موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٩ مارس / آذار ٢٠١٨
إميل أمين يكتب لأبونا: ’سانت إيجيديو... 50 عام حوار من أجل السلام‘

إميل أمين :

"إن المسيحي، من خلال دعوته هو أخ لكل انسان بالاخص إن كان فقيراً أو عدواً" بهذه الكلمات تحدث الحبر الاعظم البابا فرنسيس نهار الأحد الحادي عشر من مارس آذار الجاري، اثناء زيارته إلى "سانتا ماريا" في تراستيفيريه "في وسط روما، وذلك في مناسبة مرور 50 عاما على تاسيس جماعة "سانت إيجيديو" هذا الاسم الذي يتردد كثيراً في الحياة السياسية والاجتماعية، الاعلامية والخيرية، في ربوع أوربا والشرق الاوسط وبلاد أفريقيا، وكذ أمريكا اللاتينية بنوع خاص.

يعن لنا التساؤل ماذا عن تلك الجماعة التي تعمل عبر خمسة عقود لتوطين السلام وطرد الخصام من العالم؟ ولماذا باتت على هذا النحو من الأهمية في الحياة المعاصرة؟

المؤكد أنه لا يمكن تقديم جواب شاف واف قبل العودة إلى عقد الستينات بنوع متميز، ففي ذلك الوقت عاشت الكنيسة الكاثوليكية نهايات زمن انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، والذى كان بمثابة نقلة فكرية وروحية في تعاطي الكنيسة مع المؤمنين من غير الكنيسة الكاثوليكية، وكذا مع غير المسيحيين حول العالم، ويمكن تلخيص رؤية المجتمع للبشرية بانها شرعت الابواب واسعة للحوار والجوار، للتلاقي والاقتراب من الآخر، وها هي تمضى في إثره حتي الساعة، حاملة رغبة جذرية في أن يكون الحوار أداة للوصول إلى السلام حول العالم.

من هذا المنطق يمكن القطع بان جماعة "سانت إيجيديو" نشأت في ظل حاضنة فكرية إيمانية خلاقة، أنطلقت جذوتها في نفوس طلاب المدارس الثانوية عام 1968 في إيطاليا.

كان الهدف الرئيسي لها تعزيز السلام في نفوس وقلوب وعقول شعوب العالم، ولم تكن أوربا بعيدة في ذلك الوقت عن حرب عالمية طاحنة تعلم منها الجميع درساً مفاده أن السلام ثمنه عظيم ويستحق أن يبذل الجميع في سبيله كل مرتخص وغال، وبالاضافة إلى دورها الرئيس في نشر السلام، كانت تقدم مساعدات إنسانية فعالة، وتقوم على برامج لتعليم الفقراء، ومن ثم تاهيلهم للعب أدواراً اساسية على الصعيدين الدولي والاقليمي.

على أن علامة الاستفهام في هذا المقام: "ما الذي ميز ولا يزال طريقة "سانت إيجيديو" في القيام بدور الوساطة اللازمة لنشر السلام حول العالم وانهاء الخلافات والخصومات داخل الدولة الواحدة، وبينها وبين غيرها من الدول؟

تمضي "سانت إيجيديو" التي أمتدح عملها الامين العام الراحل للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي في طريق تعميق الحوار مع الآخر ليكون مدخلاً اساسياً في بناء أرضية قوية من الثقة المتبادلة تمكن الجميع من القفز فوق ظلامية اللحظات الحاضرة.

تسعى "سانت إيجيديو" في طريق العلاقات الشخصية وفهم ثقافة الأطراف المتحاربة، ثم النهج الحذر الصبور في الاقتراب من الازمات، والتعامل الشخصي الانساني القريب واللصيق من القائمين على القرار، الأمر الذي يمكن فعلاً وقولاً من القفز على الواقع المؤلم الذي يشمل عالمنا.

لعبت "سانت إيجيديو" دوراً بارواً على صعيد الكنيسة الكاثوليكية، حتي انها أطلق عليها "أمم متحدة الفاتيكان" والسبب في ذلك قدرتها على حشد أتباع لها من جميع أرجاء العالم، من كل الاديان والجنسيات، الاعراق والمذاهب.

نجحت "سانت إيجيديو" في وساطات سلام عديدة في افريقيا كما الحال في بوروندي، وفي منطقة البلقان التي شهدت حروباً أهلية طاحنة، عطفاً على ساحل العاج وليبريا، وفي امريكا الجنوبية في جواتيمالا، ولم يكن العالم العربي بعيداً عنها، ففي زمن السنوات العشر التي عاشتها الجزائر في حرب أهلية مع الارهاب، كادت جهودها تنجح لولا تأجيج نيران الفتنه ضد الجماعة من قبل دول أجنبية، فيما كان النجاح الفائق لها في السلام الذي حل في موزمبيق، ويقول الراسخون في العلم أن كثير من المؤسسات السياسية الدولية الكبري لا تفضل لسانت إيجيديو مثل تلك النجاحات لاسيما أنهم تختصم منها الشئ الكثير.

والمؤكد ان اعمال هذه المنظمة الخيرية، ونشاطاتها للدفاع عن حقوق المهمشين والمبادرات في حل النزاعات متجذرة في اصولها الروحية بوصفها جماعة صلاة وزماله، ولهذا يصف قادة المنظمة أنفسهم كاصدقاء، ويعزون كثيراً من نجاحهم للفلسفة الاساسية ونهج المجموعة.

يصف "أندريا ريكاردي" الأب المؤسس لمنظمة "سانت إيجيديو" الحرب بانها سبب كل الفقر، فهي تجعل الجميع فقراء، حتي الاغنياء، ولهذا تسعي للحوار بين أتباع الاديان كآلية مهمة للتفاهم الخلاق الذي يتجاوز العداوات الشخصية، وهي تؤمن في كل الاحوال بأهمية التآزر بين الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والحكومية، ولا يوجد لديها صيغة موحدة لصنع السلام، كما يرى وسطاء "سانت إيجيديو"، وان كانت بعض الاستنتاجات يمكن استخلاصها من تجربة الجماعه، وعلى وجه الخصوص دورها الرائد والناجح في موزمبيق والتي تقول بان التفاهم الثقافي بين الأطراف المتنازعة، والذي يختلف بالطبع من صراع إلى صراع، أمر حاسم للنجاح.

تعرف طريقة "سانت إيجيديو" في العمل بانها تمتنع عن ممارسة الضغط على الاطراف أو وضع الانذارات، ولذلك لا يتم استخدام نهج التهديد، وتعتمد على شبكتها الواسعه من الاتصالات والعلاقات بين الأديان والمكتسبة خلال أكثر من عشرين سنة من التعامل في الحوار بين الأديان العالمية الكبري، بالاضافة إلى الاجتماع الدولي السنوي بين الاديان للصلاة من أجل السلام، والذي يعقد عادة كل عام في سبتمبر ويحضره أكثر من 400 من قادة الاديان من مختلف أنحاء العالم.

غير بعيد منا كذلك الدور الانساني الخلاق الذي تقوم به "سانت إيجيديو" في خدمة المهاجرين الفارين من الحرب في العراق وسوريا بنوع خاص، وفي ذلك يتصدون ويتحدون لموجات العنصرية والميل إلى اليمين المتطرف وقد جاءت الانتخابات البرلمانية الاخيرة في إيطاليا لتدق أجراس الخطر تجاه عنصرية فاشية تكاد تنمو في إحشاء أوربا عامة وإيطاليا يخاصة من جديد.

في لقاء البابا فرنسيسى بالجماعة قبل بضعة أيام كان يدعوهم للتحلي بقلب منفتح أمام الجميع، من دون أي تمييز، فيما كانت نصيحته الرئيسة لهم: "لا تخافوا أمام قوى الشر"، مضيفاً ان العالم اليوم غالباً ما يسكنه الخوف... أو الغضب الذي هو شقيق الخوف، وحتي لا نشعر بالخوف- يقول البابا – امام قوى الشر، وحتي نحمي ذاتنا من "الايديولوجية" ونتحرر من تنمير الخوف، علينا أن نحب قراءة الكتاب المقدس على الدوام.

تلقى "سانت إيجيديو" في خمسينيتها إهتمام العالم برمته، الأمر الذى تجلى في البرقية التي ارسلتها المستشارة الالمانية "أنجيلا ميركل" لرئيس الجماعة الحالي "ماركو ايمبالياتسو" وقالت فيها "لقد وضعتم ضواحي العالم في المركز".

وفي كلمات للمؤسس اضافت:" أيها العزيز البروفيسور ريكاردي، عندما اسست الجماعة عام 1968 وكنت في سن الـ18 بالكاد، إلى جانب زملاء من طلبة الثانوية، كانت أوربا والعالم كله تمر بمرحلة تحول اجتماعي عميق، وتابعت: "أراد كثيرون العمل لجعل العالم مكاناً أفضل. لقد سرت أنت أيضاً على هذه الطريق ونجحت".

لماذا "سانت إيجيديو" اليوم علامة على الطريق؟

المؤكد انه ان كان رجالات ونساء سانت ايجيدو اليوم معروفون دولياً، فلان التزامهم في العالم يتحدث عنهم، حيث سيرتهم على السنة رجال ونساء من ديانات مختلفة تمضى باحترام كبير، لما بذلوه ويبذلوه كل يوم للانتصار على الذات وتمهيد طرق الحوار حول العالم بعزم لا يلين وحزم لا يهن.

تقدم "سانت إيجيديو" اليوم للعالم نموذجاً من شمولية التضامن، فمستقبل العالم كما أشار الأب الاقدس يكمن في العيش معاً، وهذه المثالية تتطلب التزاما ببنيان الجوار والمحافظة على حوار متفتح والمثابرة على ملاقاة الآخر.

وفي كل الاحوال تبقى، "سانت إيجيديو" ععلامة على الرجاء الحي والتواصل الانساني في زمن باتئ فيه اليأس يخيم على سماوات العالم، والقطع بين الأمم والشعوب هو السمة الغالبة، والقطع بين الأمم والشعوب هو السمة الغالبة، تلك المرحلة التي تعقبها الحروب وتتولد من وراءها الكراهية، وتشتعل يزان الاصوليات.

دور "سانت إيجيديو" يحتاج للدعم حول العالم لاسيما فيما يتصل بالحوار، سيما وانه حوار يستجيب لأعمق أسباب المحبة والتعايش، صداقة المؤمنين يجب أن تقف في وجه الصعوبات والاختلافات الواضحة، في ظل وعي على انه لا يوجد بديل عن الحوار، وبذلك يصبح قطباً لجذب جميع الذين يبحثون عن عالم أكثر عدالة وأشمل إنسانية.

الخلاصة: جماعة "سانت إيجيديو" جماعة نافذة عبر مبادئها الإنسانية وقادرة على تصويب أخطاء السياسة العمياءٍ، ولهذا يبقى لها مستقبل عميق من العمل البناء بين مختلف الأمم والشعوب.