موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الثلاثاء، ١٨ يوليو / تموز ٢٠١٧
الأب بشار فواضلة يكتب: العائلة؛ المعركة التي لا يجوز أن نخسرها!

الأب بشّار فواضله :

عاش الناس منذ القدم في جماعات متجانسة. يتحدّرون كلهم تقريبا من عائلة واحد، ويرتقون إلى أصولٍ واحدة. مع مرور الازمان نشأ المجتمع العصري الذي تخلو ملامحه من التجانس والوحدة. فالذين يعيشون اليوم في محلّة واحدة، لا يؤلّفون وَحدَة من جماعة متجانسة. واتخذ مفهوم العائلة النووية "العائلة التي تشتمل على الاب والام والابناء فقط" مكان العائلة الممتدة "العائلة التي تشمل الأجداد والعمات والأعمام وأبناء العم".

ففي وقتنا الحاضر ماذا تعني لنا كلمة عائلة؟ فلو تسألنا عن قيمتها لما تركناها كنواةٍ تتلاشى! ولما جعلنا منها شعارات نتغنّى بقيمتها المزيّفة! أما زالت تشدُّنا برباطها الروحي؟ أم ملجأً في وقت الألم؟

المعنى الاشتقاقي اللغوي لكلمة "العائلة" أصله من الفعل عال يعول، فهي عائلة أي جماعة، كلّ فرد فيها سَنَدْ ومسؤول عن غيره، تبدأ العائلة طبعًا بمسؤولية اثنين، الأب والأم، ثم إذا كَبِرَ الأعضاء يصبح الكل حامل مسؤولية الكل. وتمتد المسؤولية إلى العائلة الكبرى التي تشمل الأقرباء ومن ينتسبون إلى جدّ أعلى واحد ويتكنّون بكنية واحدة، فيقال: عائلة آل فلان. وهذه المسؤولية المتبادلة هي على أساس ترابط العائلة الكبرى أي الحمولة، للخير أو الشر، فقد تتشكل على أساس الأحلاف أو المخاصمات بين الحمايل، وقد يعلو نفوذها فتؤثر على القوانين العامة المعمول بها سلبًا او ايجابًا وقد تكون في بعض الاحيان باب فساد أو محسوبيات في سبيل أعضاء الحمولة.

ولكن نبدأ بالعائلة النووية او الصغرى والمسؤولين فيها أي الوالدين. يمثل الوالدان صمّام الأمان في العائلة، فهما مسؤولان عن الحياة المادية والروحية لافراد العائلة، وعن غرس مفهوم الانتماء للمجتمع الأكبر الذي هو الوطن. وهما المسؤولان عن التربية التي تهدف إلى المحافظة على القيم الدينية والإنسانية عامة، ومنها أخلاقيات العائلة ومفهوم الزواج، والعلاقات الانسانية والتربية العاطفية، ومسؤولية توضيح وتثبيت هذه القيم في قلوب الأبناء حتى لا يضلّوا الطريق، وحتى يُبقُوا العقل والقيم السليمة دليلًا لهم، لا الاندفاعات الغريزية، وليتسلحوا بالاتزان والثبات الاخلاقي ضد العولمة والغزو الأخلاقي العالمي كما هو حاصل اليوم. ليس الأمر أمر انغلاق في وجه العالم، بل هو تفاعل عاقل ناضج مع كل خير في العالم للأخذ به ورفض كلّ شر فيه واستيعاب حقيقي لحرية الإنسان الأدبية.

تكمن قيمة العائلة في قيمة الإنسان. وقيمة الإنسان من قيمة الله خالقه، وايضًا كرامة الإنسان هي من كرامة الله التي منحه إياها الله في الخلق وكذلك كرامة العائلة هي من إرادة الله الذي خلق الإنسان عائلة، آدم وحواء، خلقه ليملأ الأرض ويتكاثر فيها ويسودها بحبّ مثل حُبّ الله. الحب أوّلًا واخرًا الذي يُبقِي العائلة بجميع افرادها متماسكة مترابطة كما أرادها الله أن تكون. ولهذا فإن خير الشخص والمجتمع يبدأ من العائلة، إذ أنَّ العائلة هي المجتمع الطبيعي الذي وجِدَ قبل وجود الدولة وأية منظمة أو هيئة أو مؤسسة. هي جماعة حُبّ وتضامن، قادرة على أن تنقُل القيم الثقافية والخلقية، والدينية والاجتماعية لأفرادها ومن ثم للمجتمع كله وعليه نستطيع أن نسميها النواة الأساسية لأي مجتمع.

أن تبني مجتمعًا يعني أن تبدأ من النواة. والعائلة هنا هي النواة، وهي المصدر لكلِّ شيء، والطريق المؤدي إلى الخلاص، خلاص البشرية في هذه الأرض، لخلاصها من اي دمار في علاقتها التبادلية مع المجتمع المحيط، ولجعل البشرية عائلة كُبرى تبني وتؤيّد بعضها بعضًا بسلام عاقل عادل ودائم. فعندما أراد الله أن يخلّص العالم تجسّد في عائلة بشرية تُحبّ، وتتكاتف في السراء والضراء، في الصحة والمرض، وتعمل من أجل خير اعضائها ولا تحمل في داخلها مصالح شخصية، وإن أردنا اليوم أنّ نبني مجتمعًا جديدًا قادرًا على تحمّل المسؤولية والسير نحو القمة بلا خوف، علينا أن نبدأ من العائلة، فقيمة المجتمع تعلو وتزدهر عندما يكون للعائلة قيمة، وقيمة المجتمع تندثر عندما تكون الأسرة مفكّكة وضائعة وهنا تبرز مسؤولية الأب والأم، اللذين يلعبان دروًا مهمًا وجوهريا في حياة الابناء. إذ أنَّ الأب هو بوصلة العائلة، هو النموذج الحي في أقواله واعماله، وحتّى في امتداحه لابناءه وانتقادهم لهم يشكل الاب العامل الاساسي في تنشئهم وتربيتهم المستقبلية. والأم هي الحاضنة لكل شيء ومحور البوصلة، وهي النقطة المركزية للعمل والتضحية. فالأم كما يقول حافظ ابراهيم: "مدرسةٌ إن أعددتها اعددتَ شعبًا طيّب الأعراقِ". وبالفعل هي كذلك، هي مدرسة بمسؤليتها ورسالتها الانسانية والتربوية، ينشأ الطفل ويتكوّن في احشائها ويتربى على انسانية يديها ويمشي ممسكًا بيدها.

لذلك يترتب على العائلة التي تسعى الى التقدم والتطوّر، زيادة وعي الاب والأم، اللذين يتحملان مسؤوليتهما في البناء والتربية، والسعي في تكوين الأبناء بالمتابعة اليومية، فيكون البيت صانع رجال ونساء وصانع المجتمع كلّه كما نريده، من خلال العلاقة اليومية واللحظية مع الأبناء والمشاركة معهم في كلِّ شيء، عن طريق الانفتاح والتواصل والنمو بالحكمة والقامة والنعمة.

وأخيرًا، تُعتبر الأسرة الوحدة المركزية للمجتمع المسيحي، وهي في المفهوم المسيحي كنيسة صغيرة، وقد اهتمت الكنيسة بها، إذ يُعتبر الزواج فيها سرًّا من الأسرار السبعة المقدسة، حيث يصبح الزوجان جسدًا واحدًا، ومانحَان للنعمة الواحد للآخر، نعمة الله فيهما، ومن خلالهما في الأبناء والبنات، ثم في المجتمع كله.

نحن اليوم اذ فقدنا معارك كثيرة وكبيرة، فقد خسرنا معركتنا العسكرية والتفاوضية من أجل التحرير والبناء، والأخطر من ذلك أننا اليوم نَمُرْ في مرحلةٍ نفقِدُ فيها القيم، حتى أصبحنا على شفير الهاوية، ولكن تبقى النواة "العائلة"، المعركة التي لا يجوز أن نخسرها. ولذلك على كلِّ بيت أنّ يُحافظ على ذاته لكي يبقى لنا الأمل في العودة إلى القمة من جديد، فالعائلة إن حافظت على قيمِها، إن حافظت على إنسانيتها، وعلى الكرامة والقداسة التي منحها إياها الله، وإن حافظت على الرسالة المكلّفة بها لبناء المجتمع، وكانت متّحدة ومصلّية مؤمنة بالله وبالإنسان، فإنها تستطيع كل شيء وتستطيع أن تصلح كل دمار.

الأب بشّار فواضله
المرشد الروحي للشبيبة المسيحية في فلسطين