موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الثلاثاء، ٣ مايو / أيار ٢٠١٦
الأب د. بيتر مدروس يكتب: الحشدُ ، "يا ليلى"، يعاتبنا!

الأب د. بيتر مدروس :

الموضوع فرقة "ليلى" التي كانت تريد أن تحيي حفلاً في المدرّج الرّومانيّ في العاصمة الأردنيّة ذات يوم جمعة مؤخّرًا. وهنا أدخلنا تغييرًا على مطلع قصيدة –أغنية- للعملاق وديع الصافي سمحنا فيها لأنفسنا بتبديل غير خطير. يقرأ المرء تعليقات على "وسائل الاتّصال الاجتماعيّة" منها مقال لإحدى الأخوات في إطار "صوت من الأردنّ" تنتقد فيه "تزمّت أبونا وشيخنا" وادّعائهما "الوصاية على البشر".

المسألة مسألة ذوق، ايتها الأخت الكريمة!

لا يدري الداعي إذا كان، كما يقول الفرنسيون، "يصل بعد المعركة"، لأنّ مشروع العرض والصّراع بين حرّيّة معيّنة وقيم وآداب وأخلاقيات مستمر، حامي الوطيس. وأتصوّر أن قدس الأب العزيز رفعت بدر ردّ على التعليقات السلبية. على كل حال، بسهولة وببساطة بالغتين، اعتراضُ قدسِ الأب الإعلامي الألمعيّ رفعت بدر كان أولا وآخرًا على قلّة الذّوق وعدم مراعاة المنظمين من الفرقة – ومنهم على الأقل مسيحي واحد، اسمًا، عدم مراعاتهم على الإطلاق لمشاعر المسيحيين في الأردن الذين يحيون في ذلك اليوم الجمعة العظيمة أو ، بتعبير أفضل، الجمعة الحزينة. ولعلّ أحزان السيد المسيح ووالدته الطهور وتلاميذه وآلامهم في يوم الجمعة الرابع عشر من نيسان القمري سنة 30 للحساب الميلادي أبلغ صورة لمعاناة المسيحيين في الشرق الأوسط وقد بلغ الأمر مجازر وإبادة لهم جماعيّة: هذا معنى الجمعة الحزينة خصوصا في هذه السنين الأليمة. ولا أعتقد أنّ فرقة "ليلى" كانت لتتجرأ – إلاّ إذا أتى الأمر سهوًا، وهذا يدل على جهل لبديهيات حياة الناس الدينية – ما كانت لتتجرأ وتقوم بأي نشاط مثلاً في رمضان قبل الإفطار.

الحرية الدينية

ما اخترعها روبسبيير الفرنسيّ ولا فولتير ولا أعضاء فرقة "ليلى" بل أعلنها على الملا السيد المسيح إذ كان دومًا يخيّر الذين كان يطلب منهم أن يتبعوه : "إذا أردت أن تدخل الحياة... ومن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه... إذا أردتَ أن تكون كاملاً".

والكنيسة الكاثوليكية بالذات نادت خصوصا في المجمع المسكوني الثاني بمبدأ "حريّة الضّمير" أو "الحرّيّة الدّينيّة" الذي يجده المرء، مبنيًّا على الإنجيل المقدّس (من غير إعلان لذلك)، في "الخارطة الدّوليّة لحقوق الإنسان" ، المادّة رقم 18، سنة 1948. وحينها وافقت على هذا البند فقط تونس الحبيب بورقيبه.

أمّا ما يسمّى ب "الحرّيّات الجنسيّة" فهو سلسلة أفكار ونظريات وسلوكيات خطيرة جدا، بسبب "ضعف أجسادنا" وبسبب سهولة الانزلاق في الإفراط أو الرذائل والموبقات وهي مخالفة للوصايا العشر التي هي إرث حضاري أخلاقيّ للإنسانية كلّها، وهي الحصن المنيع والسد الصلب الذي يقف أمام أمواج الشهوات والرغبات الجسدية غير المضبوطة التي تحطّ بالبشر إلى مستويات شهدتها الإنسانية مؤخّرًا أكثر من ذي قبل وكانت علامات تدهور وانحراف وجنوح أنشأت أجيالاً ضائعة يائسة بائسة. (قام أحد الكهنة الأمريكيين الكاثوليك بتقرير شامل عن تدهور الأخلاقيات ونتائجها الوخيمة في نصف القرن الأخير).

العلمانيّة" والعلمانويّة

يميّز قداسة البابا السّابق العبقريّ بندكتوس السادس عشر بين "العلمانية الخلوقة المتّزنة" Laicity التي كان السيد المسيح قدرفع لواءها طالبًا أن "يؤدّي المسيحيون لقيصر ما لقيصر وما لله لله"، وبين العلمانويّة laicism ليس فقط الملحدة (التي يحاورها الفاتيكان أيضًا) بل المحاربة للأخلاق والرافعة عاليًا لواء قلّة الحياء أو عدمه، في حين أنه هو الذي يميّزنا عن الكائنات الحيّة الجسدية الأخرى. وإذا كان أرسطو قد أطلق مقولته الشهيرة، عصارة تفكيره السّويّ : "الإنسان حيوان ناطق" فبإمكاننا أن نزيد، في نفس المنطق: "الإنسان حيوان يخجل". ويذكر المرء في هذا السياق المثل المأثور : "إن لم تخجل، فافعل ما شئت"، شأن سيارة أو طيارة بلا كوابح أو دابّة – أجلّكم الله - بلا لجام.

المدرّج الرّومانيّ

حرصت المملكة الأردنيّة الهاشميّة، منذ أوّل عهدها، على الأخلاقيات والعادات الحميدة والتقاليد البنّاءة. ولا أحسبها وهي تولي المدرّج الروماني شأنه التاريخي والثقافي والحضاريّ والفنيّ ترغب في أن يتقهقر من جديد إلى مستوى الوثنيّة الجاهليّة التي كان شعارها : "بانم إت تشيرتشنسس – ومنها كلة "سيرك" –أي "خبزًا وألعابًا" panem et circenses. ومن تلك "الألعاب" رؤية الوحوش المفترسة تلتهم المسيحيين أو التلذذ بمشاهدة المتبارزين يقتل أحدهم الآخر أي السعادة المَرَضيّة الباثولوجيّة بالموت والإجرام.

خاتمة,

حتّى في الدول ذات "التقليد المسيحي"، هنالك فصل بين الكنيسة والدولة. وفي حياة الشعوب، يميّز كل علماء الأخلاقيات أصول الآداب والوصايا التي تتغلغل أيضًا إلى أعماق القلوب: يميّزونها عن الأحداث الخارجية الاجتماعية التي تؤثّر على الآخرين: سلبًا أو إيجابًا. لا تحكم الدولة على الأفكار ولا على النيات في قانونها القضائي أو الجنائي، فهذه محكمة الضمير الداخلية. ولكن من حقها بل واجبها تنظيم حياة الفرد الذي تقف حّريّته وخيره حالما يدخل آخر، بحرّيّته وضرورة تقديم الخير له.

وطالما ينادي أصدقاؤنا بالحريّة، فليمنحوا متكرّمين رجال الدين أيضًا أن يعبّروا لا عن آراء شخصية فردية فقط بل عن مبادىء اعتنقتها الإنسانية منذ أيام حمورابي على الأقلّ (في القرن الثامن عشر قبل الميلاد) وأنشأت –على علات البشر ونفوسهم الأمّارة بالسّوء- مجتمعات سليمة وعائلات كريمة، لا يخلو أحد فيها من عيب أو نقص، ولكن الضمير والدولة والذوق السليم والحس القويم والانضباط شيّدوا حضارات وسموا بالإنسان الكائن الجسدي الضعيف إلى "طمأنينة النظام" والنظام والترتيب في سبيل "الحياة ، والحياة الوافرة"! (عن يوحنا 10 : 10).