف منذ فترة طويلة. وتشمل هذه الطريق العديد من الفعاليات المختلفة والمتنوعة: من المظاهرات السلمية ضد الجدار والاستيطان، الى العمل على تأسيس البنية التحتية للدولة الفلسطينية وبناء المؤسسات في المجتمع المدني، الى العمل في مجال التعليم والثقافة والتراث، الى العمل الدبلوماسي لتأكيد الحضور الفلسطيني في المؤسسات الدولية، الى عمل المناصرة لشرح واقع الشعب الفلسطيني، والعديد من النشاطات اليومية وليس اقلها الاصرار على الصمود في الارض وعيش حياة نستحقها من خلال النشاطات الحياتية المتنوعة.

ان استخدام الاحتلال للعنف اليومي، بما في ذلك في مواجهة النشاطات اللاعنفية، يريد ان يقنعنا ان اللاعنف لا يؤدي الى نتيجة! وقد تكون حجة من يقولون ان "الاحتلال لا يفهم سوى لغة العنف" مبررة لدى الكثيرين، الا ان خبرة الشعوب تعلمنا ان العنف لا يوصلنا الى النتيجة التي نتوخاها، سياسيا واخلاقيا، وهي التحرر وبناء مجتمع ودولة نستحقها بعد كل التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني. صحيح ان طريق اللاعنف قد تكون طويلة، وان الشباب بطبعهم يريدون تغييرا سريعا في الواقع المرير الذي نعيشه، إلا ان الهدف الذي نسعى اليه وخبرتنا الطويلة في مسيرة التحرر الوطني تستحق منا ان نسلك الطريق الذي يقودنا الى هدفنا.

في دراسة علمية لأكثر من 260 حالة صراع حول العالم، تبين ان اللاعنف يؤدي الى نهاية عادلة للصراع بواقع الضعف عن استعمال العنف؛ كما ان الصراعات التي انتهت بأسلوب اللاعنف تؤدي الى مجتمعات عادلة ومستقرة أكثر. الا تستحق هذه النتائج وقفة تامل ومراجعة في مجتمعنا؟ ان تبني اسلوب اللاعنف يقود الى كفاح يحترم الحياة ويدافع عنها، ولا مكان فيه للموت لاي كان. كفاح توجهه الرغبة في الحياة والعدالة، ولا تحركه الرغبة في الانتقام او الكراهية. واذا كان عدونا يستعمل كل اساليب الموت والاذلال تجاهنا جميعا، فهو ليس نموذجا يحتذى ولا مثالا نقتدي به.

اللاعنف يحترم حياة الانسان، ويحترم كون الانسان، اي انسان، مخلوق من الله، وكرامته من الله الذي خلقه. اللاعنف يعزز هذه الكرامة الانسانية فينا اولا كدعاة حياة وعدالة، وليس ساعين الى الموت والدمار. ومع ان الدفاع عن النفس والوطن هو واجب وحق اخلاقي وقانوني بحسب الشرائع الالهية والدولية، الا ان الحكمة تتطلب منا اختيار الطريق الاسلم للوصول الى الهدف المنشود، سياسيا واخلاقيا، وهو التحرر والاستقلال.

في وثيقة "وقفة حق" الفلسطينية المسيحية، نقرأ: "والظلم الواقع على الشعب الفلسطينيّ، أي الاحتلال الاسرائيليّ، هو شرّ يجب مقاومته وهو شرٌّ وخطيئة يجب مقاومتها وإزالتها... لا نقاوم بالموت بل باحترام الحياة... إنّنا نرى أنّ ما تقوم به منظّماتٌ مدنيّة فلسطينيّة ودوليّة غير حكوميّة، وكذلك بعضُ الهيئات الدينيّة، من دعوة الافراد والمجتمعات والدول إلى مقاطعةٍ اقتصاديّة وتجاريّة لكلّ ما ينتجه الاحتلال وسحب الاستثمارات منه، يندرج في نطاق المقاومة السلميّة. وإنّنا نرى أنَّ حركات المناصرةهذه يجب أن تسير علانيّة وبجدّيّة، معلنةً بصدق وبوضوح أنّ هدفها ليس الانتقام من أحد، بل وضع حدٍّ لشرٍّ قائم، وتحرير الظالم والمظلوم منه، وتحرير الشعبين من مواقف الحكومات الاسرائيليّة المتطرّفة، والوصول بهما إلى العدل والمصالحة. بهذه الروح وبهذا السعي سوف نصل أخيرًا إلى الحلّ المنشود، على غرار ما حصل في جنوب إفريقيا وفي حركات تحرّر كثيرة في العالم".

من ميزات اللاعنف ان المجال مفتوح للجميع للمشاركة في المقاومة، فلا تقتصر على فئة معينة او عمر معين. نفخر دائما بانجازات الانتفاضة الاولى وبمقدرتنا على التضحية والتنظيم ومشاركة جميع فئات الشعب فيها. هذه الانتفاضة كانت في الاساس لاعنفية، وقد حققت ما لم تحققه الانتفاضة الثانية. فذهابنا للسوق واختيار المنتجات المحلية مقاومة لاعنفية، واصرارنا على الذهاب الى اعمالنا ومدارسنا وجامعاتنا كل صباح مقاومة لاعنفية؛ وسعينا للسلم الاهلي وحل المشاكل بعيدا عن العنف الداخلي مقاومة. وعندما نتوجه للعالم على اننا طلاب حياة وكرامة، ستكون رسالتنا مسموعة ومقبولة، لا بل سنجد التأييد والمناصرة، عندما ندعم مقاومتنا للاحتلال باساليب لاعنفية.

قد يشكك البعض بجدوة المقاومة اللاعنفية، وقد يطالب البعض بنتائج فورية، لكن خبرة الشعوب وخبرة شعبنا الفلسطيني تستحق منا تقدير كل الجهود التي تبذل وان ندرس ونناقش بعمق هذه الطريقة التي تحترم انسانية الانسان وتحترم حياته وكرامته، ولا تتنازل عن الحق والعدل. قد يطول الوقت الذي تتطلبه هذه المقاومة اللاعنفية، لكننا نكون اكيدين اننا سنصل لا محالة.