موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣١ يناير / كانون الثاني ٢٠١٧
أدب الاختلاف

د. آية عبدالله الأسمر :

أعزائي القراء...

جئت اليوم لا كي أنوح على أسطوانة الغاز ورغيف الخبز، أو أطالب بقطع يد السارق وطرد الفاسد، ولن أعدد في قائمة طويلة لا تنتهي ما نعانيه من مشاكل مفصلية ومواطن خلل نعاني منها في مختلف مناحي حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية والتربوية والفكرية، كما أنني لن أتحدث عن سوريا والعراق أو عن فلسطين ولا حتى عن الصومال.

جئت اليوم بهدف الحوار وبقصد التحاور معكم.

من الواضح جدا ومن خلال متابعتنا المستمرة لما يحدث على الساحة الوطنية بل والساحة المحلية، أننا ما زلنا نفتقد إلى آداب الحوار وفن الاختلاف، وما زلنا عاجزين عن التحاور معا بصدر رحب وأفق واسع وفهم جاد ووعي عميق.

لا أكتب مقالي هذا للتنظير على أحد، ولا أجرؤ في معرض كلامي على إصدار الأحكام، لأسباب عديدة أهمها أنه أمر خارج نطاق اهتماماتي كما أنه ليس من صلاحياتي، إنما أكتبه لأن الرسالة هنا واضحة وغاية في الأهمية.

لماذا ننزلق عادة كمحاورين إلى قاع الغضب والشتم بل والتقريع والتجريح أثناء الحوار أو أثناء التعليق على موضوع أو فكرة أو مقال؟

ولماذا نقفز من على منصّة التعليق على الموضوع وفكرته، أو المقال ورسالته، إلى حلبة التطاول على شخص الكاتب وفكره وانتمائه ودينه وأخلاقه ومصداقيته، بدلا من أن نُقيّم الموضوع المطروح تقييما موضوعيا، وننقد أفكاره نقدا محايدا وهادفا بغية تلاقح الأفكار واستمرارية التجديد؟

لماذا أصبح التخوين والتكفير أسهل مفاتيح الانتصار الوهمي إرضاء لذات منتفخة بالأنا والوهم حد الورم والمرض؟

لماذا وبالرغم من كل ما نرتديه من مظاهر التقدم والانفتاح، وكل ما نعتمره من مؤشرات التطور والتكنولوجيا، إلا أن أرواحنا قابعة ما زالت في قمقم رفض الآخر وإقصائه، وتشويهه واغتياله، وتخوينه وتكفيره؟

لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية!

إن لهذه الظاهرة السلبية دلالات مهمة ومؤشرات خطيرة علينا أن لا نتجاهلها أو نغفلها!

عندما نرفض أن نتحاور فكيف سنتمكن من أن نحاور الآخرين بلغة يسهل على المتلقي استقبالها وفهمها ناهيك عن تقبّلِها والاقتناع بها؟

إذا كنا عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا بصوت واحد وبكلمة واحدة، وإذا كنا لا نستطيع أن نكتب مرافعتنا بخط واحد وبقلم واحد، فسنخسر دائما كل قضايانا.

لمَ هو هذا العداء المتوحش لأي نقد يوجّه لنا؟

ولمَ هذه المخالب والأنياب التي نغرزها في وجه أي ناقد أو ناصح أو حتى صاحب وجهة نظر مغايرة؟

لمَ نُصِرّ على التشبث بالتعنّت أثناء نقاشاتنا وطرحنا لمختلف المواضيع؟

ولمَ كل هذه السلبية المقيتة أمام كل فكرة وليدة أو منهجية جديدة؟

وما الفائدة المرجوة من العصبية المقيتة لآرائنا حتى وإن كانت خاطئة ولأفكارنا حتى وإن كانت قاصرة؟

ما جدوى التقوقع في صومعة الفكر الواحد والرأي الواحد والعنجهية البلهاء والعناد البغيض غير المبرر؟

لماذا لا أُحاوِر وأتحاور وأُحاوَر؟

لماذا لا أنتقد –نقدا بناءا هادفا- ولماذا لا أُنتقد كذلك؟

لمَ لا نُقنع ونَقتنع؟ ولمَ لا نُعلّم ونتعلّم؟

لمَ لا نناقش قضايانا بعيدا عن الصراخ والصراع، بلا خصومة أو مهاترات؟

فنتجادل بدون تهكم وازدراء، ونتخاطب بلا قبلية وعصبية!

أين المنطق والعقلانية في إصرارنا على تجاهل أي منطق آخر وإلغاء كل عقل آخر؟

إن الرأي الآخر يمثل فكرا آخر وتجربة أخرى، حتى وإن كان يمثل اتجاها آخر وتيارا مغايرا، فهو في النهاية يضيف إلى مخزوننا الفكري شيئا ما، و يغني حصيلتنا الثقافية والفكرية ببعد جديد ورؤية مختلفة.

إن كنت أختلف مع مبدئك السياسي أو أتبناه، أحب القائد الشهيد صدام حسين أو أكره الطاغية الدكتاتوري صدام حسين، أمجد قومية عبد الناصر أو ألعن إلحاده واستبداده، أرى في بقاء النظام البعثي وحدة سوريا أو أتمنى أن يخسف الله الأرض بهذا النظام العلوي البغيض، أؤيد الحكومة وأبارك قراراتها أو أعارضها وأشجب تشريعاتها وإستراتيجيتها!

إن كنت داعما لرفع الأسعار باعتباره ضرورة ملحّة من أجل إنقاذ الموازنة من العجز المحدّق بها، أو كنت رافضا له مولي الأولوية لفتح ملفات الفساد واتخاذ قوانين أكثر صرامة وشفافية في محاسبة ومعاقبة اللصوص المتآمرين وتتبع بؤر الفساد والإطاحة بها!

إن كنت مؤمنا بالقصيدة العمودية المقفّاة أو كنت من أنصار قصيدة النثر!

إن كنت مسلما أو مسيحيا، سنيا أو شيعيا، بروتستانتيا أو كاثوليكيا!

إن كنت يساريا أو يمينيا، إن كنت من الشمال أو من الجنوب، من الضفة الشرقية أو من الضفة الغربية، من حركة فتح أو من حركة حماس، مع الجمهوريين أو مع الديمقراطيين، أؤيد الرأسمالية أو أنادي بالاشتراكية!

هذا لا يمنع إطلاقا أن أستمع برويّة وبصدر رحب إلى الرأي الآخر والحزب الآخر والاتجاه الآخر والثقافة المغايرة والتيار المعاكس، فأفكارنا تحتمل الخطأ والزلل وقابلة للتغيير والتصويب، وخبراتنا قد تكون قاصرة وبحاجة إلى النمو والنضج.

دعونا فقط ننفض غبار الصلف والعناد والتعصب عن خلايانا الفكرية ونفتح مسامنا الذهنية للهواء والحرية والرؤى والأفكار، دعونا نتطهر من وحل الدُغماتية ونغسل عيوننا القابعة في كهوف الأنا والرأي الواحد واستنكار الآخر بنور الرأي الحر وتعددية الفكر ومبدأ الحوار المفتوح.

علينا أن نجري عملية جراحية راديكالية لاستئصال جذور الجهل والاستبداد الفكري التي تربطنا وتشدنا إلى جذور الرجعية والتخلف، وأن نثور على ديكتاتورية الفكر فينا، ونقلب أنظمة الحكم الأنانية التي تحكم آراءنا وأفكارنا ومنظومتنا الثقافية العقائدية برمتها.

ولنتذكر مقولة فولتير الشهيرة: «قد أخالفك الرأي، ولكنني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمنا لتقول رأيك»...