موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الثلاثاء، ١٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٧
إميل أمين يكتب: ’إشكالية القدس ومستقبل حوار أتباع الاديان‘

خاص أبونا - إميل أمين :

في الوقت الذي تعمقت فيه العلاقات وتوطدت النقاشات بين أتباع الاديان عامة والاديان الابراهيمية بنوع خاص حول العالم، جاء قرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الأخير، والقاضي باعلان "القدس" كعاصمة موحدة لدولة اسرائيل عطفا على نقل السفارة الأمريكية إلى هناك، ليطرح تساؤلاً عمقاً: "هل يؤذي القرار الامريكي مسيرة الحوار بين أتباع الاديان او يمكن له أن يصل بها إلى طريق مسدود؟ أم على العكس من ذلك يشجع اصحاب الارادة الطبية والنوايا الصادقة من المسلمين واليهود والمسيحيين على المضي قدماً في طريق توثيق العلاقات الانسانية بين الأمم والشعوب، ما يفتح باب الأمل في غد أفضل رغم الغيوم الكثيفة السوداء التي تبعت هذا القرار الأحادي التوجه؟

قبل الجواب يمكننا الاشارة إلى أن قرار ترامب وجه طعنه غير مقبولة وفي توقيت غير معقول لقلوب المسيحيين والمسلمين حول العالم، الأمر الذي ظهر جليا في العديد من التصريحات لدى رجال الدين مسلمين ومسيحيين وكأن هناك إتفاق ضمني بينهم على وحدة الهدف والتوجه.

من عند الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الازهر يبدأ الموقف الرافض لقرار ترامب، ويؤكده الامين العام لمظمة التعاون الاسلامي الدكتور "يوسف بن أحمد العثيمين" والذي يرى أنه قرار يعيق السلام ويستفز مشاعر المسلمين في كل انحاء.

لسنا في باب رصد التصريحات في العالم الاسلامي والذي له في الحق ألف حق أن يغضب ويثور، فالقدس ليست مدينة جغرافية محدودة الفاعلية والتأثير بأطرها الجغرافية التقليدية كالطول والعرض والمساحة، بل هي مدينة المدائن وزهرتها، مدينة المقدسات، مدينة تسكن سويداء القلب عند المسيحيين كذلك، ولهذا بدا وكأن هناك انتفاضة مسيحية في العالم شرقاً وغرباً تلتقي في النغمة والتوجه مع شركاءها في العام الاسلامي.

من قلب القدس علا صوت المقدسيين منددين ورافضين وفي المقدمة منهم كان صوت المطران "عطا الله حنا" رئيس أساقفة سبسطية للروم الارثوذكس والذي أعلنها صريحة "نرفض الاجراءات والقرارات الأمريكية المعادية لشعبنا الفلسطيني، والتي لن تزيدنا إلا ثباتا وتمسكاً ودفاعاً عن قدسنا ومقدساتنا واوقافنا".

ومن قلب مصر المحروسة، كانت الكنيسة القبطية تعرب عن قلقها وتؤكد على أنها تقف في صف الجهود الرامية إلى دفع عجلة السلام، وتدعو للسير في طريق التفاوض كسبيل أمثل لإقرار الوضع العادل الذي يتوافق مع الحق التاريخي لمدينة القدس.

في هذا السياق يمكن القول أن المشرقيين العرب مسلمين ومسيحيين من الطبيعي أن ترتبط موجة ارسالهم بتردد واحد، ويصطفوا معًا وراء رفض الظلم الواقع على القدس، منكرين مسيرة التهويد هذه للمدينة المقدسة، غير عابئين بالتوجهات والقرارات الأمريكية، مهما يمكن من شأنها في الحال والاستقبال، الأمر الذي يعني أن الأزمة قربت أكثر، وأن المواجهة جمعت ولم تفرق، كما أن سياقات الاحداث على ألمها وحزنها، وطدت العزم على التحاور والاتفاق عرضًا عن الانفرادية والافتراق، وليس بعد المدينة المقدسة من "حجر زاوية" ينطلق منه حوار المتألمين والمظلومين في مواجهة الغي الاسرائيلي السادر، المرتكز على القوة.

غير ان ما رأيناه من قبل المؤسسة الكاثوليكية، وما صدر عن الحبر الاعظم البابا فرنسيس، ومعه أركان الكوريا الرومانية، عطفًا على مواقف رؤساء أساقفة كاثوليك في أوروبا هو ما يدعو لاعتبار أن محنة ترامب تجاه القدس، ربما هبطت من السماء كمنحة لاتباع الاديان لتوحيد جهودهم في طريق مستقبل أكثر عدالة.

من حاضرة الفاتيكان، كان الجالس سعيدًا على كرسي مار بطرس البابا فرنسيس وقبل ساعات من إعلان ترامب قراره الأحادي الذهنية والتوجه، يصرح في مقابلته العامة بالقول: "لايمكنني أن أكتم قلقي الكبير حيال الوضع الذي نشأ في الأيام الأخيرة حول القدس". ويضيف "أوجه نداء" من القلب حتى يلتزم الجميع باحترام الوضع القائم في المدينة بما يطابق قرارات الامم المتحدة ذات الصلة.

أمام ألوف المؤمنين يقطع الحبر الاعظم بأن "القدس مدينة فريدة، مقدسه لليهود والمسيحيين والمسلمين الذين سيصلون فيها، كل في المواقع المقدسة لدينه، ولها رسالة خاصة من أجل السلام".

كلمات البابا تمثل لسان حاله وكأنه يساءل الرئيس الأمريكي: "لماذا تضحى القدس يهودية فقط وفي خلفيته التاريخية مواقف عديدة للكنيسة الكاثوليكية رفضت فيها إنفراد اسرائيل بمقدرات زهرة المدائن"، وطالبت بأن يكون لها أبدًا ودومًا "وضع خاص" وكأنها "مدينة دولية"؟، وإن تركت الأمر للمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، مع الالتزام بالشرعية الدولية، والقوانين والمعاهدات الأممية، عطفًا على اتفاقية جنيف الرابعة.

حكمًا كانت مواقف بابا الكاثوليك الذي يمارس أبوة روحية لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون حول العالم، دافعاً للمزيد من الاقتراب لا الابتعاد عن العالم الاسلامي، وهو العائد حديثًا من "ميانمار" متفقدًا مسلمي الروهينجا، الذين يعانون من الاضطهاد والتمييز العرقي والديني هناك.

مشتهى قلب الأب الاقدس أجمله في عبارة رائعة على بساطتها: "أرجو من الله أن يتم الحفاظ على هذه الهوية وترسيخها بما هو لصالح الارض المقدسة والشرق الاوسط والعالم أجمع، وأن يتم تغليب الحكمة والحذر لتفادي زيادة عوامل توتر جديدة إلى مشهد عالمي تسوده بالاساس الاضطرابات ويهزه العديد من النزاعات الضارية".

ومن الفاتيكان إلى نيويورك، حيث الامم المتحدة، كان المطران "سيلفانو تومازي" عضو الدائرة الفاتيكانية المعنية بالتنمية البشرية المتكاملة، ومراقب الكرسي الرسولي الفخري لدى الامم المتحدة يؤكد على ان موقف الكرسي الرسولي حيال المدينة المقدسة هو الموقف نفسه الذي تؤيده المنظمة الاممية، ألا وهو الدعوة إلى قيام دولتين مستقلتين تعيشان جنباً إلى جنب، وتتمتعان بالحقوق نفسها.

المطران "تومازي" كذلك كان يشدد على أن تبقى المدينة مفتوحة أمام أتباع الديانات السماوية الثلاث... لغة الرجل هنا تكاد تظنها صادرة من قلب العالم العربي سيما حين يتوجه بالنقد للرئيس ترامب بقوله: "إن إعتبار القدس عاصمة لدولة اسرائيل فقط يزيد الاوضاع تعقيداً، ويتعارض مع المواقف التي تخطى بدعم منظمة الأمم المتحدة والكرسي الرسولي على حد سواء".

قربت "القدس" من المسلمين والمسيحين في الشرق والغرب، بدون تهوين أو تهديل، وفتحت مسارب من الأمل في حوار جدي عميق، انساني، فاعل، ونافذ، ففي وسط أجواء الازمة، كان قاضي قضاة فلسطين، مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينية والعلاقات الاسلامية، "محمود الهباش"، يلتقي أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان ورئيس الوزراء "الكاردينال "بيترو بارولين"، ويبحث معه آخر التطورات المتعلقة بمدينة القدس، والتداعيات الاخيرة لقرارات ترامب.

وحدة التوجه جمعت قاضي قضاة فلسطين مع رئيس وزراء الفاتيكان، إذ ذهب الأول إلى أن الإجراءات الامريكية تضع المنطقة على صفيح ساخن وتمهد الطريق لتدهور الاوضاع في المنطقة بطريقة ماساوية لا يمكن التنبؤ بعواقبها، فيما أشار الثاني إلى أن مثل هذه الخطوة ستشكل خطرًا على الاستقرار والسلم في العالم، وأنها تعني موت حل الدولتين وموت عملية التسوية، مشددًا على دعم الكرسي الرسولي الكامل لتوجهات القيادة الفلسطينية.

تقتضي الموضوعية والمصداقية الإشارة إلى بعض الأصوات اليهودية التي أبدت قلقًا عميقًا من قرار ترامب، داخل اسرائيل، وفي الولايات المتحدة ذاتها.

في الداخل كان الكاتب الاسرائيلي "أورلى ازولاي" يكتب عبر صحيفة "يديعوت أحرونوت" وبتاريخ 5 ديسمبر الجاري يقول: "ليست هدية لاسرائيل، بل برميل بارود متفجر"، وبالطبع كان يقصد قرار ترامب الذي ظنه ولا يزال أفضل هدية من رئيس أمريكي لشعب إسرائيل، وعنده أن إعلان ترامب حول القدس سوف يدفع الشرق الأوسط ، نحو فتراته الأسوأ.

رؤية "ازولاى" تقوم على أن الاعتراف بالقدس موحدة، سوف يؤدي إلى إبعاد الشريك الفلسطيني عن طاولة المفاوضات، بعد أن أمن الفلسطينيون، والكثير من العرب بأن ترامب بالذات سيكون قادراً على إحلال السلام.

تكاد نبرة الرجل هنا تتوافق مع رؤى المسيحيين والمسلمين شرقاً وغرباً من جديد أيضاً، ما يعنى أن الحوار ينشد المحاورين والمتحاورين وأنه لم يقض عليه، بل ربما جاءت إشكالية القدس لتعطيه قبل الحياة ومن جديد.

أما في الداخل الأمريكي فقد وجه "جيريمي بن آمي" رئيس جماعة "جى ستريت" أى الفرع اليهودي المنشق على الأيباك أكبر جماعات الضغط في الداخل الأمريكي ، رسالة ليهود العالم يحذر من هذا النهج، الذي سيوقع أكبر الخسائر المستقبلية بيهود إسرائيل خاصة، وبقية يهود العالم، ناهيك عن أضراره بسمعة أمريكا التي لم يعد أحد يثق في صدقية توجهاتها.

حكماً هذا وقت الحوار والجوار بين من ينشد الحق والعدالة يهودي كان أو مسلم أو مسيحي، وقد صدق أحدهم حين قال ليست القدس أورشليم قضيتنا بسبب كنيسة القيامة، ولا بسبب المسجد الأقصى، فللكنيسة والمسجد رب يحميهما، ولا لأنها لها ما تمثله من قيمة مطلقة روحياً كأرث لأبناء أبو الآباء إبراهيم الخليل.. القدس قضيتنا بسبب إنسانها الفلسطيني المظلوم مسلم، مسيحي، وحتى يهودي، فالسكوت على الظلم أذية لليهود أيضاً، قضيتنا بسبب صلب مواطنيها الدائم وهم أحياء، صلب دائم لم ينقطع من تاريخها وحاضرها.

القدس قضية حوار لأنها معيار الضمير منذ النكبة البولفورية إلى النكسة الترامبية.. القدس قضيتنا.. قضية البشر لا الحجر.